الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مستقبل الصحافة المصرية

مستقبل الصحافة المصرية
مستقبل الصحافة المصرية

«امسحى دموعك يا سناء» مقال الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسى بجريدة الأهرام لم يدهشنِ بقدر ما تفاعل الجمهور معه سواء من داخل المهنة أو من خارجها، والسبب قطعًا ليس رفضى أو تحفظى على مضمونه أو حتى تأييده فى المطلق، وإنما لأنى قرأته فى سياق إنسانى قادر على استيعاب فضفضة من هى فى عمر وعمق وحجم تجربة سناء البيسى، فمثلها وُلِد وعاش فى أحضان كبار المهنة وكبرائها، كما أنها عاشت أزهى عصور صاحبة الجلالة ولا نبالغ إذا أكدنا أنها حقًا ساهمت فى صنع أمجادها فى فترات طويلة منها، وهو ما يفسر ألم وحزن سناء البيسى وقلمها أيضًا كلما غاب عن صفحتها السبت أسبوعيًا بالـ«الأهرام».

المقال فى الواقع له عدة أوجه تستحق الطرح فى العموم بعيدًا عن حالة «البيسى» الخاصة، وفى تقديرى كلها يتصل بمستقبل الصحافة المصرية، فهو أولًا يجدد أهمية وجود تواصل فعال بين الأجيال، تواصل قائم على دوافع الاحتواء والتوجيه ونقل الخبرات مهنيًا وإنسانيًا، والعبء الأكبر فى هذا بلا شك يقع على عاتق الكبار، وضعًا فى الاعتبار أن البعض الآن كبير لمجرد أنه لا يوجد كبار، لكن على أى حال كل من هو فى موقع القيادة واجب عليه أن يمنح الشباب حقه فى التعليم والتدريب والتوجيه ومنح الفرص قياسًا فقط على معيارى الموهبة والاجتهاد، بل وأن يضع هذا على قمة أولوياته، بكل أسف الأبقى أثرًا يتوه الآن وسط صخب الحياة وزحمتها وأشياء أخرى.

فإذا ما تقدم الجيل التالى وتولى موقع المسؤولية، فله كامل الحق فى طرح رؤيته والاجتهاد تجاه تحقيقها واقعًا على الأرض، وليس من الضرورة بأى حال من الأحوال أن يحافظ فقط على ما تحقق قبله، ومع ملاحظة أن كل جيل يعمل وفقًا لمناخ عصره ومعطياته وأدواته وتوجهاته وقيوده، وهى الموجودة بطبيعة الحال فى أى صناعة فى كل عصر وإن اختلف وزن كلٍ منها أو نسبته حسب الظروف والأحوال والتطورات، ومن ضمن هذه المعطيات وفى مقدمتها المزاج العام وشرائح المتلقين على اختلافها، فلا يصح قياس أى تغيير فى منتج أو محتوى إلا على معايير حاضره بعيدًا عما تقدم فى ماضيه أو ما ينتظره مستقبلًا، وهذا كله لا يمنع تقييم تجربة كل جيل فى عمومها سلبًا أو إيجابًا.

مقال «البيسى» أيضًا يأخذك دون قصد لمراجعة مسيرة الصحافة المصرية لسنوات طويلة مضت، وكقارئ راصد شاهد عيان على مدار أربعة عقود الآن، أجزم بالقطع أن معاييرها المهنية فى تراجع شديد، وخاصة فى سنوات انفلات ما بعد ثورة يناير وحتى الآن والمتزامنة مع سطوة السوشيال ميديا، تلك التى لعبت الدور الأكبر فى خلل هذه المعايير، ودفعت فى اتجاه السطحية وغياب المعلومات والتقول على المصادر والسبق الزائف وأخيرًا وليس آخرًا لعنة التريند، فى الاتجاه الموازى تراجعت منظومة توزيع الصحف والمجلات، وأصبح نادرًا أن تشاهدها معروضة هنا أو هناك بعدما كان الشارع الواحد به أكثر من موزع، وفى إطار إعادة هيكلة المؤسسات الصحفية القومية شاهدنا دمج الإصدارات والاكتفاء بالنسخ الإلكترونية من بعضها، واستسلم الجميع لفكرة اندثار الصحافة المطبوعة، ولم يفكر أحد حتى فى أن يودعها وداعًا يليق بها.

الاستسلام لفكرة سطوة الإلكترونى أكبر جريمة ارتكبها المحسوبون على المهنة، والجريمة الأكبر أنهم ظلوا على نمطيتهم فى إنتاج محتوى الإلكترونى، والمدهش أنهم يتباكون فى كل وقت عندما يطرحون فى أسى ارتفاع معدلات توزيع الصحف والمجلات المطبوعة فى الخارج، وإلى حد عودة البعض منها للصدور ورقيًا بعد سنوات من توقفها، وأيضًا عندما يتوقفون بإعجاب أمام غلاف أو عنوان أو مادة صحفية مواكبة لملامح عصر أصبح مختلفًا فى كل شىء، وكناشر له الآن أربع سنوات فى سوق النشر، أقطع بأن كل وسيلة لها قراءها، فلا إلكترونى على حساب الورقى أو العكس، كما أن الورقى له طوال الوقت سحر وسر قادران على مخايلة وجدان القارئ من مختلف الأجيال وفى كل عصر، ولكنها أزمة منظومة التوزيع فى صحف أو مجلات أو كُتُب مرة أخرى.

التعميم لا ينفى تجارب إلكترونية سباقة بدأت بالفعل من المستقبل، واستطاعت أن تحجز مكانها بقوة فى بلاط صاحبة الجلالة الديجيتال، هذه التجارب منها مواقع إلكترونية، ومنها إصدارات بصيغة PDF، وكلها سر نجاحها شكل جذاب، ومحتوى يواكب إيقاع العصر ومزاج القارئ، بل ومنها ما يصل إلى حد الارتقاء بوعيه ووجدانه، هذه الإصدارات الرقمية حلت المعادلة الصعبة مبكرًا وهو سر سبقها، كما أنها وضعت المعايير المهنية أساسًا لا تحيد عنه، وهى داخليًا على حد علمى ومتابعتى تحقق طوال الوقت فكرة تواصل الأجيال بفاعلية تجعلها عفية قارئة لمستقبلها لسنوات طويلة قادمة، وجميعها بالقطع يعمل فى ظروف صعبة خاصة من ناحية الموارد والإمكانيات، ولكنها تجتهد فى تعزيز قيمة المهنة.

مستقبل الصحافة المصرية فى تقديرى يتلخص فى عدة قناعات، أن الفكرة دائمًا هى البطل، المحتوى قبل الوسيلة، المعرفة دائمًا تصنع الفارق، الموهبة والاجتهاد كافيان لخلق الفرص، كل جيل حقه تمامًا أن يأخذ فرصته كاملة، الحرية لم تكن يومًا بلا قيود والإبداع لم يكن يومًا بلا حلول، الاحترام والمهنية والتواصل الفعال أساس نجاح أى وكل منظومة، المؤسسات عمرها أطول من الأشخاص وأننا جميعًا لا نملك إلا أن نترك بصمة، فاجتهد فى ترك بصمتك ولا تحمل هَم بصمات مَن بعدك، فلا أحد يملك ناصية الحقيقة وكله اجتهاد نسبى فيما هو فى الأصل نسبى.