محمود التميمى: إذا تركنا الأجيال الجديدة تقع فى مستنقع ثقافى وارد الخارج.. فلندفن أنفسنا أكرم
- ألهمنى السبيل المملوكى الذى أنشئ لنفع من لا يملك المال ومع ذلك أُنفق على معماره وزخارفه ما يجعله يؤدى مهمته بكل أناقة وانتصار لقيم الجمال
- مستعد أن أطوف مدارس مصر مجانًا لنشر الوعى الحضارى عبر لقاءات أرواح فى المدينة
- رفضت عمل تذاكر رمزية نظير حضور لقاءات أرواح فى المدينة لأننى أريد أقل الأشخاص دخلًا أول الحاضرين
- «أرواح فى المدينة» تجربة قدرية يقودها شغفى باستخراج جواهر تاريخنا من بين ركام الأرشيف الصحفى الذى أمتلكه
- غرس الوعى الحضارى داخل أبنائنا أمن قومى لمصر.. ولو استفادت بنتى نور فقط مما أفعله فقد أديت رسالتى
- الثقافة كالماء والهواء لا بد أن تكون مجانية دون مقابل وهى ليست خيارًا
- تستهوينى الدراما الإنسانية فى الأرواح التى أستحضرها مثل شخصية حامد أفندى مرسى رفيق سيد درويش
- نشر الجمال ومحاربة القبح فى المدينة ليست وجهة نظر بل فرض عين على كل شخص
أن تجرى حوارًا مع محمود التميمى فى غير «الغورية» فهو أمر أشبه بارتدائك «الشورت» لحضور عرض بحيرة البجع فى المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية أو أن تطلب أكلة كشرى قاهرى بالدقة بينما تتجول داخل حلقة سمك الأنفوشى.. فلكل مقام مقال.. وأى مقال عن التميمى لا بد أن يبدأ من الغورية البؤرة التى فتحها الرجل فى جدار التاريخ يستحضر من خلالها أرواحًا هائمة صالت وجالت عبر عقود ثم هدأت فى سكون ظننته أبديًا إلا أن التميمى أبى ذلك ولم يرضَ لها الهدوء وأجبرها على الحضور فى لقاءاته الشهرية المبهرة فى دقة تفاصيلها وروعة حكيها واستنباط العبر منها.
من الغورية بدأت حوارى مع التميمى على كراسى مقهاه المفضل فى إحدى حواريها وهو مقهى عاشور الذى يزيد عمره عن أعمار بعض الدول والأقطار.. استمتعت بانتظاره عليها لمدة نصف ساعة حيث تعمدت الحضور مبكرًا عن ميعادنا، قضيتها على حكايات عم نبيل وريث المقهى التاريخى.. رجل طيب الوجه بهى القسمات ذو شارب منتصب وكأنه إحدى شخصيات رواية محفوظية تدور رحاها فى حوارى القاهرة العتيقة.
المقهى له واجهة حجرية عالية تحتضن بوابة خشبية كبيرة عليها حزام عريض من الأرابيسك المشغول بعناية وبهاء ودقة جعلتنى أستحضر مباشرة روح الأسطى حسن النعمانى خلطة أسامة أنور عكاشة السحرية التى تسربت إلى وجداننا بفعل أداء العم صلاح السعدنى الأسطورى مطلع التسعينيات.. أخذنى عم نبيل بالأحضان دون سابق معرفة وأشعرنى بأننى ضيف عزيز أنتظره سنوات، وأجلسنى على الكرسى المطل على حارة حوش آدم «خشقدم»، تلك الحارة التى حملت أنفاس أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وسمير الإسكندرانى سنوات طويلة، وأحضر لى شايًا بالنعناع ثم تطوع بتعريفى على تاريخ تلك الحارة العظيمة، الذى يبدو أنه يحفظه عن ظهر قلب، معللًا الأمر بلطف بالغ «هسليك لحد ما ييجى أستاذ محمود التميمى».
أتى فعلًا التميمى بعد نصف ساعة ملقيًا إلىّ بعرضه المغرى «عملت حسابك فى رغيف حواوشى محبش مش هتاكله فى أى حتة.. عشان تعمل الحوار بنفس».. لم أقاوم هذا العرض بطبيعة الحال وبعد أن فرغنا من وليمتنا السحرية طلب التميمى لنا كوبين من الشاى لزم «الحبسة» ثم توجه ناحيتى معلنًا استعداده للحوار.
■ باغته بسؤالى لماذا الغورية تحديدًا؟
أسهب التميمى فى الجواب بطريقة حكيه المحبب ليلخص لى بشكل متسلسل قصة قاهرة المعز لدين الله الفاطمى وفى قلبها الغورية معشوقة الرجل التى استلهم منها مشروعه الحالم.
قال التميمى: «القاهرة أُجريت لها جراحة شوهت كثيرًا من جمالها للأبد، وكثير من الناس لا يعرفون شيئًا عنها، وتتلخص فى شارع الأزهر الذى شُق بقرار من الحملة الفرنسية للوصول إلى الجامع الأزهر قلب الاحتجاجات والثورات ضد بونابرت ورجاله حيث كان يقطن قصر ألفى بك أبهى قصور المماليك فى حديقة الأزبكية فأراد نابليون أن يشق شارعًا يسهل وصول قواته من الأزبكية إلى معقل الثوار داخل الجامع الأزهر ووأد فورانهم فى اللحظات الأولى.. لذلك وضع «الفرنسيس» مخطط شق شارع الأزهر بالفعل لكن خروجهم من مصر وأد المشروع ونفذه بعد ذلك بثمانين عامًا الاحتلال الإنجليزى.
القاهرة كانت قبل ذلك عبارة عن مربع كامل التربيع محاط بأسوار بدر الجمالى التى بناها على أنقاض سورها الأصلى الذى بناه جوهر الصقلى.
وكان النسيج الحضرى للمدينة الذى هو بصمتها متصلًا من باب زويلة جنوبًا إلى باب النصر شمالًا إلى أن جاء الاستعمار بشارع الأزهر ليشق به المدينة إلى نصفين أشبه بعملية جراحية بعد أن كانت القاهرة تمتلك شارعًا واحدًا فسيحًا هو شارع المعز أو الذى أطلق عليه الشارع الأعظم.. والتسمية لها تفسير لأن هذا الشارع كانت تمر به الجيوش الدالفة إلى داخل المدينة منتصرة من باب النصر، فتصطف طوائف الأمة على جانبى الشارع لتحية جيشها المنتصر ومعاينة الأسرى المنكسرين المساقين أمام الجنود المصريين، ويقول الجبرتى إن شرفات بيوت القاهرة التى تطل على هذا المشهد البديع كانت تؤجر للفرد بدينار.. ويستمر موكب الجنود المنتصر بطول الشارع حتى يخرج من الناحية الأخرى عبر باب زويلة ليصعد الجند إلى القلعة حيث الطابق السلطانى أو مراتع الجنود والعسكر.. وظل هذا الطقس موجودًا مئات السنين مرتبطًا بدور مصر التى تقود الأمم وتتحطم على أسوارها أحلام الغزاة.
إذن شارع المعز أو الشارع الأعظم هو أحد تجليات دور مصر فى إقليمها والأمثلة كثيرة وعلى سبيل المثال ستجد مثلًا داخل الشارع مدرسة الناصر محمد بن قلاوون، لها واجهة ذات طراز بازيليكى مسيحى مثل كنيسة القيامة قد أحضرها الجيش المصرى المنتصر بعد فتح عكا حيث كانت تلك الواجهة هى واجهة الكاتدرائية الصليبية هناك، أحضرها السلطان الأشرف خليل بن قلاوون كإثبات على فتح عكا المنيعة والتى كان من المستحيل فتحها.. ومن هنا جاء المثل المصرى الصميم «هو إنت فتحت عكا يعنى».
وعندما أتى الاحتلال الفرنسى ثم الإنجليزى شقت الشوارع وأهمها شارع الأزهر ليقسم القاهرة إلى نصفين، نصف شمالى وهو الذى طاله يد التطوير الحكومى وأصبح متنزهًا للناس من كل صوب، والنصف الجنوبى الذى نجلس فيه الآن ما زال محتفظًا بطزاجته التى وجد عليها منذ بناء القاهرة الفاطمية.. رأيته على وضعه هذا من عشرين عامًا عندما حضرت الغورية أول مرة ورأيت ناسها عم فوزى بتاع الفول وعم نبيل بتاع القهوة وارتبطت بكل النماذج البشرية الأصيلة التى ارتبطت بالمكان وحملت روحه الأصيلة التى لا يخطئها وجدان.
■ حولت نظرى عن التميمى وإذا بقدرة قادر تتحول جلستى معه والتى مفترض أن تكون ثنائية أنا وهو فقط لإجراء حوار صحفى إلى جلسة سمر بعد منتصف الليل، اشترك فيه عم سيد أحد أبناء حوش آدم الذى عاصر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام طفلًا وعم عاشور صاحب المقهى وضيفان آخران من أبناء حارة حوش قدم، كلهم جلسوا متحلقين حولنا صانعين نصف دائرة منصتين باهتمام بالغ لشرح التميمى لتاريخ منطقتهم. وأخذ التميمى يتذكر بعض أشعار نجم التى يتغنى فيها بالمكان ويكمل عم سيد أحد الجالسين الأبيات التى يبدو أنه يحفظها عن ظهر قلب.. ويتداخل عم عاشور ليكمل جملة أو معلومة نسيها التميمى فى غمرة حكيه.
قطعت استرسال التميمى فى حكيه الممتع عن تاريخ المكان بعد أن شعرت بأننى لو تركته يحكى عن أماكن القاهرة وناسها فسيخرج علينا نور الصباح قبل أن ألقى فى حجره بأسئلتى عن مشروعه الثقافى الطموح وهذا لب الحوار أصلًا.. فقلت له أفهم من ذلك أن مشروع «أرواح فى المدينة» خلق هنا؟
قال إن الأمر ليس بهذه الدقة فقد جاءت فكرة «أرواح فى المدينة» نتيجة تفاعل قدرى بين مكونات إنسانية وتجارب خضتها فى ترحالى داخل أزقة القاهرة وأغوار ناسها البسطاء الأصليين فى الغورية وما حولها.. بدأتها بفكرة القاهرة عنوانى الذى يعد هو البوتقة الأم للمشروع وحتى الاسم صيغ قدريًا عندما كان يكلمنى أصدقائى فى أى وقت ويكون السؤال الأول «إنت فين؟».. والرد دائمًا وأبدًا يكون فى أحد حوارى أو بيوت الغورية أو الباطنية أو سوق السلاح أو باب الفتوح أو المعز أو.. أو.. أو.. فأوحى طرافة الأمر لى بأن أجعلها شعارى «القاهرة عنوانى» وأقصد بها تلك الأماكن التى عشقتها والتى ما زالت محتفظة بروح الأصالة ولم يدخل عليها أى تغيير كما أن ناسها قد صبغوا بروح المكان والأرواح التى عاشت فيها على مر السنين.
وكان التطور الطبيعى للقاهرة عنوانى بأن أدشن صفحة على الفيسبوك بنفس الاسم وأنشر عليها ملاحظاتى عن الأماكن بهاشتاج «القاهرة عنوانى» ثم تبعه هاشتاج آخر بعنوان «هذا الوجه نحبه» عن تلك الشخصيات التى أحببناها دون أن نعرف مصيرها أو اختفت ولم نتتبع مشوارها مثل الدكتور عبدالله شحاتة والفنان الكبير أحمد نبيل الذى قابلته بالمصادفة على بحر الإسكندرية، وكتبت بوست على صفحتى أقول فيه «إحنا قاسيين جدًا مع اللى حبوها وأدوها ومافكروش فى المقابل والزمن.. دموعى نزلت بعد ما سيبته.. سنين طويلة كنت فاكره رحل عن عالمنا ومش موجود.. ينفع الناس الحلوة تموت بالحيا كده؟».
وفوجئت بكم التفاعل الهائل مع المنشور وحالة احتفاء هائل بالفنان أحمد نبيل وفن البانتومايم الذى يعد رائده وشعرت بأننى فعلت شيئًا مهمًا.
ثم جاءت سنة ٢٠٢٢ بالانفراجة عبر طلب من بيت المعمار المصرى عبر مديرته الدكتورة هبة صفى الدين بنت المعمارى العظيم عصام صفى الدين مؤسس بيت المعمار.
■ قاطعته: يبدو أن مشروع «أرواح فى المدينة» طُبخ على مهل؟
قال التميمى إن شئت الدقة فإن مشروع أرواح فى المدينة خرج من تفاعل «القاهرة عنوانى» المهموم بالأماكن و«هذا الوجه نحبه» المهتم بالبشر والأرواح التى مرت على تلك الأماكن.. فكان الناتج ببساطة هو «أرواح فى المدينة» لأن فكرتها هى ربط الحجر بالبشر واستخراج حالة الجدل بينهما الذى تكون عبر السنين.
والحق أن القدر ساقنى دون أى ترتيب منى لإخراج «أرواح فى المدينة» بشكلها الحالى، وما حدث أن الدكتورة هبة صفى الدين أبدت إعجابها الشديد بما أنشره عن القاهرة عبر هاشتاج «القاهرة عنوانى» وطلبت منى تحضير ندوة لجمهور بيت المعمار للحديث عن أحد الأماكن العظيمة التى تكتظ بها القاهرة التاريخية، لكننى قلت لها إن هناك من هو أجدر منى للحديث عن معمار الأماكن وتاريخها ومصر مليئة بالمبدعين والمتبحرين فى معمار القاهرة بكل سلساله التاريخى المدهش، لكننى سأقدم تصورًا مغايرًا عن تلك الأماكن خلال الندوة، وهو الحديث عن الأرواح التى سكنتها وربطها بالأحداث وتتبع سير تلك الأرواح التى عاشت داخل القاهرة وتركت منتوجًا ثقافيًا وفكريًا وفنيًا، وبعضها قد طالته يد النسيان الباطشة مع الزمن.
أعجبت الدكتورة هبة صفى الدين بالفكرة وطلبت مثالًا على تلك الشخصيات.. فذكرت لها على سبيل المثال «حامد أفندى مرسى».
■ ضحكت مداعبًا التميمى: رأيتك تتحدث كثيرًا عن حامد مرسى فى أكثر من لقاء فما سر غرامك بتلك الشخصية؟
السر فى الدراما الإنسانية ولو أخرجت لك صورة لحامد مرسى بنظارته المقعرة ستقول لى على الفور إنك شاهدت هذا الرجل كومبارسًا فى بعض أفلام الستينيات مثل فيلم «الفتوة» وفيلم «بين القصرين»، فى حين أننى عندما رجعت إلى الأرشيف الصحفى الذى أمتلكه وجدت أن جرائد ١٩٢٨ كلها كانت تتحدث عن جريمة محاولة قتل المطرب المشهور حامد أفندى مرسى الذى كان من أهم مطربى الفرق المسرحية فى مصر، وكان يمشى «كتف فى كتف» بجوار سيد درويش منذ ١٩١٧ عندما كان يغنى أغنيته الأشهر «زورونى كل سنة مرة»، من تلحين سيد درويش، وتلك مفارقة أخرى تكشف عن ألاعيب الزمن فى الأرواح الهائمة فى المدينة وكيف كان حامد مرسى هو أهم مطرب مصرى أواخر العشرينيات بينما أم كلثوم وعبدالوهاب كانا وجهين جديدين على دنيا الطرب وما زالت خطواتهما الأولى متعثرة، وتمر السنوات لنصل إلى الستينيات ويعتلى الثنائى سومة وعبدالوهاب قمة الهرم الموسيقى بينما حامد مرسى يعمل كومبارسًا فى الأفلام، وتكتمل الدراما أكثر عندما نعرف أن التيمة الموسيقية التى استخدمها العبقرى على إسماعيل فى فيلم «بين القصرين» قائمة على أغنية «زورونى كل سنة مرة» وهى ذاتها أغنية حامد أفندى مرسى قبل عقود عندما كان ملء السمع والأبصار فى قاهرة العشرينيات، وها هو الآن يظهر فى خلفية مشهد السيد أحمد عبدالجواد الذى أدى دوره بعبقرية يحيى شاهين بينما يتمايل على تيمة أغنيته القديمة الخالدة ليس أكثر من كومبارس أقرب للصامت.
■ قاطعته قائلًا: إذن الدراما الإنسانية للبشر هى وقودك فى «أرواح فى المدينة»؟
قال التميمى مفاخرًا أنا أبحث عن الدراما الإنسانية بكل ما أملك فى لقاءات أرواح فى المدينة، ولا بد أن تكون القصة جديدة على المستمع ويجب ربطها بالمكان والزمان بطريقة خلاقة تنشط العقل والوجدان.
ثم أضاف التميمى روحًا أخرى من أرواحه الملهمة وسألنى أنا والمتحلقين فى الدائرة حوله على قهوة عاشور الناظرة على حارة حوش آدم:
هل تعرف مثلًا هذا الاسم مصطفى منير أدهم؟
قلت له الحقيقة لا.. قال التميمى إن هذا الرجل هو الذى وضع أسماء الشوارع والحوارى فى القاهرة بتكليف من السلطان فؤاد سنة ١٩٢١ وهو عمل مهم وعظيم لا ندرك أهميته لكن صحافة تلك الأيام أبرزت عظمة ما فعله، كما أن هذا الرجل ألف كتابًا صخمًا يشرح فيه منهجه فى وضع أسماء الشوارع والحارات داخل القاهرة.
■ قبل أن يتبحر فى استحضار أرواح أخرى قاطعته قائلًا: يهمنى أن أتتبع مشروعك الملهم من أوله.. حدثنى عن أول لقاء فى بيت المعمار وكيف استقبل الجمهور الفكرة؟
أجاب متذكرًا فى يوم ٢٥ يونيو ٢٠٢٢ كان أول لقاء لأرواح فى المدينة داخل بيت المعمار، وكان فى ذهنى أنه مرة واحدة فقط، فاسترسلت فى الحكى عن الأرواح التى جهزت مادة صحفية وفلمية عنها، وفوجئت برد الفعل الإيجابى المتفاعل، حتى إنه فى نهاية اللقاء طلب منى الجمهور طلبًا ما كان لى أن أرفضه، على الرغم من ضيق الوقت، وهو ببساطة لقاء آخر فى العيد القومى للقاهرة بعدها بأيام يوم ٦ يوليو، الذى يوافق يوم وضع القائد جوهر الصقلى حجر الأساس لمدينة القاهرة عام ٩٦٩م.
وقد كان، وحضّرت ثانى لقاء تحت راية بيت المعمار المصرى، وأسقط فى يدى ما رأيت، حيث ضاق بيت المعمار ذو الستين كرسيًا بالحضور وحمل فى هذا اليوم ثلاثة أضعاف ما يحتمله المكان، وأحدث زحامًا مروريًا حول البيت، فتفاجأت بأن الدكتورة هبة صفى الدين اتصلت بصندوق التنمية الثقافية، فأبدوا استعدادهم لاستضافة لقاءات أرواح فى المدينة القادمة فى سينما الهناجر وألزمت نفسى بناءً على طلب الحضور الكثيف والملح أن يكون لقاءً شهريًا فاتفقنا على اللقاء الثالث أن يكون ٨ أغسطس، ثم فى كل شهر فى نفس اليوم المشابه للشهر مثل ٩ سبتمبر و١٠ أكتوبر وهكذا.
وجاء اللقاء الثالث فى سينما الهناجر؛ ليقلب الدنيا حرفيًا بعد أن توصلت للسيدة ضحى، بطلة فيلم «الدواء فيه سم قاتل» بعد اختفائها ما يقرب من سبعين عامًا بما يشبه المعجزة وأجريت معها حوارًا استثنائيًا أحدث صدى قويًا لم أتوقعه فى كل وسائل الإعلام.. ثم توالت لقاءات أرواح فى المدينة وما حدث لبيت المعمار حدث لسينما الهناجر، حيث ضاقت بالحضور وأصدر الدفاع المدنى للأوبرا تقريرًا يحذر من خطورة هذا الأمر، فاضطر الصندوق لنقل اللقاء الشهرى لمكان أوسع وأكثر رحابة، هو مركز الإبداع فى شهره السادس نوفمبر ٢٠٢٢.
واستمرت فكرة أرواح فى المدينة تستشرى بين فئات مختلفة من الجمهور وليس المهتم بالشأن الثقافى فقط، ويزداد الحضور مرة عن الأخرى، حتى تكرر الأمر لثالث مرة، وأصبح مركز الإبداع بدار الأوبرا لا يحتمل تزايد الأعداد، فعلى سبيل المثال فى لقاء ٥ مايو بعنوان «قاهرة نجيب محفوظ» لم يستطع ما يزيد على ستين شخصًا من الدخول بعد أن امتلأت الكراسى والطرقات واضطروا إلى الانصراف بعد أن أغلق القائمون الباب؛ خوفًا من حدوث مكروه بفعل الزحام الشديد.. فكان الحل الأمثل ما حدث أخيرًا فى آخر لقاء ٦ يونيو ٢٠٢٤ فى بداية عام أرواح فى المدينة الثالث، حيث قررت وزيرة الثقافة مشكورة أن يضم المسرح الصغير بالأوبرا لقاءنا؛ تقديرًا منها للحالة الثقافية الفريدة التى يحدثها فى نفوس الحضور.
■ قلت له مندهشًا إننى دائم الحضور لفعاليات ثقافية، لكن الملاحظ دائمًا أن جمهورها محدود بالمهتمين بموضوع الفعالية.. كيف استطعت تحويل لقاءً ثقافيًا إلى حدث جماهيرى أشبه بفيلم تجارى عليه هذا الإقبال الشديد؟
أجاب أن السر فى الاستهداف الجيد للجمهور من خلال بحثى عما يجعل هذا الجمهور يحضر اللقاء ويستمتع أيضًا عبر مواد أبذل جهدًا كبيرًا فى استخلاصها من بين ركام الأرشيف الورقى للصحف والمجلات والمواد الفيلمية والمخزون الثقافى.. والرهان على أن من يحضر مرة سيكون سفيرًا لأرواح فى المدينة وسيقنع آخرين بأن يحضروا معه اللقاء التالى، وهذه هى فكرة النفاذ الثقافى الذى تحقق فى أرواح فى المدينة.
■ قلت له بالمناسبة لماذا تصر على تسمية أرواح فى المدينة لقاء وليست ندوة كما هو معتاد فى الفعاليات الثقافية؟
أجاب «التميمى» بجملة فاجأتنى، حيث قال إن الندوة كلمة سيئة السمعة فى مجتمعنا تحولت إلى مرادف للاستسهال، حيث يتم تحضير الندوة بشكل وظيفى بحت «لزوم ما يلزم» دون انتظار نتائج حقيقية من النقاش «عشان يبقى اسمنا إن إحنا عملنا ندوة»، لكننى أصر على تسمية ما أقوم به لقاء، لأننى ألتقى بالناس نسمع ونقرأ ونشاهد معًا ونستمتع بحكايات تاريخنا الملىء بالأرواح الملهمة ونتفاعل كلنا بما يحدث خلال اللقاء، دون أن نكون مربوطين بقيود الندوة الشكلية، القائمة على تقسيمة تقليدية معينة لا يستفيد الحضور منها بالقدر الكافى، ويظل هناك إحساس بأن المسألة تأدية واجب والسلام من المتكلمين على المنصة.
أما اللقاء فلابد أن يكون عن حب وتشارك وتفاعل مع ما جمعته أنا لهم.. ولست نرجسيًا حتى أقول إن هؤلاء حضروا لكى يستمعوا إلى محمود التميمى فى ندوة مهمة عن كذا.. الأوقع والأرقى بالنسبة لى أننا نلتقى جميعًا لنقلب فى أوراق تخص بلدنا وشخوصها وأماكنها، جمعتها بدقة لنستمتع بها جميعًا.
■ قلت له الشىء الملحوظ بالنسبة لى.. والذى يبدو أنه سر الخلطة هو شغفك المتقد بما تفعله؟
وافقنى القول شارحًا: أستطيع أن أقول إن أرواح فى المدينة تجربة قدرية يقودها شغفى بفنون هذه المدينة وإبداعها ولدى اقتناع بأن هناك طول الوقت جدل بين الحجر والبشر وهذه المدينة شكّلها جُهد مبدعيها، وفى الوقت ذاته مبدعوها تشكلوا بوجودهم فيها، بمعنى أن المبدع الذى تربى فى هذه الحارة وتأمل فى الطراز المعمارى الفريد فى تلك المبانى، ونظر مثلًا إلى باب زويلة أو جامع المؤيد شيخ، ورأى مدخله فائق الجمال وتأمل دقة تفاصيله وروعتها لا يمكن أن يخرج منه منتج ثقافى ردىء أو سخيف أو تافه أو ضئيل.. فى شكل أشبه بمجتمع النحل، حيث إن نوع العسل يحدده نوع الزهرة التى امتصت منها النحلة رحيقها، فهناك عسل موالح وعسل برسيم وعسل لافندر.. وبنفس الآلية عندما تنهار قيم الجمال فى المدينة ينهار معها المنتج الثقافى الإنسانى والعكس صحيح، وهكذا يظل الحجر والبشر فى جدل وعراك دائمين لا ينقطعان.. فلا يمكن لأحد أن ينشأ فى مزبلة فيصير محبًا للجمال أو ينشأ فى وسط جمالى ويصير كارهًا الجمال ومحبًا القبح إلا إذا كان مريضًا.. ومن هنا أقول إن هذا هو فضل القاهرة على مبدعيها؛ لأنها من أجمل الأماكن فى العالم بما أفضت عليهم بهذا الكم من الجمال المعمارى، الذى انصهرت فيه حضارات متعاقبة فى مزيج بديع.. وهنا يأتى دورنا فى الحكى عن تلك الأرواح التى تعج بها تلك الأماكن.. ليس بصيغة الحكايات التاريخية المملة، ولكن بصيغة متعة اكتشاف البشر الذين عاشوا هنا عبر السنين مثلما تستكشف تمامًا العطف والحارات والزوايا ويبهرك التاريخ الكامن داخلها.
■ جئنا للسؤال الأهم الذى سألته للتميمى.. سألته عن نور وجيلها- ونور هى ابنته ذات الـ١٤ ربيعًا وحاضرة دائمة فى لقاءات أرواح فى المدينة- قلت له ما مكان هذا الجيل من مشروعك الثقافى؟
هنا لمعت عين الرجل فرحًا بالسؤال، وقال: أنا رأيى أن هذا الجيل هو الهدف الأساسى لى.. ولابد أن يتربى على الجمال حتى ينتج جمالًا فى المستقبل وأشد لحظات فرحى خلال اللقاءات عندما أنظر فى القاعة فأجد أبناء وبنات من سن نور حاضرين برفقة ذويهم الذين رأوا فيما أقدمه ما يمكن أن يكون إضافة لأبنائهم، ولدى قناعة تامة أننى لو حضر لى ألف شخص ولم يستفد من اللقاء إلا بنتى فهذا كاف بالنسبة لى من منطلق أبوتى لتلك الإنسانة ودورنا تجاه نور وجيلها لا يمكن توصيفه بأنه ثقافى أو تعليمى، لأننى أرى أنه دور دفاعى فى الأساس لحمايتهم من القبح وهذا هو الأمن القومى بعينه، فلابد أن يتربى هذا الجيل على معرفة حجمه الحقيقى والإرث الحضارى الضخم والمبهر الذى ورثه، حتى لا يكون عرضة للتقليد الأعمى والانبهار بنماذج وبلاد خاوية قائمة على المادة وفقط.. وهو الأمر الذى أحاول مواجهته فى لقاءات أرواح فى المدينة.
فمن يملك ما نملكه من نسيج حضرى «يورينا» ومن لديه مكان فى روعة مسجد المؤيد شيخ أو السلطان حسن أو حتى أحدث المبانى مسجد محمد على؛ فليفرض علينا ثقافته، فالمسألة أكبر من فكرة الأموال الطائلة وناطحات السحاب الزجاجية.
ومن الآخر إذا كنا سنترك هذا الجيل يقع فى ذلك المستنقع الثقافى وارد الخارج دون أن يدركوا قيمة ما يملكونه من كنوز فلندفن أنفسنا أكرم.
■ قلت للتميمى أتلمس أيات الإحساس بالخطر فى كل كلامك.. من فضلك أعطنى توصيفًا دقيقًا موجزًا للخطر الحقيقى؟
الخطر الحقيقى الذى يواجهنا هو خطر غزو العقول.. الخطر عندما نفقد إيماننا بأنفسنا وننسى أننا «أم البلاد وغوث العباد» كما قالت لنا كتب التاريخ.. الخطر الحقيقى إذا لم نقتنع من داخلنا بأن هذا المكان هو أم الدنيا فعلًا وليس مجازًا.. هذه هى الهزيمة الحقيقية التى ينبغى لنا أن نحمى أولادنا منها.
وبشكل أكثر بساطة أنا مقتنع بأن التراث الإنسانى بالغ الضخامة فى القاهرة إذا أرادت أعتى قوة فى العالم أن تهدمه وشرعت بالفعل فى ذلك لن تستطيع وستصاب بالإرهاق وتتركه لضخامته، لكنه فى الوقت نفسه نستطيع نحن أن نهدمه فى شهر واحد عندما نفقد إيماننا بعظمته ولا نرى جماله.. وهنا لابد أن أضرب مثالًا بما حدث معى شخصيًا عندما رأيت أحد الأسبلة المملوكية رائعة الجمال وقد غطتها القمامة فنشرت الصورة مستغيثًا بالمسئولين على الفيس بوك فجاءنى الرد سريعًا من مجلس الوزراء الذين أرسلوا مشكورين جرافات أزالت تلال القمامة من عليه وأعادت بهاءه.. ومر يومان فقط وذهبت مستبشرًا لأشاهده لأجد القمامة غطته مرة أخرى فى يومين فقط.. تخيل.. وعندما سألت أحد الذين يلقون القمامة وأشرت له إلى المحال المحيطة بالسبيل، وقلت له هل تستطيع أن تلقى القمامة أمام أحد تلك المحال، أجاب قاطعًا بالنفى؛ لأن أصحابها موجودون، أما السبيل فليس له صاحب.. ضحكت شاعرًا بالمرارة لأن هذا الشخص الذى يلقى القمامة لا يدرك أنه فى واقع الأمر صاحبه الحقيقى؛ لأن هذا التراث الإنسانى للقاهرة هو ملكية عامة.. فأصابنى الحزن العميق وعرفت أن الدمار الحقيقى يأتى من الداخل وبأسرع مما نتصور عندما نفقد إيماننا بأنفسنا وقدرنا الحقيقى. الذى يمنع هذا الدمار هو الوعى والضمير الحضارى أى ضمير الإنسان المصرى تجاه حضارته، لو استطعنا أن نزرعه داخلنا وداخل أبنائنا فلن نحتاج لعسكرى يقف أمام الأسبلة والمبانى الأثرية ليحميها.
شعرت بأن الكلام انتهى، ونظرت فى ساعتى؛ لأجدها قد جاوزت الثالثة صباحًا فقلت له هيا بنا أريد أن أرى الغورية فى هذا الوقت، قمنا مودعين عم نبيل صاحب المقهى الطيب الذى حضننى وأخذ علىّ عهدًا ألا أقطع الزيارات؛ فوعدته بذلك وسرت مع محمود التميمى فى شارع الغورية فى طريقنا للخروج تاركًا له ما تبقى من تركيزى لحكيه عن الأماكن التى نمر عليها فى الشارع المغلقة محاله عدا عربة فول عم محمود، الذى رفضت رفضًا قاطعًا عزومة التميمى عليها خوفًا من تهيج القولون.. وعندما مررنا على سبيل رائع الجمال ملحق بمسجد الفكهانى وقف محمود كعادته يشرح لى أصل هذا السبيل وفصله، ثم قال لى جملة سأختم بها حوارى معه « هل ترى جمال هذا السبيل؟ أنا أريد للثقافة والمعرفة أن تكونا مجانًا وميسرتين، مثل ماء أى سبيل مملوكى فى حوارى القاهرة ظل يقدم لقرون أهم أسباب الحياة لكل من يطلب دون تفرقة، والمُلهم أن الأسبلة بينما أنشئت لنفع من لا يملك المال أُنفق على معمارها وزخارفها ما يجعلها تؤدى مهمتها نحو فقير المال بكل أناقة وعناية وإبهار وانتصار لقيم الجمال.. استلهمت كل هذا من السبيل المملوكى حينما شرعت فى بناء مشروعى «القاهرة عنوانى» كمقدم خدمة ثقافية أراها كالماء.. جعل الله منها كل شىء حى.
■ قلت له يعجبنى حماسك لكننى مشفق عليك لأن الجمهور مهما كثر فى القاعة فهو قليل.. وما تريد إيصاله عبر لقاءات «أرواح فى المدينة» لن يخرج عن الحضور؟
- هنا تعاظمت حماسة التميمى وقال أنا مستعد أن أسخر كل وقت وجهدى لأطوف على مدارس مصر مدرسة مدرسة فى كل محافظاتها لإقامة لقاءات أرواح فى المدينة لتعريف التلاميذ والطلبة بقيمة ما يملكونه من إرث إنسانى عظيم، وكل هذا مجانًا دون أى مقابل، فليس لى أى طموحات مادية وإلا كنت استجبت لمطالبات البعض لى بعد زيادة الإقبال على اللقاءات أن أجعلها بتذاكر رمزية فرفضت رفضًا قاطعًا؛ لأننى أؤمن بأن جمهور أرواح فى المدينة لابد أن يضم صاحب أقل دخل ممكن، فالثقافة لابد أن تكون متاحة بشكل مجانى كالماء والهواء، كما أننى أؤمن بأن ما أفعله هو تدوير للحالة العطائية؛ لأننى تعلمت من آخرين الكثير، مثل جمال الغيطانى، الذى تعلمت منه عشق المدينة بأرواحها ومعمارها وثقلها الحضارى.. ووجب على أن أعطى ما تعلمته وما راكمته من خبرات، وهذا دورى وليس تفضلًا منى، ومنذ وصولى سن الأربعين ظل هاجس عندى أن يكون لى دور ثقافى لإحياء الوعى الحضارى لدى الناس وخاصة جيل نور بنتى.