الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خاص قبل النشر.. مقدمة محمد توفيق لكتاب «فى صحة أحمد زكى»

أحمد زكى
أحمد زكى

فى صباح يوم الإثنين 17 فبراير عام 1992.

الجو بارد، والأحوال هادئة، والبيانات الرسمية تسيطر على الصفحات الأولى من الصحف بعد أن انتهى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وبدأ الاستعداد لشهر رمضان.

يبدو يومًا عاديًا من أيام الشتاء، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة إلى الكاتب الكبير عادل حمودة، ففى هذا اليوم صار نائبًا لرئيس تحرير مجلة «روزاليوسف»، ويمكن أن تقول بثقة إنه أصبح رئيس التحرير الفعلى الذى يملك الثواب والعقاب، ويدفع الثمن فى أى معركة تخوضها المجلة.

جاء الأستاذ عادل، وجاءت الوقائع الكبرى تُهرَع خلفه، كأنها كانت تنتظر مجيئه لتطارده، وتغير مساره.

فحالما تولى الأستاذ عادل مسئولية «روزاليوسف»، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب عرض فيلم «ناجى العلى»، الذى أدى بطولته وأنتجه النجم «نور الشريف»، وأخرجه «عاطف الطيب»، ويومها أعلنت مؤسسة «أخبار اليوم» الحرب عليه، وكتب الأستاذ «إبراهيم سِعدة» مقالًا بعنوان: «من أجل حَفنة دولارات».

لكنَّ «روزاليوسف» احتفتْ بالفيلم، وأقامت ندوة لصُناعه حتى إن اختلفت مع مستواه الفنى.

وفى العام نفسه، وتحديدًا فى الثامن من يونيو، أطلق متطرفون الرصاص على المفكر الكبير الدكتور «فرج فودة» أمام مكتبه بمصر الجديدة، وحينها وقفت «روزاليوسف» بقيادة عادل حمودة فى خندق الحرية كعادتها، ودافعتْ عن فرج فودة بكل ما أوتيت من ذخيرة صحفية حية.

وفى العام ذاته هزَّت جريمة كبرى الرأى العام، وأطلقت عليها الصّحافة قضية «فتاة العتبة»؛ تلك الفتاة التى تعرضت لاعتداء جنسى فى إحدى الحافلات بميدان العتبة، ويومها دفع الأستاذ عادل بـ١٢ صحفيًا لتغطية الحدث، وكان من بينهم الكاتب الصحفى حمدى رزق.

وفى تمام الساعة الثالثة و٩ دقائق من عصر يوم ١٢ أكتوبر ١٩٩٢ وقع زلزال بلغت قوته ٥.٨ درجة على مقياس ريختر، تسبب فى وفاة الآلاف، وتشريد نحو نصف مليون شخص، وأفردت «روزا» صفحاتها لحكايات البسطاء، وشهاداتهم، وعبَّرت عن آلامهم، ودافعتْ عن آمالهم.

تلك الأحداث صعدت بــ«روزاليوسف» من قاع التوزيع إلى قمته، ومن الخمول إلى عنفوان الشباب، ومن خمسة آلاف نسخة إلى أكثر من ٢٠ ألف نسخة فى شهور قليلة.

وحقَّق عادل حمودة أحلامَ أستاذه صلاح حافظ- الذى رحل بعد أيام قليلة من توليه المنصب- واستطاع أن يعيد المجلة إلى سابق عهدها، وأن يُعيد فتح المدرسة الصحفية الكبيرة أمام جيل جديد من المبدعين؛ أمثال إبراهيم عيسى ووائل الإبراشى وإبراهيم خليل وعبدالله كمال ومحمد هانى وحمدى رزق وأسامة سلامة وعمرو خفاجى.

وبدا واضحًا للجميع أن ما فعله عادل حمودة فى «روزاليوسف» ينطبق عليه وصف الأستاذ هيكل «لقاء رجل مع الظروف».

نعم، كان الرجل فى انتظار اللحظة المناسبة، متأهبًا؛ قلمه مسنون، وطلقات حبره تعرف طريقها، وأفكاره حاضرة، وسابقة عصرها، ورؤيته جاهزة، وخبراته مكتملة.

ومضت السنوات، وسار عادل حمودة على درب محمد التابعى، فجمع بين صداقة نجوم الفن والسياسة، وقفز بتوزيع «روزاليوسف» إلى أكثر من ١٠٠ ألف نسخة، وأدرك أنه إذا أراد إرضاء صاحبة الجلالة فعليه أن يبحث، ويسأل، ويقرأ، ويسهر، ويسافر، ويغامر، ويحارب، ويحترق جمعًا لقرابينها لعلها ترضى، ولكنها لا ترضى أبدًا!

هذه هى الصّحافة كما عرفها عادل حمودة، ووهبها حياته، واعتاد أن ينتقل من الساخن إلى البارد، من بنات مارينا إلى أهالى الدويقة، ومن السيمون فيميه إلى طبق الفول على عربة متهالكة، ومن المقاعد الوثيرة فى أجمل فنادق باريس إلى مقعد الباحث المدقق فى دار الكتب والوثائق.

وتعلّم الأستاذ عادل درس صديقه الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق «بطرس بطرس غالى»: «ليس مهمًا أن نكسب وليس مهمًا أن نخسر، المهم أن نظل جالسين على المائدة نلعب».

ربما بسبب تلك العبارة التى آمن بها عادل حمودة لم يقبل أن يتفرغ، ويجلس على مقعد الأستاذ- رغم أنه أستاذ لكثير من الأساتذة- فى برج عاجى، بل رفض أن يجلس على مقاعد البدلاء حتى لو كان المدير الفنى، وأصرَّ على أن يظل فى الملعب كلاعب أساسى يحرز أهدافًا مؤثرة، ولا يكتفى بتمريراته الساحرة.

لذلك حين قرر ترك مهمة رئاسة تحرير جريدة «الفجر» لم يهجر الصّحافة، ولم يفارق الكتابة التى هى ملعبه الأساسى، فقد صنع لنفسه لغة شاعرية، وسكَّ عباراتٍ محفورًا عليها اسمه منذ كتابه الأول «فى صحة السينما المصرية» مرورًا بكتب مهمة مثل «انقلاب فى بلاط صاحبة الجلالة» و«النكتة السياسية» و«النكتة اليهودية» و«الموساد واغتيال المشد» و«هيكل.. الحب والحرب والحياة» وصولًا إلى مذكراته، و«أحاديث السحاب».

هذه الكتب بعضها يُعد توثيقًا مهمًا للحظات فارقة فى تاريخ الوطن، وبعضها يملك زاوية خاصة لن تراها إلا بصحبة الأستاذ عادل حمودة.

وقد ينتصر لك وقد يصدمك، وربما تراه يجمع بين كثير من المتناقضات، لكنها تبدو مُتوافِقة داخل شخصيته، فهو يهاجم إلى حد العنف، ويتعامل بودٍّ إلى درجة الرقة، وينتقى كلمات عذبة كالكمان، وقد يلجأ إلى عبارات تشبه طلقات المدفع، ويدافع عن التحرر، ويغازل المرأة غزلًا صريحًا ثم يكتب «لحظة نور» كأنه واحد من أقطاب الصوفية، ويبحث عن الاستقرار، وفى الوقت ذاته يجنح إلى التغيير.

فهو يرى أن الصحفى مثل رجل الإسعاف؛ يتعامل مع ما يصادف من حالات حرجة دون أن يفتش فى أوراقها الشخصية، المهم أن يصل إليها قبل أن تفارق الحياة.

وهذه هى النظرية نفسها التى يؤمن بها النجم أحمد زكى فى تجسيده الشخصيات، سواء كان رئيسًا أم حارس عقار، ضابطًا أم مُهربًا، وزيرًا أم طبالًا، ملاكمًا أم دجالًا، لا يهمه مكانة الشخصية، وإنما يهمه أن يُعبِّر عنها بصدق.

ومثلما لمع عادل حمودة فى عام ١٩٩٢ تألق أيضًا أحمد زكى، وقدَّم واحدًا من أهم أدواره فى فيلم «ضد الحكومة»، ليصبح عامًا مميزًا للاثنين اللذين جمعتهما الصداقة وحب المهنة، ليبدو كلاهما هاويًا رغم أنه بلغ ذروة الاحتراف.

من هنا تأتى قيمة هذا الكتاب الذى يصحبك لتشاهد ما لم يُعرض من قبل، رغم أنى سبق لى أن عشت شهورًا طويلة بصحبة أحمد زكى فى رحلة البحث عن «أحمد زكى ٨٦»، حينها كان يتحرك أمامى على الورق.. وكنت أطارده كل يوم ساعاتٍ طويلةً.. ويفرُّ منى كثيرًا.. لكنى ألاحقه وأحاصره وهو يقف على عتبة الأربعين فى عام ١٩٨٦ وأنا أكتب عن الفنان فقط.

الفنان الذى يقطر فنًا.. وتنثال دماؤه داخل مواقع التصوير.. وكان الاختيار منطقيًا، فأنا لم ألتقِه يومًا ولم تنشأ بيننا أى علاقة، لذلك قدمتُ صورة سينمائية لأحمد زكى، لكنْ بقيت الصورة الإنسانية عصيةً على الاقتراب منها، حتى جاء الأستاذ عادل حمودة وقرر أن يقترب من كل المحظورات.. ويمنحنا فرصة لنجلس فى بيت أحمد زكى، ونسمع ضحكاته، وصرخاته، وشتائمه، ونشعر بنبض قلبه، وبأنفاسه اللاهثة، وكل ذلك خارج النص، وكأننا نشاهد فيلمًا ممنوعًا من العرض يسرد قصة حياة إنسان منذ ولادته، وظروف نشأته، ومدرسته، وسنواته الأولى فى عالم الفن، ومعاناته، ثم تعيش معه سنوات الوهج، والألق، والتفوق، وتراه مع حبيباته على طبيعته، وتعرف علاقته المعقدة مع زوجته الوحيدة، وعلاقته بابنه فى أيامه الأخيرة، وقصص أفلامه التى لم تكتمل، وقصة العروس التى انتظرته ولم يذهب إليها، وستشاهد صوره الخاصة التى لم تظهر من قبل، وستعرف وصيته الأخيرة، وستعيش حقبة نهاية السبعينيات إذ جلسات المثقفين والفنانين التى تمتد من السابعة صباحًا حتى ما بعد منتصف الليل، والتى كان لها أثر بالغ فى صناعة السينما سنواتٍ طويلةً.

وسيصحبك الكاتب الكبير عادل حمودة لترى بعدسة مكبرة الأصدقاء الذين صدقوا ما عاهدوا أحمد زكى عليه، والذين خذلوه، وستستمع لصوت الذين آمنوا بموهبته، والذين حاربوه فى فنه.

واختار الأستاذ «عادل» أسلوب الاسترسال الحُر، لأنه أراد أن يروى كصديق تخرج كلماته من قلبه، وليس من الكيبورد، وكى يُلقى نظرة فاحصة لا يكتفى فيها برؤية تعابير الوجه، وإنما يدقق النظر أسفل الجلد، فهو يعلم شعور صديقه الذى شاركه أحلامه، وتجرَّع معه مرارة كوابيسه.

وحين يمرض أحمد زكى ستجد نفسك أمام سريره فى غرفته بالمستشفى، تطالع تقارير الأطباء، وإذا دخل غرفة العمليات لن تبقى جالسًا فى الخارج، بل ستكون بداخلها تقف بين الأطباء، وتسمع آراءهم فى حالته، وشعورهم تجاهه.

فقد رسم الأستاذ «عادل» صورة من تحت الجلد لصديقه «أحمد» الذى عرفه على مدار أربعين عامًا، لذلك ستجد الكتابة مغموسة بحبر المشاركة- على حد تعبيره- وستجد حكايات عن الإنسان أكثر من الفنان، وقد تضحك ثم تدمع عيناك وبعدها تضرب كفًا بكف، وأخيرًا تصفق.

وربما فى نهاية الكتاب تشعر أنك بحاجة إلى كوب كبير من التمر هندى لتشربه فى صحة الصديقين عادل حمودة وأحمد زكى!.