محمد يوسف ذاكرة الإسماعيلية و«جايز نونس بعض» فى ليل الثلاثينى
لم يكن الشاعر الراحل محمد يوسف أحمد مجرد شاعر عادى فى مدينة الإسماعيلية، فقد كان متعدد المواهب؛ شاعرًا وكاتبًا مسرحيًا ومؤرخًا، ولاعبًا دوليًا فى الشطرنج، وصيادًا ماهرًا، ومعدًا تليفزيونيًا قديرًا، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية كمهندس محترف فى تصميم المنسوجات والملابس الجاهزة التى عمل بها منذ تخرجه فى كلية الفنون التطبيقية حتى وفاته فى ٢٤ أغسطس ٢٠١٤، وفى ذكرى مرور ١٠ سنوات على وفاته نتذكر جانبًا من مشواره الذى قضاه فى مدينة الإسماعيلية التى ولد بها فى ٢٦ يوليو ١٩٥٩م، ولم يغادرها سوى مرتين لأسباب قهرية.
كانت الإسماعيلية حافلة بحركة أدبية متميزة فى بداية الثمانينيات، وكان «يوسف» شابًا حين كانت ندوة بيت ثقافة الشيخ زايد- بقيادة الكاتب والصحفى نحاس راضى أطال الله فى عمره- ملاذًا لمعظم الشباب، ومنه بدأت حركة أدبية شابة تجوب المدينة ومدن القناة؛ وصولًا للعاصمة، وكان الشاعر محمد يوسف يكتب قصيدة العامية الحديثة المغايرة للزجل السائد آنذاك.. وفى عام ١٩٨٣ صدر له ديوان «جايز نونس بعضنا»، وكان نقلة مهمة فى شعر العامية، ومنه قصيدة «عصفور» «عصفور على سلك العمود بيلقط الغربة/ والشاى فى كوبى فِرغ/ لعيون بتبكى بعضها/ لأغافل الناس الحزانه وأبتسم/ لأضحك على أمى/ وأكسر إزاز البيت».. وتوالت أعمال محمد يوسف التى تتسم بالدهشة والمفارقة الدرامية، وتتواصل مع المجتمع لتعبر عن أحزانه وأفراحه، فالشاعر جزء من المجتمع لا ينفصل عنه، يقدم تفاصيل الحياة بشكل فنى بعيدًا عن الصوت العالى أو الخطابة، للهروب من المباشرة فى الشعر.
ومن الشعر اتجه «يوسف» إلى المسرح الشعرى، فكتب عن أحمد حسن الشرقاوى مسرحية شعرية بالعامية، و«الشرقاوى» هو أحد الرواد المهمين وأول من كون فرقة مسرحية إقليمية قدمت أعمالها المسرحية فى قلب القاهرة وعلى مسارح بعض المحافظات. وقدم «يوسف» أيضًا عددًا من المسرحيات، منها «مآذن المحروسة» التى لحّن أشعارها وأغانيها الفنان أشرف عوض الله، ومنها أغنية «مدد يا رسول الله مدد»؛ «مش بالعتاد ولا بالعدد/ أدخل بنورك قلبنا/ دا أحنا نسينا (بَدْر)، ولا خدنا عبرة من (أُحُد)».
الحس الوطنى لم يكن غائبًا عن شعر محمد يوسف، فكتب ديوانًا كاملًا تحت عنوان «١٥/٧/١٩٦٧» وما حدث للوطن العربى بعد هزيمة ٦٧، وكيف أثرت فى الحياة العامة للمواطنين وإحساسهم بالمهانة والخزى، وناقش فيه أزمتهم الوجودية، وطرح العديد من التساؤلات المشروعة المرتبطة بالدفاع عن الأرض؛ يقول فى إحدى قصائده: «إزاى بدافع عن وجودك فى البدن؟ إزاى بحبب للعيون الورم؟ إزاى وكرباجك شاطرنى اتنين؟ بخاف عليكى من الهوا والعين».
كما تجلت قدرة محمد يوسف فى التعبير عن الحالة التى يعيشها المجتمع فى سنوات حكم مبارك، فكتب آنذاك قصائده لعلها تجد صدى وتتغير الأحوال، وبالفعل مرت بمصر أحداث كبيرة، تتمثل فى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ التى ركبتها جماعة الإخوان وكادت تودى بمصر إلى الهاوية، ثم ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٤، التى كانت بداية الخلاص من الجماعات الإرهابية إلى غير رجعة. بعد أن ضاقت به الحياة فى الإسماعيلية يهاجر محمد يوسف- على حد تعبيره- منها للمرة الثانية بعد الهجرة الأولى عقب ٦٧، ويستقر فى مدينة العاشر من رمضان، فيتسلل المرض إلى قلبه العاشق ثم إلى جسده النحيف، ويصاب فى حادث سير فتنكسر ساقه ويمشى على عكاز، ثم يباغتنا موته فى أغسطس ٢٠١٤، لينسدل الستار على مشوار لاعب الشطرنج وعمره ٥٥ عامًا؛ قضى منها نحو ٣٠ عامًا يكتب الشعر ويعد البرامج التاريخية والثقافية لتليفزيون «القنال»، ويؤرخ لمشروعات عملاقة، منها مرجع مهم عن «السد العالى» صدر عام ٢٠٠٧، بمشاركة الكاتب الصحفى محمد الشافعى، وكتب أيضًا عن صمود أهالى مدن القناة بداية من حرب الاستنزاف حتى أكتوبر ٧٣، وأسس لصالون ثقافى بمكتبة مصر يستضيف فيه كبار الكتاب والمفكرين والشعراء، كما صدر له كتاب نقدى عام ٢٠٠٦ بعنوان «كام ولد عترة» عن الشعراء عبده المصرى ومدحت منير وخالد حريب وجمال حراجى وناصر محمود، يؤرخ لفترة مهمة فى حياة الحركة الأدبية فى الإسماعيلية.
رحل الشاعر محمد يوسف فى أغسطس ٢٠١٤، وتم تكريم اسمه فى مؤتمر الإقليم عام ٢٠١٥ لدوره الكبير فى إثراء الحركة الثقافية، ويظل الحاضر الغائب فى معظم أمسياتنا الشعرية واللقاءات التى تتم بين الأصدقاء؛ فهو واحد من رواد الثقافة والأدب فى الإسماعيلية، كما الأمر مع معظم كتابنا الراحلين «على صميدة وإبراهيم عمر ومحمد عيسى القيرى»، وغيرهم من الذين أثروا حياتنا الثقافية.