محمد الباز يكتب: متى يستيقظ اليسار المصرى؟
قد يكون من الصعب رسم خريطة محددة واضحة الملامح لليسار المصرى الآن فى المجال العام الثقافى.
يمكنك أن تلمح له حضورًا سياسيًا بدرجة أو بأخرى فى بعض المواقف والتصريحات، وربما الفعاليات السياسية، وهو حضور غائم على أى حال، لا يمكننا التعويل عليه، أو اعتباره تيارًا متمكنًا قادرًا على صياغة رؤية مكتملة لمعالجة الوضع العام، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
تشغلنى هنا- وطوال الوقت- موقعية اليسار المصرى ثقافيًا.
فعندما تبحث الآن عن كتابه ونقاده وأدبائه ومفكريه وصحفييه لن تجد لهم أثرًا يذكر، اللهم فى بعض كتابات فاقدة للبوصلة، متعثرة الخطوات، منعدمة التأثير، فلا رؤية ولا نظرية ولا تواجدًا ولا تواصلًا، اللهم إلا تجلياتهم عبر صرخات متوترة وعصبية تظهر على صفحات شبكات التواصل الاجتماعى فى «بوستات وتغريدات»، وبعض مقالات متناثرة، وأعمال إبداعية متشنجة، فاقدة الروح، ومحاولات لاستعادة مجد يتغنون به، يقابله هجوم ينصب على انسحاب رموز اليسار، وترك المجال العام لجماعات التطرف، للسيطرة وتشكيل الذهنية العامة على هواها وطبقًا لمزاجها المتشدد.
خلال الخمسينيات والستينيات كان حضور اليسار طاغيًا، استطاع رموزه من خلال العلاقة مع مؤسسات الدولة، سلبًا وإيجابًا، التواجد على الخريطة الثقافية، أصدروا المجلات التى قاد من خلالها نقاد كبار تغليب أسماء بعينها من المبدعين والشعراء والكتاب على آخرين كانت لديهم الموهبة الكافية ليحتلوا مكانهم ومكانتهم، ولم يحدث هذا لشىء، إلا لأنهم من بين صفوف اليسار، بصرف النظر عن قيمتهم أو إسهامهم الأدبى.
عندما كنت أسجل شهادة الكاتب والناقد شعبان يوسف خلال حلقات موسمى الخامس من برنامج «الشاهد» الذى يناقش تطورات وتحولات الشخصية المصرية، اعترف لى بأن النقاد اليساريين كان يحكمهم الهوى، فمن يسير على طريقهم رفعوه إلى السماء، ومن يخالفهم المذهب لا يلتفتون إليه وكأنه نسيًا منسيًا، وقد سقط كثير من المبدعين صرعى رغم موهبتهم الفائقة لا لشىء، إلا لأن أهل اليسار تجاهلوهم وألقوا على ما كتبوه التراب عامدين متعمدين، فى جريمة ثقافية أعتقد أنها لا يمكن أن تسقط بالتقادم.
وكان مدهشًا لى- كما سيكون مدهشًا لك- أن تعرف أن كتاب اليسار تجاهلوا نجيب محفوظ ولم ينزلوه المنزل الذى يستحقه، لأنه لم يكن على هواهم، ولم يخضعوا له إلا بسبب موهبته الفذة وإنتاجه الفائق الذى أجبرهم على الاعتراف به والترويج لكتاباته.
سر الدهشة بالطبع أن نجيب محفوظ فى كتاباته كان ينتصر انتصارًا مؤكدًا لكل القيم التى ينحاز إليها اليسار، لكن ولأنه كان يفعل ذلك وهو خارج عباءتهم، فلم يلتفتوا له، بل قللوا من شأنه، وعبروا عليه عبورًا سريعًا لا يليق بمنجزه الكبير، لكنه وهو الصابر صبر أيوب فى الكتابة والحياة، فقد نجح فى النهاية فى إخضاع رقابهم له، فدانوا له رغمًا عنهم، وأصبحوا يعتبرونه واحدًا منهم، رغم أنه لا يقر لهم بذلك أبدًا.
أخذ اليسار المصرى قبلة الحياة، سياسيًا وثقافيًا، بموقفه المعارض والمعاند للرئيس السادات، فالمعارضون حتى ولو كانوا على باطل لهم هيبتهم، لكلماتهم رنين، ولمواقفهم صخب، يحصدون الإعجاب لمجرد أنهم يقولون لا… حتى لو كانت هذه الـ«لا» من أجل أن يقولوا لا فقط.
فى عصر مبارك بهت اليسار المصرى كما كان كل شىء باهتًا.
فى جلسة ودية جمعتنى بالكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى، سألته وهو المعارض اليسارى العابر للعصور عما يشعر به؟
كنا قبل نهايات التسعينيات بقليل.
قال لى صلاح: مبارك «بوخنا»… يجب أن يحصل على جائزة نوبل فى «تبويخ المعارضة»… كنا نعارض عبدالناصر فيسجننا… وكنا نعارض السادات فيشتمنا ويسجننا… الآن مبارك يتركنا لنملأ الدنيا صراخًا وهتافًا وكتابة، لكنه لا يرد علينا، أشعر أحيانًا بأنه لا يعرف أننا موجودون هنا… هذا الرجل فى الغالب يحكم شعبًا آخر غير الشعب المصرى.
طبع كل رئيس اليسار المصرى بطبعه، فالناس على شاكلة من يحكمونهم… وكانت النتيجة أن اليسار المصرى وعندما تجاوز العقد الأول من الألفية الثالثة وعلى أعتاب ثورة يناير كان مرهقًا ومشتتًا ومفتتًا وتائهًا وشائخًا وشائهًا… فبدلًا من أن يأخذ مما حدث فى يناير فرصة للاستيقاظ السياسى والثقافى، استسهل الطريق وألقى بنفسه فى أحضان جماعة الإخوان، ويشهد عليهم مؤتمر فيرمونت الشهير الذى منحوا فيه تأييدهم لمحمد مرسى، وهو التأييد الذى ندموا عليه، لكن بعد أن تأكدنا أنهم يعانون أزمة وجود، فما حدث لا يعكس حالة تيه يعيش فيها اليسار المصرى، بقدر ما يؤكد أنه كان فى نزعه الأخير.
وكما أضاع اليسار المصرى من بين يديه فرصة يناير ٢٠١١ أضاع أيضًا فرصة يونيو ٢٠١٣.
فى ٢٠١٣ استعاد الشعب وعيه، سانده الجيش فى تحقيق هدفه ومراده، تحقق لليسار حلمه الذى امتد لعقود بتغييب جماعة الإخوان عن المجال العام وتقليم أظافر الجماعات المتطرفة، أصبحت الساحة خالية أمامه، لكنه كان لا يزال متقوقعًا على ذاته، منكفئًا على تهويماته ونظرياته وتخريجاته التى أبعدته فعليًا عن مسار الشارع المصرى.
الأسباب التى يمكن أن تساعدنا على فهم اختطاف الشارع المصرى من قبل الجماعات المتطرفة كثيرة، والمسئولون عن ذلك كثيرون، لكننى أعيب على اليساريين المصريين وألومهم، بل وأتهمهم بأنهم لم يكونوا جادين فى مقاومة عملية الاختطاف التى جرت وقائعها أمام أعينهم، وربما بتواطؤ من بعضهم.
أعترف، كما يعترف كثيرون، بأن كتاب ومفكرى ومبدعى اليسار ومثقفيه الأكثر اطلاعًا ومعرفة وتواصلًا مع الثقافات الأخرى، لديهم نظرياتهم وتنظيراتهم التى تعينهم على الفهم، وكان يمكنهم أن يكونوا سلاحًا مهمًا من أسلحة الدولة المصرية فى معركتها ضد الجماعات الإرهابية، لكنهم اعتصموا فى الغالب بالصمت، وبدلًا من أن يوجهوا سهام أفكارهم إلى قلب التطرف والإرهاب، بدأوا فى التحرش السياسى والثقافى بالدولة.
سألت أحدهم: لماذا لا أقرأ لك ولو تعليقًا عابرًا على معركة الدولة على الإرهاب؟ لماذا لا أجد لديك ولو بالصدفة ترحمًا على شهدائنا وتقديرًا لما يقدمونه من دماء وتضحيات على أرض سيناء؟
كانت إجابته صادمة، قال: ومن قال لك إن هذه معركتنا؟
تساءلت بأسى وأسف: إن لم تكن هذه هى معركة اليسار فأى معركة يمكن أن تكون؟
وإذا لم يقف أهل اليسار موقفًا واضحًا من الجماعات الإرهابية وأصحاب المواقف والآراء المتطرفة فمن يقف؟
لا أتبنى نظرية المؤامرة فى تفسير سير الأحداث، رغم قناعتى الشديدة بوجودها وتمددها وتأثيرها، ولن أقول إن هناك مؤامرة يتورط فيها بعض من ينتمون إلى أجنحة اليسار، تجعلهم يمعنون فى الوقوف فى الصف المعاند للدولة، ولكنى سأقول فقط إن هناك تقصيرًا بالغًا وتهاونًا كبيرًا وتراجعًا أكبر فى الدور الذى يجب أن يقوم به اليسار فى قضايانا الكبرى.
هذه دعوة للإفاقة والاستفاقة ونفض التراب عن اليسار المصرى، دعوة لاستغلال حالة التحديث الهائلة التى تشهدها مصر ليشارك اليسار فى إثراء المجال المصرى بالأفكار والكتابات والإبداع، فليس عيبًا أن يكون اليسار المصرى بأحزابه وجماعاته وتكويناته جزءًا من تيار وطنى يعمل من أجل الارتقاء بمصر، لكن العيب كل العيب أن يظل اليسار بعيدًا ومبتعدًا كامنًا وخاملًا لا يقوم بدوره الطبيعى الذى تؤهله له إمكانات من ينتمون إليه.
إننى لا أفرض وصاية هنا على اليسار المصرى، ولا أحدد له حدود الدور الذى يجب أن يقوم به، لكننى أدعو إلى حوار مفتوح حول ما يجب أن يقوم به اليسار، وأمامه فرصة كبيرة عليه أن يستغلها، وهذا أفضل من أن يكون أهل اليسار رمزًا للفرص الضائعة وما أكثرها.
عن نفسى سأقوم بطرح أفكارى عن الدور الذى يجب أن يقوم به اليسار المصرى، فى انتظار مناقشات وسجالات من يرغبون فى الكتابة والنقاش والحوار حول دور عقول مصرية قررت أن تعطل نفسها وتحجب جهدها فى انتظار ما يجىء، دون الانتباه إلى أن ما سيجىء سيكون من صنعنا نحن وليس من صنع الآخرين.