دانينوس الغامض.. الوثائق الخاصة لبطل «لعنة الخواجة»
- الرواية غارقة فى الصدق وتنصف المجانين الذين أقاموا بجنونهم حضارات
أول سؤال ألقيته فى وجه وائل السمرى عندما أمسكت روايته وهى لا تزال حبيسة جلادها البلاستيكى الأنيق، لماذا لم تفكر فى البداية فى صناعة سلسلة تحقيقات صحفية من أوراق أدريان دانينوس «تكسّر الدنيا» ثم تجمعها فى كتاب كشفى ضخم، يؤرخ لحياة هذا الرجل الذى ضاعت خيوط سيرته بين سطور التاريخ الظالمة.. حتى يكون هذا الكتاب مرجعًا صحفيًا وبحثيًا فريدًا ونادرًا فى المستقبل؟
كنت أظن بسؤالى هذا- وبعض الظن إثم- أن حبس «خبيئة دانينوس» المكتشفة فى إطار رواية، قد يجعلها سجينة قواعد السرد وآلياته التى قد تصير عائقًا فنيًا يغلب الجماليات على المعلومات وتجبره على التخلى عن بعض التفاصيل المهمة التى بحوزته حتى لا يجرح كبرياء الرواية، أو يدفعه خيال الروائى بداخله إلى إضافة جماليات وقصص جانبية تأتى على حساب المعرفة والحقيقة الخام المعبأة فى أوراق الخواجة اليونانى المصرى.
مبعث سؤالى أيضًا معرفتى بقيمة وائل السمرى الصحفية ومهاراته الاستقصائية التى حتمًا كانت لتساعده على إهداء صاحبة الجلالة كشفًا صحفيًا هائلًا مؤهلًا لحصد كل الجوائز الصحفية الممكنة هذا العام، وكأنى كنت أشعر بالغيرة لصالح مهنتى التى خسرت لتوها سلسلة تحقيقات محكمة عن رجل عظيم آمن بهذا الوطن حد الجنون.. إسمه دانينوس.
لكن على أى حال فقد ظفر الأدب فى النهاية بكشف السمرى هائل القيمة.. والآن صارت لدينا رواية مدهشة اسمها «لعنة الخواجة» صادرة عن الدار المصرية اللبنانية.
الصدق سر الخلطة
الرواية الناجحة فى رأيى هى التى تجبر القارئ على مد يده فى الأحداث.. هى التى تشعر بأنك عندما تقرأها تود لو تنادى أحد شخوصها لتحذره من مؤامرة ما تحاك ضده أو شخص ما يترصده، هى الرواية التى تبكى مع بكاء البطل وتنفعل مع ظلمه انفعالًا حقيقيًا، وتتتابع أنفاسك مع بحثه اللاهث عن أحلامه الضائعة وهو ما يتحقق بصورة كاملة مع رواية «لعنة الخواجة».. فهى عبارة عن حالة شعورية كاملة تدخل إليها صاغرًا دون مقاومة أو لنستعير التعبير الأقرب لوصفها من الأستاذ العظيم والروائى البارع إبراهيم عبدالمجيد، الذى قال عن الرواية إنها التهمته فى ثلاثة أيام وتساءل كيف يصبح هذا الكم من المعرفة والمعلومات والوثائق والتاريخ لبنات بناء فنى فائق الروعة.
حتى تساؤله الساخر لكاتب الرواية كان معبرًا عن مدى جودتها حيث سأله «هل أنت الذى كتبتها أم مجموعة مجانين يقفون الآن سعداء؟».
الحقيقة أن الرواية أنيقة فى بنائها وشديدة الدقة فى تأصيلها التاريخى لحياة أدريان دانينوس المفعمة بالأحداث والحوادث الكبرى فى تاريخ الوطن.. دون أن يجور التاريخ على السرد الأدبى، فتجد نفسك أسيرًا مشدوهًا داخل الحدث التاريخى الذى قد تكون تعرفه بالفعل، لكنك خلال الرواية يفتح لك المؤلف كالوسًا خفيًا ترى من خلاله نفس الحدث لكن من الناحية الأخرى مستمتعًا بحوار أدبى رفيع المستوى.
كما أن الرواية تفتح أمامك عالمًا جديدًا لم تكن لتدخله بهذا الصدق لولا أن دخله قبلك وغاص فيه المؤلف حتى النخاع، ليستخرج منه دررًا نفيسة ليست مقتصرة على ما حازه فقط من أوراق أدريان دانينوس.. لكن تشمل منطقة حكى مختلفة صاخبة بالتفاصيل والنماذج الإنسانية التى أستطيع أن أطلق عليهم مجازًا «تجار الذكريات» والذين مثلهم بشكل أساسى داخل الرواية شخصيتا عبدالحكيم وعبده أرشيف.
باختصار «لعنة الخواجة» رواية غارقة فى الصدق من رأسها لأخمص قدميها، وجد المؤلف نفسه مستسلمًا لطوفان من المشاعر الرهيفة فخرجت حكايته مفعمة بالعواطف ومستجلبة للشجن والحزن على هؤلاء المخلصين المجانين الذين لولا جنونهم الصادق الوفى لما قامت كثير من الحضارات.
المجد للمجنون
اقرأ معى هذا الاقتباس
«قاده عقله المضطرب إلى اختلاق أحداث كلها مترابطة مع الفكرة الرئيسية وهى حبه لعائلته ورغبته العارمة فى أن يعرف العالم بدانينوس اعترافًا به وبكل المخلصين لمبادئهم والمتفانين فى علاقتهم العاطفية مع الوطن»
فى ظنى أن هذا الاقتباس من الفصل الأخير على لسان بطل الرواية الصحفى ناصر راوى الحكاية هو تلخيص للب الرواية وجوهرها.. فالرواية هى انتصار لكل مجنون بإخلاصه لوطنه مثل هذا الرجل «أدريان دانينوس»، ابن المهاجر اليونانى الذى أحب مصر وعشق ترابها لدرجة جنونية ذابت معها كل أحلامه الشخصية فى حلم أكبر وأعظم أنفق فيه جل عمره، بالمعنى الحرفى وليس المجازى، وأنفق بجوار العمر كل ما يملك من مال وأرض لكى يحقق لحبيبته مصر ما كان يراه أملها الوحيد لمجابهة غول قابع ينتظرها فى المستقبل يهدد «لقمة عيش» أبنائها وسلامهم الاجتماعى.
السد العالى حلم دانينوس الكبير الذى حارب من أجله طواحين الهواء وواجه غولًا عاتيًا لا تقتله الأيام اسمه البيروقراطية، الصخرة التى تحطمت عليها مئات الأحلام وذرفت على أعتابها دموع الآلاف من الحالمين بغدٍ أفضل.. لكن بطلنا دانينوس لم يكن شخصًا عاديًا بل مقاتل فذ وشرس، فقد واجه وحيدًا جيوشًا من هؤلاء البيروقراطيين حتى لو كان بعضهم بدرجة موظف كبير أو وزير أو حتى أكبر من ذلك، كما واجه أيضًا محاولات مضنية لسرقة أفكاره التى دفع من أجلها الغالى والنفيس.. وأنفق عمره بكرم بالغ لكى يراها رؤى العين، حتى تحققت المعجزة بالفعل وصار حلم السد العالى واقعًا ملموسًا على يد الضابط الثائر الجديد جمال عبدالناصر الذى ترجم معركته عبر أكثر من أربعين عامًا إلى انتصار كبير بعد أن تبنت ثورة يوليو مشروع عمره، وهو الدين الذى حاصر عنق دانينوس لعبدالناصر وجعله يغفر أى خطأ أو ذلة حتى لو كان هذا الخطأ هو تجاهل ذكره فى سجل شرف المشروع القومى لمصر مع أنه نبى الفكرة والمبشر الأول والأخير بها وهو من واجه أهوالًا فى سبيل إيصالها إلى بر أمان الثورة، وفى النهاية يكون كل ذكره فى فرح السد العالى إشارة سريعة لشخص مجنون أتى إلى الثورة بفكرة السد، دون حتى أن يكلف نفسه عناء ذكر اسمه على سبيل التأريخ ليس أكثر.
بطل الرواية الآخر هو ناصر الصحفى الذى يملك موهبة لامعة وضمير يقظ، لكن فى زمن ليست فيه الموهبة ولا الضمير بضاعة رائجة يرى نفسه مطرودًا من عمله ومطاردًا بقضية تزوير ونشر أخبار كاذبة ويتخلى عنه رئيس تحريره وأغلب الأصدقاء.. لكن يجد سنده الكبير فى حبيبته ورفيقة مشواره التى كانت بلسم جروحه حتى بعد أن تحول من صحفى لامع يشار له بالبنان إلى مجرد بائع كتب ينتظر ما يجود به عليه القدر عبر صديقه الجديد عبدالحكيم أحد أبناء مجتمع تجارة التاريخ والذكريات.. لتكون «عاليا» الحبيبة والزوجة هى النافذة الرومانسية الضرورية لتخفيف وطأة الحياة اللاهثة التى تحبس الأنفاس لناصر الصحفى المظلوم ووجهه الآخر دانينوس.
بدأت الرواية فى هذا المسار الزمنى التقليدى لرجل يائس جاءت عليه الدنيا وخنقت أفق المستقبل أمامه، حتى تحدث النقلة الكبيرة فى حياته بعرض «بيعة سُقع» من عبدالحكيم ليأخذ القرار الأكثر جنونًا عندما يتخلى عن كل ما يملك من مدخرات شحيحة هى فى الأصل مصاريف مدرسة بنتيه وهو العاطل عن العمل المعرض للسجن فى أى وقت، ثم يمنحها راضيًا أو قُل يائسًا للتاجر عبدالحكيم نظير ما تبقى من أوراق رجل مجهول اسمه «دانينوس».. لتكون تلك الخطوة المجنونة هى وسيلة الكاتب للربط بين العالمين، عالم ناصر الجديد وعالم دانينوس القديم.. وتبدأ المباراة الحقيقية بين العالمين التى دخلها الكاتب وأدخلنا معه عنوة.
يقابل ناصر دانينوس وجهًا لوجه ويتحول صاحب القضية والأوراق هو نفسه مصدر الحكاية لتصبغ عليها مصداقية وروح جديدة حتى ونحن نعرف أنها داخل خيال الصحفى فقط نتيجة اعتلاله نفسيًا، وتكون تلك العلة التى يعيشها ناصر سببًا للتعرف على الضمير الذى كان يعتبره سبب شقائه الأول، وإمعانًا فى إبداء ازدرائه له فقد سماه «مدحت» اسمًا تافهًا منزوع المعنى تائهًا بين أصله التركى ومعناه العربى على حد قوله.. ويحمّله البطل مسئولية بؤسه فى تلك الحياة، ويظل مدحت متجسدًا رفقة ناصر فى رحلته لاستكشاف سيرة دانينوس مثله مثل الشيخ فورة الشخصية الصامتة التى استدعاها ناصر من قعر ذاكرته لتكون أنيسًا آخر له.
الجيد أن كل شخصية صنع لها السمرى تاريخًا ومبرر وجود بسلاسة كبيرة دون أن تشعر أن إحدى الشخصيات هامشية أو ليست ذات صفة، كل الشخصيات عناصر فاعلة حتى لو كانت أشباحًا من صنع خيال البطل «الصحفى ناصر»، ويختلط الحقيقى مع المتخيل، لكنك لا تملك إلا أن تقع فى غرام كل الشخصيات المرسومة بعناية فائقة من أول على الغاياتى ومحمود يونس وحتى جمال الريس وإبراهيم جاسم والمحامى طارق نبيل ومرورًا بعالم بيع الكتب عبدالحكيم وابنه وعبده أرشيف ووصولًا لعالم دانينوس بالغ الثراء الإنسانى.
الورق ودلالته
الوصول لكلمة «تمت» لم يكن نهاية الدهشة فى رواية لعنة الخواجة، لأن ملحق الصور والأوراق والرسائل المنشورة فى الصفحات الأخيرة بالنسبة لى مصدر تأمل كبير فى ماهية هذا الرجل العظيم «أدريان دانينوس»، الذى احتفظ بكل قصاصة ورق خلال حربه من أجل حلمه لعقود طويلة.. كل ورقة هى آية وبرهان على إيمان ويقين لا يصدق، كيف امتلك هذا الرجل كل تلك الطاقة والدأب والمثابرة وهو يسير نحو هدفه النبيل دون أن تصيبه الرياح العاتية بالسأم واليأس الذى هو شعور إنسانى طبيعى جدًا، لكنه على ما يبدو لم يكن موجودًا ضمن قاموس مشاعر هذا الرجل الملهم.
فهذه مذكرة مفصلة للتبشير بمشروع السد العالى مقدمة إلى الرأى العام ومجلس النواب والشيوخ سنة ٥٠، والتى حارب فيها تمرير مشروع آخر كان مطروحًا لتخزين المياه خارج حدود مصر دون استخدام مياه الفيضان بأكمله، تأملت التنسيق بالغ الدقة لأطروحته، وتعجبت كيف واجه النواب حينها كلامه بالسخرية طبقًا لرواية السمرى، ولم يكلف أحدهم نفسه بنظرة واحدة على مذكرته شديدة الدقة والنظام والترتيب المنهجى ليعرفون أنهم أمام رجل عظيم وليس مجنونًا كما وصفوه.. وهذا خطاب آخر موجه من قيادة جيش التحرير لإدماج دانينوس فى المقاومة الشعبية أثناء العدوان الثلاثى بعد إلحاح شديد منه وهو الرجل الستينى، ثم الورقة الأهم التى ربما حفظت حق الرجل التاريخى هى خطاب محمود يونس إلى وزير الأشغال يقر فيه أن دانينوس صاحب الفكرة.
وهذه مذكرة مرفوعة للملك فاروق للموافقة على مشروع السد العالى، وذلك خطاب إلى النحاس باشا يذكره فيه بوعده بمساعدته فى مشروع السد العالى، والأكثر إدهاشًا بالنسبة لى أن الخطاب مرفق فيه إيصال البريد الذى يثبت فيه إرساله نظير الدمغة.
ثم أنهى السمرى روايته بقائمة ضخمة من المراجع التى ارتكن إليها فى روايته حتى تخرج بهذه الدقة.
دانينوس سعيد الآن
بعد تأمل تلك الورقات التى نشرها السمرى فى آخر روايته شعرت بأن دانينوس كان يجهزها لتلك اللحظة، وكأنه كان مدركًا أن حقه الأدبى سيعود يومًا ما، وسيسخر الله من يحكى حكايته ليعرف الناس قيمته، لذا أراد أن يسهل عليه بهذا الترتيب بالغ الدقة لأوراقه.
صحيح أن دانينوس لم يكن محظوظًا فى حياته الصاخبة التى واجه فيها نكرانًا لا يحتمل، لكنه فى ظنى بتلك الرواية البديعة قد أخذ العوض خاصة إذا أخذت حقها الذى تستحقه على مستوى القراءة والنقد.. أما الأجمل الذى يرجع حق دانينوس كاملًا فهو التصور الذى جاء على لسان ناصر أيضًا فى لقاء الوداع مع وجهه الآخر دانينوس بينما كان يقبع فى المصحة النفسية التى دخلها بعد أن تأزمت الأمور، فيقول ناصر:
«حينما أخرج من هنا سأقدم لوزارة الثقافة فكرة بأن تنشئ متحفًا باسمك وسأتبرع لها بكل ما لدى من أوراق ومتعلقات شريطة أن توضع فى هذا المتحف، كما سأجاهد من أجل أن تنشئ مركزًا بحثيًا ملحقًا بهذا المتحف وليكن اسمه (مركز دانينوس للدراسات المستقبلية) نستقبل فيه كل الأبحاث الجادة التى ترسم المستقبل ونخاطر بالحلم ونبشر بها ونسهم فى نشرها للعالم كى لا يعانى كل مبدع مثلما عانيت فى تقديم فكرتك للعالم».
.. وفى النهاية أرانى الآن متخذًا زاوية رؤية ناصر بطل الرواية قبل شفائه، وأرى الآن دانينوس ينظر من نافذة عالية فى السماء باسمًا مبتهجًا راضيًا عن نفسه وعن حياته وحربه مع العقلاء.. وراضيًا كل الرضا عن اختياره لوائل أو ناصر «اختر ما شئت» ليكون متحدثًا باسمه بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على موته.. وراويًا أمينًا لقصة حياة ذلك المجنون الذى طوق رقاب كل مصرى عاش على تلك الأرض بدين لا يُرد اسمه السد العالى.
طبت يا أيها المجنون فى مثواك.. لعلك الآن تعرف أنك كنت العاقل الوحيد.