محمد الباز يكتب: إحسان عبدالقدوس يغازل السادات برسالة لعبدالناصر عن الإلحاد والجنس فى «روزاليوسف»
نحن فى العام 1975.
الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس يصدر مجموعته القصصية «آسف... لم أعد أستطيع».
لم يكتف إحسان بنشر قصصه الجديدة فى هذه المجموعة، قرر أن يثير صخبًا هائلًا على طريقته الخاصة، اختار قبل أن يطرق باب الخيال أن يبدأ بقصة واقعية تحكى تفاصيل رسالته التى كتبها للرئيس عبدالناصر فى العام 1955، ولا يدرى «كما قال هو» هل أرسلها إليه، أم اكتفى بكتابتها، وتركها فى درج النسيان؟، وهو الدرج الذى يبدو أنه كان ممتلئًا بأوراق كثيرة، كان يفرج عنها إحسان فى الوقت الذى يختاره ويقصده ويحقق من خلاله أهدافه الخاصة.
لدينا هنا كتابات تصل إلى درجة الوثائق التى تسجل جانبًا من تاريخنا الصحفى والسياسى، وما دامت الوثائق حضرت فليتأخر قليلًا تحليلنا وتفسيرنا لها.
الوثيقة الأولى كتبها إحسان كتقديم لقصص مجموعته، وجاءت تحت عنوان «هل قرأ عبدالناصر الرسالة؟» على النحو التالى:
كانت التهمة هى الجنس والإلحاد.
اكتشفت خطابًا كتبته لجمال عبدالناصر ١٩٥٥... ودهشت.
لا أذكر أبدًا أنى كتبت خطابًا لأى رئيس جمهورية، ولعل هذا الخطاب هو الوحيد الذى كتبته ثم نسيته، بل إنى لا أذكر إذا كنت قد أرسلته إلى جمال عبدالناصر فعلًا، أم أننى اكتفيت بكتابته ثم ألقيت به فى درج النسيان؟
ومع قراءة الخطاب بدأت ذاكرتى الضعيفة التى تعذبنى بضعفها تستيقظ فتذكر ملامح تبدو باهتة من وراء عشرين عامًا مضت.
كانت الصحافة أيامها لم تؤمم بعد، وكانت الرقابة المفروضة عليها ثقيلة عنيفة، وكنت أنا صاحب روزاليوسف وحتى أهرب بنفسى وبـ«روزاليوسف» من ثقل الرقابة كمشت صفحاتها السياسية وفتحت صفحات أوسع للمواد الاجتماعية والأدبية، وهو نفس السبب الذى جعلنى أيامها أطالب بتأميم الصحافة، لأن الرقابة كانت قد وصلت إلى حد أن أصبحت الصحف أقرب فعلًا إلى ملكية الدولة.
كنا أيامها نتحمل كل هذا الثقل لأن الثورة كانت تخطو خطوات ناجحة قوية، وكان عبدالناصر فى أزهى انتصاراته بعد تأميم القناة وفشل الاعتداء الثلاثى، حتى أصبح الكثيرون منا يعطونه الحق فى كل شىء حتى فى فرض هذه الرقابة العنيفة، إن النجاح يبرر كل الأخطاء.
وكانت لقاءاتى الشخصية بعبدالناصر قد تباعدت كما تتباعد دائمًا مع أى رجل مسئول، لأنى غالبًا لا أستطيع أن أسهم فى تغطية مطالب المسئولين، وأصبحت آراؤه الخاصة فيما يُنشر بـ«روزاليوسف» تصلنى إما عن طريق الرقابة أو عن طريق أصدقاء مشتركين.
وعبدالناصر رغم ما كان عليه من تفتح فكرى، كان فى أحيان كثيرة يبدو متحفظًا إلى حد التزمت فى اختيار الكلمة التى تُقال والموضوع الذى يُبحث حتى خارج مجال السياسة، ولذلك فعندما تعمدت إهمال السياسة والتفرغ للأدب لم أسلم من تزمت عبدالناصر.
وقد سبق أن رويت كيف اعترض على كلمة الحب عندما كنت أكررها فى الإذاعة قائلًا فى نهاية كل حديث «تصبحوا على خير... تصبحوا على حب»، وعرض علىّ أن أستبدلها بكلمة «محبة» أى أقول «تصبحوا على محبة» ولكنى اعتذرت، وقلت له إنى أحاول أن أفرض استعمال كلمة «حب» بمعناها الصحيح، وتوقفت أيامها عن حديث الإذاعة وإلى اليوم، وعبدالناصر بدأ يستعمل كلمة «حب».
ويبدو أن عبدالناصر كان يقرأ أيامها قصص «البنات والصيف» التى كنت أنشرها فى روزاليوسف، فأرسل لى عدم موافقته على ما يُنشر أو على الأقل عدم رضائه، وفى الوقت نفسه كنت قد فتحت فى روزاليوسف صفحات للأبحاث الدينية، وكان زميلى مصطفى محمود فى مرحلة معينة من مراحل فكره الدينى، وكان ينشر دراسات دينية اعترض عليها أيضًا جمال عبدالناصر، ولعلى عندما أُبلغت بهذه الاعتراضات رأيت أن أرد عليها برسالة بدلًا من الاعتماد على نقل الكلام عن طريق الأصدقاء، وهى الرسالة التى لا أدرى ولا أذكر إذا كنت قد أرسلتها إلى عبدالناصر فعلًا أم احتفظت بها فى درج النسيان؟.
وقد رأيت أن أنشر اليوم هذه الرسالة، لا لأسهم بها فى موجة نشر الذكريات والمذكرات، فليست لى مذكرات لم تنشر، كل مذكراتى أنشرها وما أعجز عن نشره فى مقال أنشره فى قصة وألبسه لشخصية أخرى من خيالى، وإنما أنشر هذه الرسالة لأنها ترد على ضجة قامت حول قصة من القصص المنشورة ضمن هذه المجموعة من القصص، ولأنها تعبر عن نقاش لا يزال يدور بيننا حتى اليوم، وعن مواضيع لم نجد لها بعد عشرين عامًا حلًا ولا أمانًا، إنما ازددنا ضياعًا وغرقنا فيها حتى أطراف أنوفنا.
وهذه هى الرسالة كما كتبتها منذ عشرين عامًا.
قبل أن أضع أمامكم نص الرسالة التى كتبها إحسان ولا يتذكر هل أرسلها إلى عبدالناصر، أم ظل محتفظًا بها فى أوراقه الخاصة، وهى الوثيقة الثانية بيننا، أعتقد أن هناك ما يمكن أن نقوله هنا.
توقيت نشر الرسالة مريب إلى حد كبير.
صدرت المجموعة فى العام ١٩٧٥، وهو العام الذى صدرت فيه كتابات تهاجم عبدالناصر من كل جانب، وليس بعيدًا أن يكون إحسان أراد أن يشارك فى هذه الزفة، زفة الطعن فى عبدالناصر لكن بطريقته الخاصة، ولذلك اجتهد فى تبرير النشر بأن الرسالة ليست ذكريات ولا مذكرات، لأنه ليس عنده لا هذه ولا تلك.
يذكر إحسان أنه نشر الرسالة لأنها ترد على ضجة قامت حول قصة من قصص المجموعة الجديدة، وهى بالترتيب «الراقصة والطبال- قبل الوصول إلى سن الانتحار- آسف... لم أعد أستطيع- كان يعيش مع لسانه- الزجاجات الفارغة- قبل أن تخرج الحقيبة من الباب- شباك كلها ثقوب».
لم يحدد إحسان القصة التى أثارت ضجة ودعته إلى نشر الرسالة، وليس فى تراثه ما يشير إلى أن أيًا منها أثار ضجة، وإن كنت سأتعامل معه بحسن نية، فمن بين القصص، قدم لقصتين بمقدمة صغيرة توحى بأن كلًا منهما قوبل بسوء نية.
القصة الأولى هى «آسف... لم أعد أستطيع» وقال قبل نشرها: صدقونى هذه حكاية أخرى سمعتها وأنا أطوف العالم، حكاية واقعية حدثت منذ سنوات طويلة، وأنا أسمع من ناس مسئولين يكشفون أسرارًا تصلح للنشر كأخبار، ولكنى كعادتى أعيش الواقع بخيالى وأصنع من الخبر قصة وربما كانت واقعية هذه القصة وصدقها، رغم كل ما أضفته عليها من خيالى، هو ما يبرر جرأتى على نشرها رغم كل ما فيها.
والقصة الثانية هى «شباك كلها ثقوب» وقال عنها: هذه ليست قصة، إنه حادث كان يمكن أن أرويه كخبر صحفى، ولكن لغرابته فضلت ألا أرويه كنص ما سمعته، بل أرويه كما أتصوره، وهكذا أنا دائمًا، لا أستطيع أن أهرب من خيالى، ويضيع الصحفى منى داخل الأديب.
لا توجد فى هذه المجموعة قصة أثارت ضجة، كما فعلت «البنات والصيف» التى يدّعى إحسان أن رأى عبدالناصر فيها هو ما دعاه لكتابة رسالته، وهو ما يجعلنى أميل إلى أن إحسان لم يكتب الرسالة فى العام ١٩٥٥ بل كتبها فى العام ١٩٧٥ لتكون قذيفة ثقيلة موجهة إلى رأس عبدالناصر تنال منه وتنتقص من قدره، وربما كان هذا سبب تشكيكه فى مصيرها، وهل أرسل بها إليه أم أحتفظ بها، لأنه لو قال إنه قام بإرسالها إلى الرئيس وهو لم يفعل ذلك لخرج من يشكك فيه ويطعن فى صدق الرواية من الأساس... ولم يكن عبدالناصر ليعدم من يدافع عنه ويدفع كذب إحسان فى صدره.
فى نص الرسالة التى سنقرأها بعد قليل، أشار إلى أن صديقه هيكل هو من أخبره بغضب جمال عبدالناصر من «البنات والصيف»، لكنه فى تقديمه للرسالة أغفل ذكر هيكل تمامًا، وربما كان هذا منطقيًا، فهيكل فى توقيت النشر كان من المغضوب عليهم بعد أن أخرجه الرئيس السادات من الأهرام فى فبراير ١٩٧٤ لتشتعل النار بينهما.
لم يكتف إحسان بتجاهل ذكر هيكل فقط، ولكنه طعن فيه أيضًا، عندما قال إنه فضل أن يكتب رسالة إلى الرئيس حتى لا يكون بينهما وسطاء، لأن الوسطاء، كما ألمح، لن يكونوا أمناء فى نقل الرسائل... وهى إشارة إلى أن هيكل لم يكن أمينًا فى نقل ما يسمعه إلى عبدالناصر، ولكن كان يلونه طبقًا لما يرى ويريد.
إحسان نفسه لم يكن أمينًا فى تسجيل وتوثيق ما دار بينه وبين عبدالناصر.
ففى تقديمه للرسالة المريبة أشار إلى أن عبدالناصر غضب من ختامه لللبرنامج الإذاعى الذى كان يقدمه إحسان فى الإذاعة، عندما كان يقول «تصبحوا على حب» وأنه طلب منه استبدالها بقوله «تصبحوا على محبة»، لكنه رفض ليتوقف البرنامج بعد ذلك.
لم يكن ما قاله إحسان دقيقًا، وأعتقد أن الكاتب الصحفى محمد عبدالقدوس لن يكذب على أبيه.
فما جرى- كما يقول محمد عبدالقدوس- أن الجملة التى كان يختم بها إحسان برنامجه أثارت استياء المستمعين واعتراضهم، ووصلت احتجاجات عديدة إلى الإذاعة، وربما كانت هذه الاحتجاجات لاعتقاد الناس أن إحسان بدعوته إلى الحب يحرض على ممارسة الجنس، فطلب منه المسئولون فى الإذاعة أن يستبدل جملته بـ«تصبحوا على خير» لكن إحسان رفض.
قال إحسان للمسئولين فى الإذاعة: إذا فعلت ذلك فهذه إهانة للحب الذى أقصده، وهو حب يملأ السماوات والأرض، ويشمل كل شىء فى الدنيا، وما أريده أن أرتقى بالحب فى مفهوم الناس فلا يظنونه قاصرًا على الحب بين الرجل والمرأة فقط.
وعندما عرض الأمر على الرئيس عبدالناصر، تدخل لدى إحسان ليصل إلى حل وسط، وكان هو من اقترح جملة «تصبحوا على محبة» بدلًا من «تصبحوا على خير» التى اقترحها المسئولون، لكن إحسان رفض، وتوقف عن استكمال البرنامج، وهو ما يعنى أن عبدالناصر تدخل للحل ولم يفرض شيئًا على إحسان.
ما يؤكد شكوكى فى نوايا إحسان، وأنه لم ينشر الرسالة التى وجدها بين أوراقه إلا للتاريخ ولأن هناك قصة من قصص مجموعته الجديدة أثارت ضجة، ما ختم به تقديمه للرسالة، وهو الختام الذى يقول فيه: هذه الرسالة التى كتبتها العام ٥٥ لجمال عبدالناصر وبين كلماتها ما يعبر عن مدى ثقتنا فيه وحبنا له فى هذه الفترة، فترة الخمسينيات التى وصفها الرئيس السادات بأنها كانت فترة الانتصارات، وقبل أن تبدأ فترة الستينيات والتى وصفها الرئيس السادات بأنها فترة الهزائم، والتى أخذت منا كثيرًا من الحب الذى كان يجمعنا بعبدالناصر، وما قلته أيامها فى هذه الرسالة هو نفس ما أقوله ويقوله معى الكثيرون إلى اليوم، حدود أدب القصة وحدود الفكر الدينى، فإننا ما زلنا فى نفس الحدود لم نتقدم ولا خطوة واحدة طوال عشرين عامًا مضت.
فهو هنا يحشر اسم الرئيس السادات حشرًا فى سياق لا يستدعيه، فهو يعلم أن السادات سيقرأ ما يكتبه، ويعلم أيضًا أن هذا سيروق له كثيرًا، فلم يتأخر عن كتابة ما يرضى الرئيس حتى لو قال غير ذلك.
الآن يمكن أن نقرأ معًا رسالة إحسان عبدالقدوس إلى جمال عبدالناصر، وهى رسالة لا يتحدث فيها عن موقفه الصحفى فقط، ولكنه يكشف بعضًا مما لا يعرفه الناس عن التزامه الدينى، الذى من المفروض أنه يخصه وحده، لكنه أراد أن يضعه أمام الرئيس فى محاولة للدفاع عن نفسه، بأنه ملتزم ومؤمن وليس منفلتًا ولا ملحدًا كما يحب البعض أن يصوروه.
لن أتقاطع مع رسالة إحسان لا بكثير ولا بقليل، سأتركها أمامكم ولكم بعد ذلك الحكم عليها.
«السيد الرئيس جمال عبدالناصر
عزيزى السيد الرئيس...
تحية حب وشوق
أبلغنى صديقى (الأستاذ هيكل) رأى سيادتكم فى مجموعة القصص التى نشرتها أخيرًا بعنوان (البنات والصيف)، وقد سبق أن أبلغنى نفس الرأى السيد حسن صبرى مدير الرقابة واتفقت معه على تعديل الاتجاه الذى تسير فيه قصصى.
ورغم ذلك فإنى أريد أن أشرح لسيادتكم الدافع والهدف اللذين يدفعاننى إلى كتابة قصصى لا دفاعًا عن نفسى بل فقط لأكون قد أبلغتكم رأيى.
أنا لا أكتب هذه القصص بدافع الربح المادى، فإنى ما زلت أقل كتّاب القصة ربحًا، ولا أكتبها بدافع الرغبة فى رفع توزيع المجلة، فقد كنت أكتب هذه القصص فى الوقت الذى لم تكن المجلة فى حاجة إلى رفع توزيعها، وقبل الثورة وعندما كنت أكتب فى قضية الأسلحة الفاسدة وأثير حملاتى على النظام القائم وكان عدد روزاليوسف يباع بعشرين قرشًا (١٠ أضعاف السعر)... فى نفس الوقت كنت أكتب قصة (النظارة السوداء) وأنشرها مسلسلة، وهى قصة تصور مجتمع المتمصرين تصويرًا صريحًا جريئًا.
وإذا كان رفع توزيع المجلة يعتمد على نشر القصص المسلسلة، فإن القصص الاجتماعية الصريحة ليست وحدها التى ترفع التوزيع، وقد سبق أن نشرت فى روزاليوسف قصة (فى بيتنا رجل) وهى قصة وطنية خالصة ليست فيها مشكلة حب ولا مشكلة جنس، ورغم ذلك فقد رفعت هذه القصة من توزيع المجلة أكثر مما رفعته قصة (لا أنام) مثلًا التى تدور حول مشكلة عاطفية، وذلك كما هو ثابت فى كشوف توزيع المجلة.
فأنا لا أتعمد اختيار نوع معين من القصص أو اتجاه معين، ولكن تفكيرى فى القصة يبدأ دائمًا بالتفكير فى عيوب المجتمع، وفى العُقد النفسية التى يعانيها الناس، وعندما أنتهى من دراسة زوايا المجتمع أسجل دراستى فى قصة، وكل القصص التى كتبتها كانت دراسة صادقة وجريئة لعيوب مجتمعنا، وهى عيوب قد يجهلها البعض ولكن الكثيرين يعرفونها، وهى عيوب تحتاج لجرأة الكاتب حتى يتحمل مسئولية مواجهة الناس بها، ومنذ سنين عديدة وجدت فى نفسى الجرأة لتحمل هذه المسئولية.
والهدف من إبراز هذه العيوب هو أن يحس الناس بأن أخطاءهم ليست أخطاء فردية بل هى أخطاء مجتمع كامل، أخطاء لها سببها وظروفها فى داخل المجتمع، ونشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون، وسيؤدى بهم هذا السخط إلى الاقتناع بضرورة التعاون على وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا تتسع للتطور الكبير الذى نجتازه وتحمى أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التى يتعرضون لها نتيجة هذا التطور، وهذا هو الهدف الذى حققته قصصى، فقد بدأ الناس يسخطون، ولكنهم بدلًا من أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على أنفسهم، وبدلًا من أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على الكاتب، أى سخطوا علىّ أنا، ولكنى كنت مؤمنًا مع استمرارى وتصميمى سينقلب السخط علىّ إلى سخط على عيوب المجتمع، ومن ثم يبدأ الناس فى التعاون على إصلاح ما بأنفسهم.
وإن ما أراه يا سيدى الرئيس فى مجتمعنا لشىء مخيف، إن الانحلال والأخطاء والحيرة والضحايا، كل ذلك لم يعد مقصورًا على طبقة واحدة من طبقات المجتمع بل امتد إلى كل الطبقات، وحتى الطبقة الثورية بدأ الجيل الجديد منها ينجذب إلى مجتمع الخطايا، وأصبحت البيوت المستقرة التى تقوم على الخلق القوى والتقاليد القويمة بيوتًا لا تمثل مجتمعنا بل تمثل حالات فردية متناثرة هنا وهناك.
وقد أبلغنى صديقى هيكل بأن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت إحدى قصص (البنات والصيف)بما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية، والذى سجلته فى قصصى يا سيدى الرئيس يحدث فعلًا، ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه والقانون لن يحول دون وقوعه، إنها ليست حالات فردية كما قلت، إنه مجتمع منحل، ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة، إلا انبثاق فكرة من سخط الناس كما انبثقت ثورة ٢٣ يوليو، لهذ أكتب قصصى.
وفى جميع فترات التاريخ كان هذا دور كتّاب القصة، وقد كان الكاتب الفرنسى بلزاك يكتب قصصًا أشد صراحة من قصصى، قصصًا تدور فى مخادع بنات الداخلية فى المدارس وفى أقبية الرهبان والراهبات فى الأديرة وفى القصور والأكواخ، وثار الناس على بلزاك فى عصره ولكنه يعتبر اليوم مصلحًا اجتماعيًا وقصصه تترجم بالكامل فى الاتحاد السوفيتى، حيث يعتبر هناك أحد المعاول التى هدمت الطبقات الاجتماعية المنحلة، وغيره كثيرون من كتاب القصة مهدوا بقصصهم للإصلاح الاجتماعى، وبين كتاب العصر الحديث أيضًا تقوم قوة الكاتب على قدرته على إبراز عيوب المجتمع دون أن يطالب بوضع العلاج لها، إن مهمته تقتصر على التشخيص أى إبراز المرض ونتائجه... ألبرتو مورافيا فى إيطاليا وجان بول سارتر فى فرنسا وهيمنجواى وفولكنر فى أمريكا، وغيرهم عشرات كلهم يكتبون قصصًا أكثر صراحة وبشاعة من قصصى، ورغم هذا فهم يرشحون لجائزة نوبل.
وحاول كثيرون من الكتاب فى مصر أن يحملوا هذه المسئولية... عبدالقادر المازنى فى قصته (ثلاثة رجال وامرأة)، وتوفيق الحكيم فى قصته (الرباط المقدس)، ولكن ثورة الناس عليهم جعلتهم يتراجعون، وظهرت طبقة من كتاب القصص فتعرضوا لتصوير عيوب المجتمع وأخطائه وعقده الجنسية ولكنهم صوروها بعيدًا عن الجو الواقعى فلم يتأثر الناس بها، أو صوروها داخل الطبقة التى لا تقرأ، الطبقة الفقيرة، فلم تحس بها الطبقة القارئة، لأن كل طبقة تعتبر الطبقة الأخرى عالمًا وحده، عالمًا بعيدًا لا يهمها ما يجرى فيه.
وكل ما فعلته أنا بعد ذلك هو أنى تحملت المسئولية بما فيها مسئولية سخط الناس علىّ، واعتقدت، سواء خطأ أو صوابًا، أن قصصى تؤدى دورًا فى التمهيد لإصلاح المجتمع بتجسيم عيوبه.
ولعل سيادتكم تذكر أنى قد حادثتكم كثيرًا عن الدور الكبير الذى يمكن أن يؤديه الأدب القصصى وأسهمت تحت رعايتكم بمجهود كبير فى تنشيط الحياة الأدبية فى مصر، سواء بتجميع الأدباء والكُتاب فى الهيئات الأدبية المختلفة أو برفع مستوى كاتب القصة المادى والأدبى، ولم يكن لى أى كسب شخصى من وراء هذه الجهود، ولم أحقق كسبًا أدبيًا أو كسبًا ماديًا، بل إن دار روزاليوسف خسرت ثلاثة آلاف جنيه فى مشروع الكتاب الذهبى نتيجة نشر قصص الناشئين، لم يكن لى أى غرض إلا الجرى وراء إيمانى.
يبقى بعد ذلك ما حدثنى به الزميل هيكل عن دعوة الإلحاد فى صحف دار روزاليوسف والمقالات التى ينشرها مصطفى محمود الخاصة ببحث فلسفة الدين، ولكنى أحب أن أرفع لسيادتكم رأيى فى هذا الموضوع حتى أكون قد صارحتكم بكل شىء.
إنى مؤمن بالله يا سيدى، لست ملحدًا، ولعلك لا تعرف أنى أُصلى، ولا أُصلى تظاهرًا ولا نفاقًا، فجميع مظاهر حياتى لا تدل على أنى أصلى، ولكنى أصلى لأنى أشعر بارتياح نفسى عندما أصلى.
ورغم ذلك فإنى أعتقد أن ديننا قد طغت عليه كثير من الخزعبلات والأتربة والتفسيرات السخيفة التى يقصد بها بعض رجال الدين إبقاء الناس فى ظلام عقلى حتى يسهل عليهم استغلال الناس والسيطرة عليهم، فى حين أنه لو تطهر الدين من هذه الخزعبلات ونفضنا عنه هذه الأتربة لصح ديننا وصحت عقولنا ونفوسنا، وسهل على قيادتكم أن تسير بالشعب فى الطريق الذى رسمته له.
ومن أجل هذا بدأت منذ زمن طويل أنشر فى روزاليوسف مقالات تبحث فى الدين، ولم أكن أنا أشترك بقلمى فى هذه المقالات لأنى لست رجل دين، ولكنى دعوت إليها فريقًا من رجال الدين المتحررين ومن الكتاب الذين أعتقد أنهم درسوا وقرأوا إلى الحد الذى يتيح لهم الكتابة فى الدين، وقد سبق مثلًا أن نشر الدكتور محمد أحمد خلف الله مقالًا فى روزاليوسف يؤكد فيه أن القرآن لا يمنع زواج المسلمة من الكتابى أو من المسيحى، وهى دعوة جريئة ولكن الدكتور خلف الله أستاذ فى الدين ودراسته وعلمه يخولان له أن يحمل مسئولية مثل هذه الدعوة.
وهكذا كنت أعطى الفرصة لكثير من الكتّاب ليبحثوا فى أمر الدين، معتقدًا أن فتح هذا الباب سيؤدى حتمًا إلى رفع مستوى الإيمان الدينى، وقد وقع كثير من الأخطاء نتيجة فتح الباب لمقالات مصطفى محمود مثلًا، ولكن لا شك أننا خرجنا إلى جانب هذه الأخطاء بمقالات جيدة كان لها أثر كبير فى التفكير الدينى، وكان آخر ما حاولته هو أنى حاولت تصفية الأحاديث التى لا يمكن أن تُنسب إلى نبينا كحديث (خير اللحم ما جاور العظم) أو (الذبابة على أحد جناحيها داء وعلى الآخر دواء)، وهى للأسف أحاديث معترف بها وتنشر فى المجلة التى تصدر عن وزارة الأوقاف، فدعوت أحد علماء الأزهر وكتب مقالًا عن الأحاديث حذفته الرقابة.
وهذا هو الهدف والدافع اللذان يدفعاننى إلى التعرض للمواضيع الدينية لا لأننى ملحد، بل لأننى مؤمن ولأننى أعتز بإيمانى من أن يكون إيمانًا لا يقره عقل.
وبعد يا سيدى الرئيس..
إن كل ما قصدته بخطابى هذا هو أن أظل محتفظًا بثقتك فىّ، وأنا محتاج إليك كسند وأخ، وقد عشت حياتى كلها أشعر بالوحدة بين الناس وأكافح وحدى ضد دسائس الناس وظلمهم لى، دون أن آخذ من كفاحى شيئًا إلا استمرارى فى الكفاح.
المخلص... إحسان عبدالقدوس».
عندما تعيد قراءة الرسالة مرة أخرى، ستخالفنى فيما ذهبت إليه من أنها كُتبت بأثر رجعى، فليس معقولًا أن يكتب إحسان هذه الرسالة بكل هذا الخضوع والانبطاح لينال من عبدالناصر، فهو ينال من نفسه قبل أن ينال من الرئيس، وقد يكون لديك كل الحق فيما تقوله، لكننى لن أتخلى عن قناعتى بأن ما فعله إحسان بنشره الرسالة بعد كتابتها بعشرين عامًا لم يكن لوجه الصحافة أو وجه الأدب.. ولكنه فعل ذلك لحاجة فى نفسه لن يكون صعبًا علىّ ولا عليك لنعرفها.. نقبلها أو نرفضها بعد ذلك فهذا شأن آخر.