الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

اعترافات داعية تطبيع مع إسرائيل.. لطفى الخولى: هؤلاء أضاعوا السلام!

حرف

- إسرائيل لا تستطيع أن تنزل بنا هزيمة ساحقة ولم تعد قادرة على استمرار احتلالها للأرض

- إسرائيل مشروع استعمارى غربى قبل أن تكون مشروعًا يهوديًا غربيًا

- لم نعد نستطيع أن نقول للإسرائيليين: اتركوا فلسطين وعودوا إلى بلادكم ولا نستطيع تدمير إسرائيل 

- عبدالناصر أول من اعترف بإسرائيل ومبادرة روجرز التى قبلها هى المسودة الأولى لمعاهدة كامب ديفيد

دفع لطفى الخولى ثمن مواقفه وأفكاره؛ سجينًا فى عهد عبدالناصر.. مغضوبًا عليه ومفصولًا من عمله مع السادات.. ومتهمًا بالخيانة حين عدل عن بعض آرائه وبدل انحيازاته.

ولا أنكر أن تقلباته كانت مفزعة لهؤلاء الذين لا يملكون القدرة على مراجعة أنفسهم وما يؤمنون به.

لقد امتلك لطفى الخولى القدرة على أن يتحول من رافض لـ«كامب ديفيد» إلى «داعية سلام مع إسرائيل»، ومشاركًا فى حركة تعمل على هذا الهدف، الذى يرتقى، فى العقل العربى، إلى «مرتبة الخيانة العظمى».

وكان يمكن أن يكتفى بطرح رؤاه، وتحمل العواصف المضادة، دون أن يتورط فى عمل على الأرض يمكن أن يجلب عليه حتى الموت.

لكنه يقول: «أنا من مدرسة ثقافية فكرية سياسية ترى أن المفكر ليس واحدًا من مجاذيب سيدنا الحسين.. ولكننى من مدرسة (جرامشى) صاحب النظرية الخطيرة التى تسمى نظرية (المثقف العضوى)، أى المثقف الذى يحاول أن يترجم أفكاره فى حركة مع الناس، وبالتالى لا يقف على الرصيف (رصيف الأحداث).. أنا لست مثل نموذج المثقف الذى يقدم الرؤى ويعطى النصائح الرشيدة فقط، ولكننى من مدرسة ترجمة ذلك إلى فعل».

وقد أفنى لطفى الخولى سنواته الأخيرة فى محاولة وضع رؤية جديدة لحل الصراع العربى الإسرائيلى، وهى الرؤية التى جلبت عليه كل اللعنات.. غير أنه لم يتراجع عن محاولته المساعدة فى الوصول إلى سلام ينهى الصراع المسلح قبل أن نصل إلى نقطة اللا عودة.

وهى النقطة التى وصلنا إليها، تقريبًا، بعد السابع من أكتوبر 2023.

وإذا كان البعض يرى- بعد كل ما جرى على مدار العام الأخير- أن «السلام» بات من «رابع المستحيلات»، فإن حركة التاريخ تقول إنه لا سبيل فى النهاية إلا «سبيل السلام» ووقف هذا الجنون المتبادل.

ومن هنا كان ضروريًا أن نتوقف عند ما قاله واحد من كبار «المناضلين» على هذا الطريق.. وهو لطفى الخولى.. الذى أعادت الكاتبة زينب عبدالرازق اكتشافه فى كتابها المهم «لطفى الخولى.. سيجار الماركسية والتمرد»، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر.

والمدهش أن الرجل يتكلم كما لو كان بيننا الآن، رغم أن حديثه يعود إلى ما يزيد على 25 سنة.

يؤمن لطفى الخولى بأنه دون تسوية سياسية سلمية سيظل شلال الدم متدفقًا.. وبأن طريق التسوية هو الوحيد القادر على حفظ دماء الإنسان سواء تحت جلد الفلسطينيين أو تحت جلد الإسرائيليين.

والتسوية لا بد لها من «حل وسط».

يفسر لطفى الخولى رؤيته ويقول: فى أى موضوع خلافى فإن أطراف الخلاف يقدمون بعض التنازلات، وهى التى تجعل هذه التسوية ممكنة وضرورية وحتمية.

ولا يخفى على أحد أنه «لا توجد تسوية سياسية فى أى قضية فى تاريخ العالم شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا ليس فيها إجحاف لأطراف الصراع».

ومن المهم هنا- كما يرى- التفرقة بين الحل التاريخى للقضية الفلسطينية والتسوية السياسية السلمية.

والحل التاريخى معناه أن طرفًا يقضى على الطرف الآخر، أن ينزل طرف هزيمة ساحقة ماحقة بالطرف الآخر. وبات واضحًا، خلال تاريخ الصراع، أن إسرائيل لا تستطيع أن تنزل بنا هزيمة ساحقة، رغم ما كبدته من هزائم لنا، كذلك نحن لم نحقق انتصارًا حاسمًا. 

أما التسوية فهى أمر آخر.

يرى لطفى الخولى أن من غير المعقول أن يستمر استنزاف الدم بين الطرفين، وأن يحاول كل طرف أن يصفى الآخر.. ومع ذلك لم ينجح أحدهما.

وهو يعتقد أن الطرفين لا يستطيعان أن يستمرا فى هذا الصراع، لأن نفقاته البشرية والعسكرية كبيرة.

ثم إننا لم نعد- على المدى المنظور- نستطيع أن نقول للإسرائيليين: اتركوا فلسطين وعودوا إلى بلادكم. أنتم لا تستطيعون التعايش معنا.. كما لا نستطيع تدمير إسرائيل كما يقول البعض.

وإسرائيل أيضًا لم تعد قادرة على استمرار احتلالها الأرض.

إذن فلنجرب التعايش معًا.

يقول لطفى الخولى: «على الجانبين هناك قوى أصولية يهودية، وفى الوقت نفسه توجد أصولية إسلامية، وأيضًا توجد معارضات ضد الاستمرار فى الصدام العسكرى.. لكن التيار العام يريد التسوية السياسية».

وهذه التسوية تستتبع معها أن يتحول الصراع من الصدام العسكرى إلى الصراع الثقافى والاقتصادى والتكنولوجى.. المهم أنه سيكون صراعًا سلميًا.

لكن السؤال الكبير هو: كيف؟

وفى طريق الإجابة ألقى لطفى الخولى بنفسه فى وسط النار.

كان ذلك يناير من العام ١٩٩٧ حين صدر «إعلان كوبنهاجن»، وهو إعلان عن تأسيس التحالف الدولى من أجل السلام، بمشاركة وفود من فلسطين ومصر والأردن وإسرائيل، وذلك بمبادرة من الحكومة الدنماركية، وبمباركة من عمرو موسى، وزير الخارجية آنذاك.

الهدف كان دعم عملية السلام وإقامة حوار مع العدو.

لكن بمجرد إعلان هذا التحالف انفجرت «عاصفة تخوين» فى العواصم العربية لا سيما القاهرة، وكان لطفى الخولى فى القلب منها وناله ما ناله من اتهامات ومقاطعة وتهديد، قبل أن تهدأ عاصفة الصدمة تجاه أحد المثقفين الذين أفنوا زهرة شبابهم فى تعليم الأجيال العربية صباحًا ومساءً، خاصة فى ظل مناخ انتشرت فيه المقولة الشهيرة: «عليك أن تلعن إسرائيل قبل أن تغسل يديك ووجهك».

الاتهام الأكبر الذى لاحق «جماعة كوبنهاجن» أنهم يقدمون أول اعتراف عربى شعبى بإسرائيل،

وهو الاتهام الذى يرد عليه لطفى الخولى بإيجاز قائلًا: عبدالناصر أول من اعترف بإسرائيل.

وهذا الإجمال يفصله قائلًا:

«الاعتراف العربى الإسرائيلى المتبادل والتنازل من الطرفين بدأ بعد حرب ١٩٦٧ ولكن الفكر العربى يريد محو الحقيقة.. فبعد ٦٧ قبل العرب، وقبلت مصر، قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢، الذى نص القرار على إنهاء حالة الحرب والاعتراف ضمنًا بإسرائيل دون ربط ذلك بحل قضية فلسطين، وبدأنا نتعامل مع مبعوث الأمم المتحدة لتنفيذ هذا القرار الذى قبلناه، ومعنى هذا أننا بدأنا مسيرة السلام والاعتراف الواقع بإسرائيل ٦٧ أى أن قبول القرار ٢٤٢ كان بداية التمهيد للسلام مع إسرائيل، وتم تدشين ذلك عندما وافق عبدالناصر على مبادرة روجرز، الذى هى- فى مضمونها- كما لو كانت المسودة الأولى لمعاهدة كامب ديفيد، وبالتالى يكون عبدالناصر هو أول من اعترف بإسرائيل».

غير أن لطفى الخولى ليس سياسيًا كى نحاسبه بمعايير ضروريات السياسة التى قد تتيح محظورات الثوابت، بل مثقف لديه التزامات تجاه قضايا وطنه.

ثم إنه خرج عن إجمال اليسار المصرى الذى ينتمى إليه فيما يخص التسوية مع إسرائيل.. وهو الذى قبل أن يجلس فى مكان واحد مع ضابط الموساد الإسرائيلى ديفيد كيمحى.

لكنه لا يقف عند كل ذلك.. فحركة كوبنهاجن هدفها دفع عملية التسوية السياسية الشاملة العادلة المتوازنة، التى تعانى من التعسر لأسباب عديدة فى مقدمتها مجىء نتنياهو- لاحظ معى أن الكلام يعود لعام ٩٦- إلى السلطة بتحالف الليكود المعادى للسلام، الذى يقف عند وهم بناء إسرائيل الكبرى «يقابلها عندنا جماعات تحاول بناء الوهم العربى بالدعوة إلى فلسطين الكبرى من البحر إلى النهر» وعدم الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى.

من هنا تأتى أهمية أن يتكون، لأول مرة، تحالف قوى فلسطينية وعربية وإسرائيلية من أجل دفع عملية التسوية، تمهيدًا للسلام، فإعلان كوبنهاجن يطالب بأن يقام السلام العادل والمتوازن وقيام الدولية الفلسطينية المستقلة، فى الضفة الغربية وعاصمتها القدس الشرقية، والجلاء عن كل الجولان، والجلاء عن جنوب لبنان «تحرر الجنوب بانسحاب إسرائيل عام ٢٠٠٠ لكنه مهدد الآن بإعادة احتلال جزء منه».

يتوقف لطفى الخولى عند آراء المعارضين لإعلان كوبنهاجن، بعد تنقيتها من الشتائم والسباب يقول إنها تسير فى اتجاهين:

الاتجاه المعارض الأول وهو لا يستطيع بصراحة أن يرفض السلام مع إسرائيل، مع اعترافه بأنها دولية عنصرية ومغتصبة ومحتلة وقادمة من الخارج، وفى نفس الوقت فإن هذا الاتجاه لا يعترف بإسرائيل، ولكنه لا يرفض مبدأ السلام، وهذا كان منطلق الأمور عند الصدام المبدئى فى مرحلة الحرب بيننا وبين إسرائيل.. وكان هذا موقف مصر وكل العرب.. لا نريد إسرائيل ولا الاعتراف بها.. وإسرائيل أيضًا لا تريد الاعتراف بوجود الشعب الفلسطينى، وتريد أن تقفز على هذا الوضع بالاتفاق فى ذلك مع البلاد العربية وبالذات مصر. 

لكن تطور الأحداث وحركتها أثبت أنّ لا إسرائيل قادرة على تجاوز الشعب الفلسطينى وإنكار حقوقه.. ولا نحن قادرون على تصفية إسرئيل بالقوة.. فحدث ما يمكن أن يسمى الانتقال إلى تسوية الصراع، أى إلى التسوية السلمية.. وفى هذه التسوية- مثل أى صراع آخر فى العالم- تحدث تنازلات متبادلة من الطرفين.. لكن الفكر العربى غير قادر على الاقتناع بالحل الوسط مع الوحيد.. وهناك اتجاهات معينة فى الفكر العربى تعترف بأن الاعتراف بالوجود لإسرائيل استسلام، وأيضًا يقولون السلام استسلام.

يقول: هذا موجود عند بعض الناس، لكنه للأسف يصطدم مع الحقيقة التى تقول بأن الحرب الحرب غير ممكنة وأحيانًا مستحيلة. وإنه ليس عندنا كعرب ولا عند إسرائيل القوة التى تنزل بنا أو ننزل بها نحن «الهزيمة الساحقة الماحقة».

أما الاتجاه الثانى فيضم بعض الأشخاص الذى لديهم تصور بأن المعجزة قادمة.. إنهم فى انتظار معجزة مثل مسرحية الكتاب الأيرلندى «صمويل بيكت».. فى انتظار الشخص الأسطورى «جودو» الذى لا يجىء أبدًا مهما طال الانتظار، وأنه لا مفر من أن يأتى «جودو» بمعجزة.. وأن يمحق إسرائيل ويصرعها وينهى الصراع.

وهؤلاء الذى يفكرون بالمنطق الغيبى.. يقولون ما دمنا لا نستطيع أن نمحو الاحتلال الإسرائيلى، ولا إسرائيل تستطيع أن تلغى الكيان الفلسطينى، فما الذى يمنع أن ننتظر عشرة أو عشرين عامًا؟ أى نثبت الوضع على ما هو عليه ونقوى أنفسنا.. ثم عندما نقوى الذات ونسلحها.. إلى آخر، نقوم بمعركة نحسم بها هذا الصراع «كان يحيى السنوار يرى فى طوفان الأقصى المعركة الحاسمة للصراع!».

وبين هذا وذاك يضع لطفى الخولى الحقيقة المطلقة «لا إدارة عسكرية للصراع».

كان يؤمن بأن أى حرب عربية إسرائيلية قادمة فيها دمار شامل للطرفين، وللإنسان والأرض والمصانع والمزارع، وبالتالى فلا أحد يرغب فى الحرب إلا إذا جاء شخص مغامر مجنون مثل نتنياهو «وصفه بأنه أخطر وأسوأ رئيس وزراء جاء فى تاريخ إسرائيل، وأنه يحرك كل القوى العنصرية فى المجتمع الإسرائيلى!

بدالناصر وهيكل والخولى

وعلامة التعجب هذه من عندى.. فكأن لطفى الخولى كان يقرأ المستقبل من ٢٧ سنة؛ فنتنياهو صعد إلى السلطة عام ١٩٩٧ ولم ينزل عنها إلا قليلًا.. وها هى الحرب الشاملة تقترب، ونتنياهو يفعل كل شىء لأجل اندلاعها.

وكان لطفى الخولى، ومن معه فى كوبنهاجن وبينهم إسرائيليون، يريدون قطع الطريق أمام هذا السيناريو الكارثى بالضغط من أجل الوصول إلى تسوية.

لكن الذى حدث هو العكس تمامًا.

دُمرت كل الطرق إلى السلام سنة وراء الأخرى حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن بفعل انسداد الأفق أمام التسوية والحلول الوسط.

هذا التدمير قاده نتنياهو أولًا بتنصله من كل التزامات السلام ورغبته فى اختفاء الفلسطينيين، وساعدته «الأصولية الإسلامية» فى الجانب الفلسطينى فى الوصول إلى مراده، بأفعالها، من دون أن تدرى.. غالبًا.