في حوار نادر.. بيرم التونسى: «شعر إيه اللى أقوله والناس كلها أميين؟»
- أنا وأبويا مولودان فى مصر و«جدى الأعلى» من تونس
- خرجت من «أولى تحضيرى» وتعلمت القراءة من «جزء عم»
- قرأت أمهات الكتب من مكتبة ضخمة باعها الورثة بعد وفاة صاحبها
- قصيدة عن الملك فؤاد نفتنى فى فرنسا 12 سنة.. ورجعت «من غير إذن»
فى مارس 1960، جلس الشاعر الكبير بيرم التونسى أمام الإذاعية القديرة آمال فهمى، فتحدث كما لم يتحدث من قبل.
استرجع أيام الطفولة، هناك فى «دكان البقالة»، الذى فتحه على الطراز «الجريجى»، وكشف عن كيف تعلم القراءة من «جزء عم»، وقرأ أمهات الكتب من مكتبة ضخمة باعها ورثة بعد وفاة صاحبها.
تطرق إلى سبب تفضيله الزجل على الشعر، وحكى قصة القصيدة التى كتبها عن الملك فؤاد وأهل بيته، فتسببت فى نفيه خارج مصر لمدة 12 سنة كاملة، قبل أن يعود إليها «من غير إذن».
كل هذا وأكثر تجدونه فى هذا الحوار الإذاعى النادر، الذى نقدمه لكم فى السطور التالية.
آمال: أهلًا وسهلًا يا أستاذ بيرم.
بيرم: ألف أهلًا بيكى يا ست آمال.
آمال: كل سنة وأنت طيب.
بيرم: وأنتِ بالصحة والسلامة.
آمال: أنت من تونس يا أستاذ بيرم؟
بيرم: جدى الأعلى اللى من تونس. أنا اتولدت هنا ووالدى اتولد هنا.
آمال: كان بيشتغل إيه والدك؟
بيرم: عنده مصنع حرير أنوال يدوية.
آمال: اسم «بيرم» ده معناه إيه يا أستاذ؟
بيرم: الاسم أصله تركى.
آمال: يعنى إيه كلمة «بيرم» نفسها؟
بيرم: معناها «عيد» ويسمونه فى إيران. حتى فى اللغة الفرنساوية معروف لغاية دلوقتى.. «بيرام».
آمال: عمرك كام سنة؟
بيرم: سبعة وستين.
آمال: ربنا يديك الصحة.
بيرم: يبارك فيكِ.
آمال: اتعلمت لغاية سنة إيه؟
بيرم: سنة أولى.
آمال: أولى إيه؟
بيرم: أولى تحضيرى، هى سنة واحدة كلها اللى قعدتها.
آمال: وبعدين؟
بيرم: ولا قبلين مات والدى وقرايبى ماهتموش إنى استمر فى المدرسة، لأن هم أصلًا ما كانوش يعرفوا يقروا ولا يكتبوا، والذهاب للمدرسة مكنش ضرورى أوى.
آمال: عملت إيه؟ عشت إزاى؟
بيرم: اتعلمت القراية والكتابة. كنت بقرا الكتب الصغيرة اللى أقدر عليها. كان ممكن أقرأها يعنى. السبب اللى خلانى أقرأ أوى جزء «عم». الجزء ده هو اللى كان نفعنى وخلانى أقرأباستمرار وبسهولة.
آمال: فى أول حياتك اشتغلت إيه؟
بيرم: فتحت دُكان بقال.. إيه رأيك؟ كنت بنافس واحد جريجى فى الحى عندنا، وكان مبخر دكانه بـ«البلانيطة» عارفة «اللاكردة» و«الكسكمرى»؟ السمك المجفف اللى بييجى من اليونان. كنت بحسده، لأنى كنت أشوف البقالين العرب فاتحين جنبه، الواحد منهم قاعد وحواليه شوية أفف متبعترة فيها فول وعليها شوية عدس متلخبطين، ودى متعاصة فحم، ودى السجاير طالعة منها، وحاجة كرب.
عشان كده عملت دكان على طراز دكان الجريجى، بس الناس كانت تفوت على وأنا واقف صغير مكنتش أملى عينهم. واللى كان ييجى على يشترى من عندى ييجى يشترى «نشوق»، بس ٦ سنين يعتبر ناجح.. طفل لسه ٦ سنين.
آمال: وبعدين؟
بيرم: لأسباب مجهولة كنت أسيب كل شىء وأقعد أقرأ فى كتاب.
آمال: فى كل مرة يا أستاذ «بيرم» قعدت معاك، خاصة فى شهر رمضان، أسمع منك حكايات تدل على أن حياتك فيها يعنى صور عجيبة. أنا سمعت مثلًا إنك اتنفيت، ممكن تحكيلنا بقى بعد ما قفلت دكان البقالة اللى أنت كنت فيها، النقلة اللى خلتك بعد كده؟
بيرم: أقولك بقى كان عندى بيت بعته، وكنت متعبى من الكتب الضخمة اللى قريتها، من الكتاب أبو تعريفة لكتاب «الأغانى» لكتاب «نفح الطيب» لكتاب «المقتبس فى أخبار الأندلس».. ما خلتش.
ساعدنى إن واحد كان شارى يجى ٧٠ لـ٨٠ كتابًا من الكتب الغالية وتوفى لرحمة الله، وأهل بيته باعوا التركة بتاعته، والكتاب أبو ٢٠ جنيهًا بقى يتباع بـ٥ صاغ فاشتريته. نفعتنى أوى المكتبة دى.
طلعت حضرت الثورة سنة ١٩ بقى. أنتم عارفين مطالب مصر عايزة إيه. الاستقلال والإنجليز يطلعوا، فالإنجليز حبوا يداروا الحكاية، قالوا طيب الاستقلال مسلم به، هيكون لكم برلمان نواب وسفراء فى الخارج والسلطان بتاعكم السلطان حسين، مات حسين طلع بداله فؤاد، كنت أنا بقى إيه بقيت زى حد عايز ينفجر.
آمال: كنت وقتها بتقول زجل بقى؟
بيرم: كنت أقول شعر قبلها، وبعدين لقيت الشعر ما يساعدش إنه يوصل فكرتى للناس، الناس كلهم أميين شعر إيه؟ جيت هنا القاهرة أطلب رخصة لجريدة مرضوش يدونى، رحت راجع إسكندرية تانى، جايب الجرنان الكبير ده مطبقه على ٤، وأول ما نطبق الجريدة على ٤ تبقى زى المجلات دلوقت، وكتبت عليه بالحرف بونط تمانية كتاب وتحتها «المسلة لا جريدة ولا مجلة».
المقالة الافتتاحية كانت على المسلمين والقبط، كان فى بينهم نفور زمان، أيام الحركة الوطنية، ففتحوها أولًا بالمصافحة، بقى القبط يروحوا الجوامع، والمسلمين يروحوا الكنايس، فأنا قلت:
أحمدك يا من فتحت الباب علينا بعد أزمان لما دوبنا واستوينا
بالله صلى على طه نبينا.. واتحفوا بالفل وأنفسنا الزكية
وأنت يا جار الهنا خليك معايا يا اللى ماسك الهجر من ليلة الرواية
خلى باب للصلح واسمع دى الحكاية واللى فات مات ندفنه وحقك عليا
جالنا ضيف بارد وساقع وابن جزمة نام ومزع فى القماش والوقت أزمة
والضيافة بالكتير ما تكونش لازمة غير تلات تيام ودى بالتلتمية
آمال: ده السبب اللى أنت اتنفيت عشانه؟
بيرم: لا، المجلة يا سادة لون من ألوانها، ومنها بقى حتة على فؤاد ليلة ما اتجوز، دى لا تقال فى الميكروفونات ولا فى الجرايد، ولا فى حاجة يعنى، وتقريبًا الناس عارفاها، وربنا يغفر «قصيدته الشهيرة التى هاجم فيها الملك فؤاد».
آمال: ده السبب اللى أنت اتنفيت عشانه؟
بيرم: ورحت لأول مرة تونس، ما كنتش أعرفها، وجدت ناس أنكرونى وأنكرتهم، حتى العيلة اللى أنا منها، وادعى جدى إن هو منها، قالوا «ما نعرفكش»، روحت على فرنسا قعدت ١٢ سنة.
آمال: كنت تعرف فرنساوى؟
بيرم: أبدًا.
آمال: أمال اتعلمت إزاى؟
بيرم: اتعلمت هناك برضه. كنت أعرف يعنى كلمات قليلة.
آمال: طيب رجعت إزاى هنا؟
بيرم: رجعت من غير إذن والله، كان الملك فؤاد مات، كنت أعرف يعنى إن القلوب منفتحة لرجوعى كتير يعنى، وضعتهم أمام الأمر الواقع ورجعت.
آمال: طيب أستاذ بيرم أنت مشهور باللون البدوى فى الزجل، وكتبت حلقات كتيرة عن الظاهر بيبرس.. إيه السبب إنك أنت اشتهرت باللون ده؟
بيرم: الظروف ساعدتنى، قلتلك والدى كان عنده مصنع نسيج ينزل حاجة اسمها «العباريق»، وهى طرحة غليظة كده تلبسها نسوان طرابلس الغرب، ما حدش بيعملها فى العالم كله أو فى إفريقيا غيرنا إحنا، فكان العرب ييجوا بعد ما يبيعوا أغنامهم وحاجاتهم يشتروا بقى حاجاتهم ومنها «العباريق».
كانوا يقعدوا يعسكروا فى الوكالة ليل ونهار يشربوا شاى، وإحنا كنا نرتبط بهم ونسمع لغتهم وكلامهم، شوف اللى يسمع كلام درنة وطرابلس وبنى غازى، كل دول موجودين هناك، فكنت أسمع غناهم، أحسن ناس غنوا فى إفريقيا.
آمال: طب غنى يا أستاذ.
بيرم: ما أعرفش بيقولوا إيه، إنما حافظ الكلام اللى كانوا يقولوه، بعض الأزجال، عملت لنفسى خط أعرف بيه، زى واحد بيقعد ماشى فى طريق عشان ما يضلش. اللغة البدوية تبتدى عندنا من مريوط وبهيج والضبعة والحتت دى، العرب هناك تسمعى النغمة بتاع اللغة البدوية، وتسمعى شاعرهم يقول إيه: «عينى دمعتهن تنهل سبب داهن بدور أشعل».. يعنى إيه؟ دموع تنهل من الهلال، تعبير فصيح جدًا، وسبب دائهم وبلائهم اللى جالهم بدور الشلل، يعنى وجوه نيرة.
بيدورش ع الناحية الموسيقية، شوف الكلام معمول إزاى، وآسف إنى نسيت حاجات كتير من عندهم، تطلعى لفوق شوية بعد بهيج على طرابلس بقى، تلاقى الشاعر الطرابلسى حاجة حلوة قوى. هناك الشاعر يتناول كل شىء، مش بس غزل وحب، عندهم مجلس الشياب أو مجلس الشيوخ بيفصل فى المواضيع المهمة فى أحوال القبائل، ففى واحد شاعر ومش عاجبه الشيوخ دول، يقول لك إيه؟
شياب شياب ضروس.. شهادتهم ما عادت تجوز
شياب بقرنها ع المسكين قلال محنك شياب مهارة
متبعين وتقولى برارة همبارة
والكاتب بارة كل ريال يقصوا منه
تطلعى لفوق تونس شوية، تلاقى التونسى بيقول إيه، يا سلام عليهم وعلى غزلهم، يقول لك إيه؟
لولا البرق يعنى البرق بيقولوا على البرق زى العسل والعسل الخشب رجب صفر لون البرق العج يعنى لمع إيه من منحرها من رقبتها كنا غدينا فى سواد شعرها كان سواد شعرها طوانا تانى لولا إن ما بنضلش. قامت لحاجتها دعوها تولى شاف وجهها قام الإمام يصلى. يفتكر إنها طلع نقول الله أكبر يقول لا لا يرجع يا راجل دى فلانة اللى طالعة النهاردة. قولى. حاجات مركزة ودسمة.
آمال: أنت يا أستاذ بيرم مشغول بإيه دلوقتى؟ من ناحية شغلك يعنى.
بيرم: بكتبلك أنت فوازير، وأم كلثوم بعملها غنوة جديدة.
آمال: أستاذ «بيرم» أنت عملت أغانى كتير للسيدة أم كلثوم، تقدر تعدد لنا بعضها.
بيرم: أنا وأنت، كل الأحبة اتنين، أهل الهوا يا ليل، الآهات، الأولة فى الغرام والحب، أنا فى انتظارك، شمس الأصيل.
آمال: أستاذ «بيرم» إيه الحكمة اللى أنت ماشى بيها فى الحياة؟
بيرم: قولى إيه الحكم وإيه الخطوط اللى أنت ماشى عليها، إيه تجاربك، أعدلك وأقولك. أولًا: بطلت الأصدقاء، بطلتهم خالص.
آمال: ليه؟
بيرم: بعد تجاربهم بطلتهم خالص، أنا أصلًا مليش بخت وياهم، أريَّح الناس من شرّى، وأريّح نفسى من شرهم. ثانيًا: بيسألونى الناس أنت ليه ساكن فى السيدة زينب ولا تسكنش فى الزمالك؟ ما يصحش وأنا فى السن ده أروح أؤجر شقة بـ٢٠ جنيهًا، ومستلزماتها كمان عشرة، لأن الشقة اللى فى الزمالك هتحتاج الواحد تحته يشترى خضار، وواحدة فوق، وأنا فى السن هدفع ٣٠ جنيهًا منين، وأنا لا عندى عزوة ولا عندنا عمارة؟ يبقى أمشى على قدى، وده أهم مبدأ يمشى عليه الإنسان وهو مستريح، ما أزعلش أنا لما أكون قاعد على حصيرة، الحصيرة عندى ألذ من السجاد الفارسى، منظرها جميل وتعزل الهواء والرطوبة.
آمال: طيب أستاذ «بيرم» الواقع إن ده حديث جميل أوى، إحنا كنا نتمنى أن يكون ساعة، وأرجو أن تتاح لنا فرصة تانية.. متشكرين أوى.