الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مطب تاريخى.. إنه محمد خلف الله أحمد.. وليس محمد أحمد خلف الله

محمد خلف الله أحمد
محمد خلف الله أحمد

- محمد خلف الله أحمد كان جوهرة نادرة فى صفائها وصدقها كريمة فى قيمتها

- المطب المهنى الذى وقعنا نحن فيه فى العام 2024 كانت الصحف قد وقعت فيه فى العام 1947

كنت فى غاية السعادة عندما وضع أمامى أحد زملائى ثلاث صور للكاتب والمفكر الكبير محمد أحمد خلف الله، صاحب كتاب «الفن القصصى فى القرآن»، وهو فى شبابه، قال لى إنه حصل عليها من أرشيف مؤسسة صحفية كبرى من داخل ملفه المحفوظ هناك باسم محمد خلف الله. 

كنت قد انتهيت من دراستى «اغتيال عقل.. القصة الكاملة لمحمد أحمد خلف الله»، وتكرم الصديق الكاتب والناقد الكبير إيهاب الملاح بنشرها ضمن مطبوعات «دار المعارف»، وأنهى الصديق العزيز عيد رحيل، المستشار الفنى لمؤسسة «الدستور»، غلاف الكتاب، واختار واحدة من الصور الثلاث لخلف الله، وهو فى شبابه، صورة للغلاف. 

احتفينا معًا أنا وإيهاب الملاح بالغلاف، فقد رأينا أن ما نفعله ليس إلا محاولة لرد الاعتبار لكاتب ومفكر كبير، بدأ مبكرًا فى دراساته القرآنية التى يمكن أن تفيدنا فى قضية التجديد الكبرى، لكنه ظُلم حيًا وميتًا، فقد فُصل من الجامعة بسبب بحوثه ودراساته، وتم تشويه صورته من خلال تكفيره والطعن فى فكره ودينه، وبعد موته لم يلتفت إليه أحد، رغم أنه يستحق منّا الاهتمام والتذكير بما فعله. 

كنت قد رأيت محمد أحمد خلف الله مرة واحدة على البعد فى مناظرة «مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية»، التى عُقدت فى يناير 1992 بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، وكان عمره وقتها 76 عامًا، ولم تكن لدىّ صورة واضحة له إلا صورته التى نشرتها له جريدة «الأهالى» مصاحبة لتقرير صحفى كتبه عنه مجدى حسنين فى 18 يونيو 1997 بعد وفاته بأيام قليلة. 

قارنت بين الصور التى حصلنا عليها لمحمد أحمد خلف الله فى شبابه والصورة الوحيدة المتوفرة له فى شيخوخته، فوجدنا تقاربًا كبيرًا بينهما، فاعتمدنا الصور، وكنت سعيدًا لأننا نلقى الضوء على كاتب ومفكر يستحق كل التقدير. 

بعد أيام من نشرنا الغلاف، تواصلت السيدة رانيا البهتيمى، التى تعمل فى مكتبة الإسكندرية، بالصديق إيهاب الملاح، وأخبرته بأن الصورة التى تحتل غلاف كتاب محمد أحمد خلف الله ليست له، وإنما هى صورة جدها الدكتور محمد خلف الله أحمد، وتواصلت معى السيدة رانيا بعد ذلك، وقدمت نفسها على أنها حفيدة الدكتور محمد خلف الله أحمد، وعادت للتأكيد أن الصور المنشورة لجدها. 

بعد يومين تواصل معى الأستاذ محمد إمام، مساعد رئيس الهيئة العامة للاستعلامات للإعلام الأجنبى، وأخبرنى بأنه من عائلة الدكتور محمد خلف الله أحمد، وأن الصورة المنشورة على غلاف الكتاب له وليست للدكتور محمد أحمد خلف الله. 

يمكنك أن تعتبر أننا وقعنا فى خطأ مهنى، فقد نشرنا صورة خاطئة لمحمد أحمد خلف الله- وهو ما نعتذر عنه بالطبع- لكننى رأيت ما جرى من بعض تصاريف الأقدار، التى خططت دون أن ندرى لأن نكون سببًا فى إلقاء الضوء على قامة علمية وفكرية كبيرة، لا يعرف عنها الكثيرون شيئًا، وهو الدكتور محمد خلف الله أحمد. 

أعترف لكم بأننى تضايقت بشدة من هذا المطب الصحفى، لكننى تخففت قليلًا من هذا الضيق عندما عرفت ما جرى. 

ففى العام ١٩٤٧ وقعت الضجة الكبرى فى حياة محمد أحمد خلف الله، حيث فصلته الجامعة بسبب رسالته للدكتوراة، وطردته من حرمها، ووجد نفسه فى مواجهة حملة صحفية طاغية وباطشة ومستبدة تكفّره وتلعنه وتتهمه بأنه يريد هدم الإسلام. 

وفى نفس العام كان الدكتور محمد خلف الله أحمد قد تم تعيينه رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية. 

وقد وجد الدكتور محمد خلف الله أحمد أن الصحف تخلط بينه وبين الدكتور محمد أحمد خلف الله، وتنسب إليه ما قام به، فأرسل رسالة إلى الصحف ليصحح لها معلوماتها، ويطلب منها عدم الخلط بينهما. 

معنى ذلك أن المطب المهنى الذى وقعنا نحن فيه فى العام ٢٠٢٤ كانت الصحف قد وقعت فيه فى العام ١٩٤٧، ولا أتحجج بذلك لتبرير ما فعلناه، ولكن فقط أتأمل من خلال ذلك تصاريف الأقدار التى ربطت بين الرجلين، ولا يزال هذا الربط مستمرًا. 

على الفور أخذت أنا والصديق العزيز إيهاب الملاح قرارنا بتغيير صورة غلاف الكتاب الذى سيصدر قريبًا، وفكرت أنا فى هذه الهدية التى جاءتنا من السماء، لنطل قليلًا مع سيرة واحد من الرواد فى حياتنا الفكرية والثقافية. 

وكما لا تتوافر معلومات كافية عن الدكتور محمد أحمد خلف الله، فلا تتوافر معلومات كافية أيضًا عن الدكتور محمد خلف الله أحمد، وعندما بحثت وراءه، وجدت مقالين، الأول للكاتب والباحث الأرشيفى محمد الجوادى منشورًا على موقع «الجزيرة. نت»، وكان الجوادى واحدًا من أصدقاء وتلاميذ محمد خلف الله أحمد، والثانى مقال على موقع مجمع اللغة العربية الذى كان واحدًا من أعضائه، وكان ضمن ترجمة لخلف الله شارك فيها كل من عرفوه وعملوا إلى جواره فى مراحل حياته المختلفة.

للدكتور محمد خلف الله أحمد عدة كتب مهمة طبقًا للمنشور عنه، هى: من الوجهة النفسية فى الأدب، ودراسات فى الأدب الإسلامى، الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، الإسلام والحضارة، الطفل من المهد إلى الرشد، ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن الكريم، معالم التطور الحديث فى اللعة العربية وآدابها، وترجم كتابًا مهمًا هو «كيف يعمل العقل؟». 

بحثت عن هذه الكتب، فعثرت على كتابين منها فقط، هما: الطفل من المهد إلى الرشد، ومن الوجهة النفسية فى الأدب، وهو كتابه الأول الذى يعتبر واحدًا من أهم الكتب فى تاريخنا النقدى. 

الدكتور محمد خلف الله أحمد مولود فى قرية «العمرة» بمحافظة سوهاج فى العام ١٩٠٤، يكبره محمد أحمد خلف الله بـ١٢ عامًا، وكان للبيت الذى نشأ فيه واهتمامه بالدراسات العربية والإسلامية وحفظ القرآن دور فى توجيهه إلى العناية بدراسة الأدب والتخصص فيه، فقد حفظ القرآن فى سنواته الأولى، كما حفظ طائفة كبيرة من الشعر العربى، قديمه وحديثه.

التحق بكلية دار العلوم فحصل منها على شهادة الدراسة الثانوية بالمدرسة التجهيزية، ثم دخل القسم العالى فحصل على دبلومة فى العام ١٩٢٨، وكان أول دفعته. 

عرف محمد خلف الله فى دار العلوم بـ«شاعر الطلبة»، وكان كبار الشعراء أمثال أحمد شوقى وحافظ إبراهيم ومطران خليل مطران وإسماعيل صبرى يستمعون إلى أشعاره ويبدون إعجابًا شديدًا بها. 

وفى العام التالى مباشرة سافر إلى إنجلترا ليدرس علوم الفلسفة فى جامعة لندن، وحصل على بكالوريوس فى علم النفس فى العام ١٩٣٤، ثم على الماجستير برسالة عن الأحكام الخلقية عند أطفال المدارس وعلاقتها بالعمر العقلى فى العام ١٩٣٧. 

خلال الفترة التى قضاها فى لندن كان لمحمد خلف الله أحمد نشاط ملحوظ، فقد اُنتدب ليحاضر فى مدرسة اللغات الشرقية، واُنتخب سكرتيرًا للنادى المصرى لمدة عامين، ونظم بالاشتراك مع زملائه مؤتمرات سنوية للطلاب المصريين فى إنجلترا لمناقشة أوجه الإصلاح فى المجتمع المصرى. 

عاد خلف الله إلى القاهرة ليعمل أولًا فى كليته دار العلوم، التى انتقل منها إلى كلية الآداب جامعة فؤاد الأول «القاهرة بعد ذلك»، ثم استقر به الحال فى آداب الإسكندرية، التى أصبح عميدًا لها فى العام ١٩٥١، وكانت محطته التالية وكيلًا لجامعة عين شمس فى العام ١٩٦١، وهو المنصب الذى ظل فيه حتى أحيل إلى التقاعد فى العام ١٩٦٤. 

لم يستسلم محمد خلف الله أحمد لكسل التقاعد، بدأ رحلة جديدة، حيث عمل مديرًا لمعهد الدراسات العربية، لكنه، ولما كان يتمتع به من عزة نفس ومعرفة حقيقية بمكانه ومكانته، ترك العمل فى المعهد لأنهم جاءوا برئيس له رأى أنه أقل منه علمًا وكفاءة إدارية. 

من بين ما حققه محمد خلف الله أحمد فى مسيرته العملية كانت عضويته المبكرة فى مجمع اللغة العربية، حيث تم انتخابه فى العام ١٩٥٩ ليشغل الكرسى الثامن من كراسى المجمع، الذى كان يشغله قبله الأستاذ محمد الخضر حسين منذ تأسيس المجمع وحتى وفاته فى العام ١٩٥٨، وكان الخضر حسين لمن لا يعرفون شيخًا للأزهر، وهو ما يؤكد مكانة وجدارة محمد خلف الله أحمد. 

فى تاريخ الدراسات الأدبية يعتبر المشتغلون الدكتور محمد خلف الله أحمد هو الأستاذ الثالث للأدب العربى وتاريخه فى الجامعات المصرية بعد طه حسين وأحمد أمين، وكان طبيعيًا تأسيسًا على ذلك أن يكون هو الأستاذ الثانى الذى يحصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب فى العام ١٩٧٠، بعد طه حسين الذى كان أول من حصل عليها فى العام ١٩٥٨. 

ومن بين الشهادات المهمة التى تكشف لنا قيمة محمد خلف الله أحمد ما كتبه عنه صديقه ورفيق طريقه العلمى والأكاديمى الدكتور إبراهيم مدكور، الذى كان رئيسًا لمجمع اللغة العربية. 

يقول مدكور عن خلف الله: كان جوهرة نادرة فى صفائها وصدقها، كريمة فى قيمتها، وقد لمس منه هذا كل من اتصل به وعاشره، وقد كان صديق العمر. 

ويشير إلى معرفته به: عرفته منذ سن مبكرة، جمع بيننا معهد واحد، وتناقشنا تناقش الشباب، دون أن يعدو ذلك فى شىء على صداقتنا ومودتنا، وأعتز بصداقة وزمالة دامتا أكثر من ستين عامًا، جمعتنا دار العلوم علمًا وأدبًا وشعرًا، وارتفع فيها شعرنا إبان الثورة الوطنية، بعد أن التحق بالقسم التجهيزى، وساهمنا فى الاحتفال بالعيد الألفى للمتنبى سنة ١٩٣٦ فى دار السفارة المصرية بلندن، وتقاسمنا مسئولية اللجان لترقية الأساتذة فى اللغة العربية وآدابها، وفى اللغة الإنجليزية وآدابها فى الجامعات المصرية حقبة طويلة، وتزاملنا عضوية المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، كما تزاملنا فى عضوية مجمع اللغة العريية، وساهمنا متلازمين فى معظم لجانه، وسعدنا بالاشتراك فى عضوية مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وكنا من مؤسسيه فى أول دفعة تكوينه، وأشرفنا معًا على إخراج «التفسير الوسيط». 

وعندما قعد المرض بخلف الله- كما يقول مدكور- فى السنتين الأخيرتين من حياته- توفى فى العام ١٩٨٣- ولزم بيته فى الإسكندرية، لم تنقطع المكاتبات بينهما. 

يقول مدكور: قبل وفاته بأيام كتب إلىّ مهنئًا لوسام حصلت عليه، فرددت عليه: أثرت شجونى، ولما لم يأتنى منه رد انزعجت، وكتبت رسالة قصيرة قلت فيها: أريد منك كلمة تقول.. أنا بخير، ولكن كان قد حم القضاء. 

لم تكن مفارقة الاسم الملتبس هى ما جمعت بين محمد أحمد خلف الله ومحمد خلف الله أحمد، فقد كانت هناك مفارقة أخرى. 

دعونا نفتح معًا كتابه «من الوجهة النفسية فى دراسة الأدب ونقده»، الذى صدر فى العام ١٩٤٧، وهذا هو الاسم الصحيح والكامل للكتاب، فمن كتبوا عنه أشاروا إلى أن اسم الكتاب هو فقط «من الوجهة النفسية فى الأدب». 

يقول محمد خلف الله فى مقدمة كتابه: فى سنة ١٩٣٨ أنشأت كلية الآداب بالقاهرة دراسة جديدة لطلبة الدراسات العليا بها، جعلت موضوعها «صلة علم النفس بالأدب»، وعهدت إلى الأستاذ الجليل أحمد أمين وإلىّ القيام على هذه الدراسة، فتقاسمنا العمل معًا، بعد أن استعرضنا جوانبها معًا، وبعد أن حددنا وسائلها وأهدافها. 

كان لمحمد خلف الله منهج واضح فى ترسيخ علاقة علم النفس بالأدب. 

يقول عنه: فى اعتقادى أنه لن يتسنى التحرر من نير البلاغة الشكلية، والعودة بالنقد العربى إلى وظيفته الجوهرية من حسن فهم للنص الأدبى، وخضوع لنواحى تأثيره، ومشاركة لمنشئه فى تجربته، وإدراك لما بين الأدب والحياة من صلات، إلا على أساس من فلسفة ذوقية نفسية شاملة تنير السبيل أمام الناقد، وتوسع آفاقه، وتعيد للتجربة الأدبية طابعها الإنسانى الأصيل. 

تقريبًا كان هذا ما يفعله محمد أحمد خلف الله فى دراساته القرآنية، فكل منهما، خلف الله الأول والثانى، كان ينطلق من دراسته إلى التجديد والتحديث، وربما يكون لاقى محمد أحمد خلف الله ما لم يلاقيه أو يقابله محمد خلف الله أحمد، لأن الأول انصبت دراساته على القرآن الكريم، والثانى اهتم بدور الناقد الأدبى وتحديث أدواته وتطوير مداخله، وهو ما لم يزعج أحدًا، فلم يزعجه أحد بالتبعية. 

لكن أين المفارقة التى نتحدث عنها؟ 

المفارقة أن أحمد أمين، الذى كان شريكًا لمحمد خلف الله أحمد فى منهجه لتحديث أدوات النقد الأدبى وتريخ علاقته بعلم النفس، كان هو نفسه من قطع الطريق على محمد أحمد خلف الله وساعد فى رفض رسالته للدكتوراة، بل كان واحدًا ممن هاجموه فى الصحف وساعدوا فى تشويه صورته والانتقاص من قدره وقيمته العلمية والفكرية. 

كانت لمحمد خلف الله أحمد إسهامات فكرية مهمة، لكن ربما يكون حظه من الشهرة والمعرفة أقل من محمد أحمد خلف الله فى المجال العام، لأنه كان أكاديميًا ملتزمًا بقواعد وحدود الحياة الأكاديمية، ثم إنه لم يأتِ بما يخالف ما تعارف عليه الناس، بل كان يمارس التجديد فى المياه الفكرية الإقليمية الآمنة ولم يخرج عنها أبدًا. 

ولأننى لدى يقين بالإشارات القدرية، فقد اعتبرت الصورة التى نشرناها من باب اللبس لمحمد خلف الله أحمد على أنها لمحمد أحمد خلف الله إشارة قدرية إلى أن نهتم بمنجز واحد من أساتذة الأدب الكبار فى تاريخنا الثقافى، لم يحظَ بما يستحقه ولا يعرف كثيرون عنه شيئًا. 

وقد تكون هذه مناسبة لننشر واحدًا من أهم فصول كتابه «من الوجهة النفسية فى دراسة الأدب ونقده»، وهو الفصل الذى تتحدد ملامحه بالعناوين الآتية: تطور النقد الأدبى خلال العصور- أول أساس اعتمد عليه النقد- التباين فى مناهج الدراسات الأدبية- ثقافة الناقد- دراسة الجمال- دراسات النفس- بطء سير الدراسات النفسية فى مصر». 

نفعل ذلك الآن لعل الدكتور محمد خلف الله أحمد يرضى.

ولعل حفيدته الأستاذة رانيا البهتيمى ترضى أيضًا.