صدمة جمال حمدان: الأدب لا يعدو أن يكون سقط متاع العقل البشرى
- الأدباء الجدد مثل يوسف القعيد وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان تسلقوا ترام العالمية فى غفلة من الزمن
- لم أستطع أن أرى موضوعًا للأدب.. وقيمته المادية فى الحياة محدودة جدًا
قبل سنوات من رحيله الغامض اختار مفكرنا الأعظم د. جمال حمدان أن يدخل فى «عزلة اختيارية»، معتكفًا فى محرابه يقرأ ويكتب، ولم يستطع أحد« أيًا كان» أن يكسر عليه عزلته، حتى أصدقاؤه المقربون كانوا لا يجرؤون على زيارته ويلجأون بدلًا من ذلك، لترك خطاباتهم أمام باب منزله.
وكما اعتكف عن الخروج والظهور العام، غاب أيضًا عن الصحافة والحديث إليها.. لكن هناك من استطاع أن يكسر «جدار الصمت»، وأن يقنع الرجل الصامت بأن يتحدث.
حدث هذا فى عام ١٩٨٦، ومع العودة لأرشيف مجلة «آخر ساعة»، وتحديدًا عددها الصادر فى ٣٠ أغسطس من هذا العام، فى هذا العدد تحدث جمال حمدان لأول مرة منذ سنوات، وكان صريحًا واضحًا وقاسيًا فى بعض الأحيان.
وقد يكون من «محاسن الصدف» أن نعثر على هذا العدد، وهذا الحوار ونحن نعد فى «حرف» ملفًا عن «الرواية».. والصدفة الحسنة أن جمال حمدان قد تحدث لـ«آخر ساعة» عن رأيه فى الرواية والأدب عمومًا.. وهو رأى غير منتشر ولا نتجاوز أو نبالغ إذا قلنا إنه غير معروف بالأساس.
فما الذى قاله مفكرنا الأعظم إذن؟
قال الدكتور جمال حمدان:
أنا قارئ نهم طول عمرى لأسباب كثيرة وفى جيلنا كانت فترة التلمذة الثانوية فى عصر روايات الجيب، لم يكن فى مصر قارئ من رجل راشد إلى تلميذ إلا ويقرأ روايات الجيب، فكانت کالأفيون ولقد قرأت حوالى ٥٠٠ رواية جيب: أنا كارنينا، البؤساء، بائعة الخبز أعمال فلوبير، فأنا قارئ قديم جدًا ومع ذلك والغرابة كنت بعيدًا عن الأدب وبصراحة أكثر وقد يؤذى هذا بعض الأصدقاء لم أؤمن بالأدب فترة طويلة من حياتى أو معظم حياتى، وشككت فى مجرد وجوده، ولفترة طويلة كنت أعتبر أنه لا يعدو أن يكون سَقط متاع العقل البشرى، وكان هذا فعلًا تعريفى للأدب لماذا؟ لأننى لم أستطع أن أرى له موضوعًا، ومن الممكن أن يخوض فى كل شىء دون أن يتقيد بأى حقيقة فى النهاية، وكان دائمًا أعذب الأدب كالشعر أكذبه وفى النهاية هو عناء وموهبة ومعاناة، وقيمته المادية فى الحياة محدودة جدًا، لكل هذه الأسباب كنت أشك إلى حد بعيد فى الأدب، ولكن مع النضج العقلى بدأت أرى أنه من الممكن أن يُترك هامش ضيق على جانب الحياة لهذا النوع من الترفيه العقلى، ومع ذلك فأنا أقرأ الآن لكثير من الأدباء ينعون الأدب فى المستقبل. البعض يقول إن عصر الحضارة الحديثة فى القرن العشرين: التليفزيون والفيديو، لم يعد عصر الأدب. من قبل الصحافة ورثت جزءًا كبيرًا جدًا من الأدب والآن ترث البقية السينما، أستطيع مثلًا أن أشاهد فيلمًا فى السينما فى ساعة يختصر فى الحرب والسلام لتولستوى التى أقرأها فى ثلاثة أيام، وأصبح هيكل القصة أو الفكرة نفسها هى محور الأصالة فى الأدب، أما الوصف والأسلوب تلاشى على شاشة التليفزيون والسينما. وأنا أعتقد أن الأدب أساسًا هو الأسلوب الجميل، الفكر مطلوب والمضمون لا بد منه، ولكن بدون الأسلوب أنا لا أقبل الأدب، ومن هنا أحب طه حسين، فأنا أشعر بالموسيقى العارمة فى أسلوبه. أحب أيضًا العقاد رغم أسلوبه الجاف وأنا أعتبره صاحب فكر فى الدرجة الأولى، وأسلوب فى الدرجة الثانية، أيضًا صاحب الثلاثية نجيب محفوظ. وأنا أعتقد أن يوسف إدريس هو همزة الوصل بين القديم والجديد، هو قمة الرواية فى مصر أو القصة فى مصر وأستاذ الجيل من الأدباء الجدد. ومن أبرز الأدباء الجدد يوسف القعيد والغيطانى وأصلان وصنع الله إبراهم. عبدالحكيم قاسم ومجيد طوبيا ولحسن الحظ أن كلهم تسلقوا ترام العالمية فى غفلة من الزمن.
ولا يستبعد أن يأخذ أحدهم جائزة نوبل فى الأدب، وهذا شىء نرحب به جدًا، ولولا أنه يثير بعض الأشجان، وأقصد بذلك الشوامخ والقمم التى غادرتنا فضاعت عليها الفرصة كطه حسين، فيكون غريبًا جدًا أن يأخذ جائزة نوبل الغيطانى ولا يأخذها طه حسين، ولكن هذه المفارقات يعوضها أن كل ذلك لمصر. أما سر إعجابى بيحيى حقى فأنا أعتبره سيد الكلمة الشعبية الجميلة ولهذا الرجل «معزة» كبيرة فى نفسى.
جمال حمدان يتوسط مجموعة من اصدقائه
■ ما هى هواياتك غير القراءة؟
أنا لم أكن قارئًا إلا فى الدرجة الثانية كهواية، أما الحرفة فأمر آخر. فالجغرافى رغم أنفه قارئ لكل شىء ولكنه كاتب جغرافيا فقط.
أنا ولدت خطاطًا وأصبح الخط جزءًا أساسيًا من حياتى، لكن الرسم هى الهواية التى ظهرت بعد ذلك بقليل، بدأت رسام كاريكاتير، وبعد ذلك تحولت إلى الرسم الحقيقى وأصبحت مدمن رسم ليلًا ونهارًا، وكنت أرسم الطبيعة وكنت أذهب إلى روض الفرج لأرسم الطبيعة، وفى تلك الفترة كنت تحت تأثير ونفوذ مجموعة من الرسامين فى مصر أعتبرهم اليوم من أعظم الفنانين العالميين بجميع المقاييس «أحمد صبرى» التأثيرى و«محمود سعيد» التأثيرى، أيضًا هناك «راغب عياد» ومن الأجيال الحديثة: «حامد ندا» و«طه حسين»، ولكن للأسف الشديد أن أكثر الفنون فى مصر الحديثة تقدمًا هو الرسم، ولكنه أكثرها عدم إنصاف وعدم شهرة فالفنانون منفيون، يعيشون فى قواقع مثل مغنى الأوبرا فى مصر لا يسمعون إلا أنفسهم، وهم فى حالة اغتراب عن الجماهير، وهذا راجع إلى أن المستوى الفنى فى مصر لا يصلح للتذوق.
وكنت أعتبر روبنز وفلازكيس هما الأكابر، وكان هذا تحت تأثير ما ينشر فى مصر وما أطلع عليه، فكانت نافذتى على الرسم العالمى محدودة جدًا، وتصورت أن فنانى النهضة هم الأكابر، واكتشفت أن هذا ليس صحيحًا عندما التقيت بالفن الحقيقى فى أوروبا لأول مرة، وأنا أعترف بهذا وهم التأثيريون. المدرسة التأثيرية الفرنسية وهى تشمل مجموعة معروفة جدًا: مونيه - مانيه - ديجا لوتريك - سيزان - رونوار، هؤلاء قمم الرسم فى التاريخ كله هم القمة وهم النهاية، بعد ذلك حدث الانهيار التجريدى وكل الجدد أنا أقدرهم ولكن كمستوى أقل بكثير من القمة التاريخية وهى التأثيرية ومن ناحية أخرى أقبل بعضًا من هذا الفن التجريدى لا كرسم حقيقى وإنما كنوع من الرسم الزخرفى، وفى إنجلترا عشت سنة رسم وسنة موسيقى وسنة جغرافيا وعشت الرسم كممارس وكهاوٍ.
جمال حمدان
■ يقولون إنك تحب العزلة.. ما السر وراء هذه العزلة؟
وأجاب الدكتور جمال حمدان قائلًا:
هم يقولون، ماذا يقولون؟ دعهم يقولوا؟
ليس فى الأمر عزلة وأنا أضطرب فيما يضطرب فيه الناس كما قال طه حسين وأعيش مع الناس. وعندما كنت فى إنجلترا كنت أدعو أناسًا لا أعرفهم ليشاركونى الشاى وحياتى. ولكن أنا أعترف أنه منذ بعض الوقت اليوم الذى أخرج فيه وأقابل ناسًا لا أكتب حرفًا واحدًا أقرأ نعم، أفكر جائز، إنما لا أستطيع الكتابة وهذا هو السبب الرئيسى لهذه العزلة. وأنا عادة أستيقظ فى الفجر وأبدأ فى الكتابة حتى الساعة الحادية عشرة، ثم أعاود الكتابة مرة أخرى من الساعة الثالثة حتى السابعة، والقراءة سهلة والتفكير عندى أسهل من القراءة، ولكن مشكلتى الحقيقية هى الكتابة، فلكى أكتب أجد معاناة وأنا أعرف أن هناك نوعين من الكتاب أسميهما بالنوع «البيتهوفينى» وبالنوع «الموتسارتى». فمن المعروف أن موتسارت يسيل عذوبة ورقة وألحانه كالماء السلسبيل وتخرج منه بنفس الطريقة بهدوء وسهولة، والعكس تمامًا بيتهوفين هذا الرجل كان يكتب السيمفونية فى ٥ سنين.
■ لماذا اخترت الجغرافيا بالذات ميدانًا للبحث؟
قال الدكتور جمال حمدان:
هذه مهنتى وهوايتى التقى فيها استعدادى الطبيعى مع ميلى الشخصى وأنا أعتقد أن تركيبة عقليتى جغرافية بحتة، فأنا مخلوق جغرافى أو حيوان جغرافى. فلقد خلقت جغرافيًا رغم أنفى. وأنا أعتقد أن استعدادى الطبيعى للجغرافيا هو الترجمة العلمية لاستعداداتى وميولى الفنية، فأنا أقترب بالجغرافيا من الفن وأنا تستهوينى الطبيعة وجمالها.
■ لماذا كان التركيز على كتاب «شخصية مصر» مع أن لك عشرين كتابًا آخر؟
قال الدكتور جمال حمدان: هذه ليست مشكلتى إنها مشكلة الآخرين والحقيقة هى أننى معتز كثيرًا جدًا بكتبى، ومن الصعب علىّ أن أميز بين كتاب وآخر. أنا أعتز اعتزازًا كبيرًا جدًا بكتاب «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، وهو كتاب خطير جاد ونفس هذا الكلام أقوله عن کتابی «جغرافيا المدن» وأيضًا كتاب «إفريقيا الجديدة».
ولكن إذا كان هناك شىء أعتز به فى كل ما أكتبه فهو الجدة والجديد والأصالة والابتكار والخلق.. وأقول إن أى كتابة علمية أو غير علمية لا قيمة لها إلا بالتجديد وإذا لم تأتنا بجديد فاصمت. الكتابات العلمية فى العالم كله والأبحاث الأكاديمية الرفيعة جدًا المعروف أن العالم أو الأستاذ لا يضيف فى مادته أكثر من ٥ أو ١٠ فى المائة أو ١٥ فى المائة من حجم المكتوب هذا هو أقصى ما يضيفه العالم، أنا أزعم أننى فى بعض ما أكتب تصل النسبة إلى ٤٠ فى المائة و٥٠ فى المائة، وبكل تواضع لن يعرف مدى الجديد فى كتابتى إلا المتخصص، من حيث كتبى أنا عاجز تمامًا عن التفرقة أو التمييز بينها إلا ربما على أساس الكم لا الكيف، فالكتب كلها فى مستوى واحد من الناحية الكيفية، ومع ذلك لا شك أن «شخصية مصر» له قيمة خاصة، لأنه موضوع قومی کتب للملايين وجمهوره بالملايين، وأنا من أنصار الجغرافيا للملايين على وزن العلم للملايين ومشكلة الكتابة التبسيطية للقارئ غير المتخصص شىء مطلوب جدًا، وقام به أعاظم العلماء فى العالم، وأعتقد أننى قمت بعمل هذا إلى حد ما فى مصر فى الجغرافيا، ولكن شخصية مصر من هذه الناحية استقطبت أكبر عدد ممكن من القراء غير الجغرافيين بالضرورة، لأن الموضوع عبارة عن بلدهم. جوهر البلد وكان من الغريب جدًا أن تعيش مصر بدون أن ترى نفسها فى مرآة علمية مصغرة تجد نفسها فيها.
هذا التركيز على شخصية مصر هو آفة كل كاتب له أعمال كبيرة، فمثلًا صديقنا الحميم وأستاذ الجيل يحيى حقى يشكو مُر الشكوى من «قنديل أم هاشم»، فالقنديل وضع أكثر أعماله الأخرى الممتازة فى الظل، ونفس الشىء بالنسبة لمبدع «البؤساء» فيكتور هوجو، فإن له أعمالًا أخرى رائعة، ولكن هذه الأعمال فى حالة خسوف جزئى بفعل البؤساء!
■ ما هو رأيك فى الحركة الثقافية الآن فى مصر؟
قال الدكتور جمال حمدان:
هناك فى كل ما يتعلق بمصر مجموعتان من المفكرين أو غير المفكرين الذين يعتقدون أن مصر بخير، هؤلاء المخلصون أو الغافلون أو الخبثاء الملاعين المغرضون معروفة أسبابهم، معروف من هم، يقولون ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أما المجموعة الأخرى هى التى تقول مصر فى خطر، وهذا أيضًا خطر لأنه معناه أننا نصبح فى حالة ترويع وذعر، ولكن أنا أقول مصر بين الاثنين، وأنا أحذر من اليأس كما أحذر من الإسراف فى التفاؤل الخادع للنفس والمخدر للذات. ومصر فى مفترق طرق تاريخى رهيب جدًا، إما أن تمشى الهوينا ببطء وبهوان، وإما أن تنتفض على نفسها وتستعيد مكانتها.
ومما لا شك فيه أن الستينيات كانت أكثر الفترات ازدهارًا للثقافة، هذه حقيقة لا مفر منها والسبب السياسة أولًا وأخيرًا والثقافة هى ألصق ما تكون بالسياسة.
والستينيات كانت قمة الثقافة والسبعينيات قاعها.
والذين كانوا يحتلون منابر الفكر والثقافة من يوم أن أُبعدوا حدث هبوط شديد وانحدار فى حياتنا الثقافية، لا يوجد فكر اليوم لأن جميع العقول المفكرة الممتازة الموهوبة أصبحت اليوم على الرف ابتداء من «محمد حسنين هيكل» وهو أعظم صحفى أنجبته مصر وإذا سئلت من هو السوبر مان فى نظرك سأقول السوبر مان هو هيكل وهيكل هو السوبر مان، فهو يتمتع بموهبة فذة وشخصية قوية.
أيضًا من أعظم المفكرين «لويس عوض» وأحمد بهاء الدين و«محمود أمين العالم».
■ هل تكتب للأكاديميين أم المثقفين عمومًا؟
قال: أنا أكتب للاثنين معًا على حد سواء ومعًا بمعنى أكتب كتابة علمية متخصصة بحتة وكتابة علمية ممكن أن تكون مقروءة من القارئ المثقف العادى، وأساسًا الجغرافيا ثقافة عامة، وهى فى الحقيقة تقع فى منتصف الطريق فى حلقة الوصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية.
■ هل للموسيقى مكان فى حياتك؟
وأنا صغير كنت تلميذًا لعبدالوهاب وكنت شديد الإعجاب به، وللأسف كنت أقلده وهذا جنى على صوتى، والذى أعاد فى صوتى الطبيعى الأوبرا فى أوروبا وأذكر روسينى بالذات، ولقد شعرت بجمال ألحانه فبدأت أدمن الأوبرا، وبدأت أدرس تهذيب الصوت. باختصار خضت بحار الأوبرا بشكل رهيب جدًا.