المستنيرة.. الباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر: الخطابات الدينية العاطفية تهيمن بسبب تهميش المفكرين
- بدون المراجعة النقدية وتعقُب مسار الأفكار وتفكيك الأيديولوجيا لا يمكننا أن نتقدم
- كفى تهميشًا للفكر العربى فقد حان الوقت لأن يستعيد وهجه
- فجوة كبيرة بين الخطاب الفلسفى والفكرى من جهة والخطاب الدينى التقليدى الذى يعزف على أوتار المشاعر وخطاب الهوية المهددة
- يهمنى تسليط الضوء على المفكرين العرب الذين يقدمون إسهامات فكرية جبارة ولا يحظون بالاهتمام الكافى
- من الممكن تمييز أكثر بين الروحى والزمنى وعدم تداخل الدين مع السياسة بشكل صارم
- أسعى للإسهام فى إعادة تقديم الفكر العربى
- «تكوين» حاولت مواجهة تغييب الفكر فوجِهت بالنقد والمعارضة والمؤسسة ماضية فى تحقيق أهدافها ومد جسور معرفية مع الجيل الجديد
- وسائل الإعلام تغفل دعم المفكرين وتقصّر فى إتاحة الوقت لهم وهو ما يجعل تأثير الفكر على المجتمع ضعيفًا
تعمل الباحثة اللبنانية نايلة أبى نادر بدأب عبر أعمالها المتتالية على متابعة مشروعات الفكر العربى، مستقصية قضاياه الرئيسية وانشغالاته الكبرى التى لا تزال الحاجة إليها اليوم حاضرة. فمن خلال منظور فلسفى نقدى تعيد الباحثة النظر فى الكثير من المسلمات السائدة، مسلطة الضوء على التحديات التى تواجه المجتمعات العربية فى ضوء العولمة والتغيرات الاجتماعية والسياسية.
قدّمت «أبى نادر» أعمالًا فكرية بارزة منها «التراث والمنهج بين أركون والجابرى»، و«الفكر العربى الحديث والمعاصر.. نماذج نقدية»، كما شاركت فى كتب جماعية مختلفة. وكان أحدث إصداراتها عن الهيئة المصرية العامة، كتاب «شربل داغر.. العولمة والنص»، والذى تدرس من خلاله الفضاءات الفكرية خلف قصائد الشاعر والمفكر اللبنانى.
وفضلًا عن نشاطها الأكاديمى والبحثى، تسعى «أبى نادر» لإيجاد حلول جديدة للتحديات الفكرية التى يواجهها العالم العربى من خلال مشاركاتها الفاعلة فى مؤسسات ثقافية وفكرية، ومنها «مؤسسة تكوين الفكر العربى»، التى تحاول من خلالها المشاركة فى مواجهة حالة الركود الفكرى بالمجتمعات العربية.
فى هذا الحوار، تتحدث «حرف» مع أبى نادر عن أحدث أعمالها وما يثيره من أفكار وأطروحات، ونحاول استكشاف أسئلة الواقع والمستقبل، وتقصى أسباب غياب دور المفكرين، وسبل تعزيز الفكر النقدى بمجتمعات لا يزال الخطاب الدينى متحكمًا وحاكمًا لها.
■ ما الذى دفعك نحو دراسة نصوص شربل داغر على وجه الخصوص فى كتابك الأحدث «شربل داغر.. العولمة والنص»؟
- خاض المفكر اللبنانى شربل داغر مجالات جديدة ومبتكرة فى البحث، وكان تلميذًا فى السوربون للمفكر الجزائرى محمد أركون. وفى سياق عملى الأكاديمى، اشتغلت على مشروع أركون فى رسالتى الماجستير والدكتوراه، ما أثار لدى اهتمامًا خاصًا برصد كيفية تلقى هذا المشروع وأصدائه بين طلابه ومريديه، خاصة أولئك الذين انتهجوا نهج النقد الذى اعتمده أركون. من هنا بدأت الاهتمام بكتب شربل داغر التى تناولت موضوعات النهضة، والفلسفة، والزمن، والقصيدة، بالإضافة إلى مجال الفن الإسلامى، فهو يُعد من أوائل الباحثين الذين خاضوا فى فلسفة الفن الإسلامى، وأسهم بشكل لافت فى مجال الجماليات الإسلامية.
تابعت إنتاج داغر الفكرى عن قرب، وأشرفت على رسالتىْ ماجستير ودكتوراه لطالب اختار دراسة فكر داغر، وقد نُشر هذا البحث لاحقًا فى كتاب. وحرصت على تتويج مسيرة دراستى لفكر داغر من خلال كتابى الأخير، الذى قسّمته إلى قسمين: القسم الأول تضمن حوارًا معه، مهدت من خلاله لعرض خلاصة أبحاثى عنه فى القسم الثانى. فى إعداد هذا العمل، درست خيارات داغر الكتابية وحللت دوافعه لكتابة أعماله فى مجالات الفلسفة، والجماليات، والنهضة، ما جعل هذا الكتاب بمثابة تأريخ وتحليل عميق لإسهاماته الفكرية.
■ ولم جاء اختيارك للعولمة لتكون عنصرًا مركزيًا فى دراستك لأعمال شربل داغر؟
- حظيت العولمة بدراسات عديدة فى الغرب، لكن فى المجال العربى نفتقر إلى أبحاث مماثلة. هناك دراسات غربية تناولت تأثير العولمة على الحضارة والفكر وإنتاج النصوص، وأظهرت إلى حد كبير أن الحضارة دائمًا فى حالة اختبار مستمر، وأن هناك صراعًا وتفاعلًا مستمرين يؤثران على الثقافة، سواء كانت غربية أم عربية.
من هنا، سعيت إلى استكشاف كيفية تأثير العولمة على بنية النص وحركة الأدب والثقافة، وهى القضايا التى حاولت التطرق إليها من خلال هذا الكتاب، فعندما قرأت شعر شربل داغر، فوجئت بوجود زحزحة للحدود بين الأصناف الأدبية والتخصصات، فالفلسفة والشعر والتكنولوجيا تندمج فى مساحة إبداعية واحدة. لم يعد هناك مجال للتخصص الواحد؛ فالعولمة بذاتها تمثل زحزحة للحدود، حيث تسقط الحواجز بين الدول والقارات، وينعكس هذا الانفتاح على الأنواع الأدبية والفكرية. لمست هذا البعد بوضوح أثناء دراستى لكتابه «ترانزيت»، الذى يجمع بين الشعر، والمسرح، والتفلسف فى صيغة حوارات ممسرحة. من هنا جاء تركيزى فى كتابى على دراسة هذا الانفتاح والتداخل بأعمال شربل داغر، وكيف أسهمت العولمة فى إعادة تشكيل المشهد الأدبى والثقافى.
■ وما أبرز التحديات التى واجهتك فى محاولة فهم موقف شربل داغر من العولمة؟
- ليس هناك نص تنظيرى مباشر حول العولمة فى أعمال شربل داغر، لكن من خلال قراءتى لنصوصه حاولت استكشاف أثر العولمة فى بنية أعماله الشعرية والفكرية. بحثت فى الكيفية التى عالج بها هذه الموضوعات ضمن مقارباته الفلسفية والشعرية، وركزت فى دراستى على مكتسبات العولمة وتجلياتها كما تتضح فى أعماله.
تناولت فى أحد فصول كتابى قصيدة «ترانزيت» التى تعد نصًا محوريًا فى كتاب داغر المعنون «ترانزيت». هذه القصيدة تحمل دلالة عميقة؛ فالعنوان يشير إلى حالة من الحراك الدائم، حيث نكون فى قاعة انتظار بين مكانين دون الوصول أو المغادرة. إنها حالة وجودية تجعلنا نعيد التفكير فى هويتنا وعلاقتنا بالآخر. فى هذا السياق، تشير القصيدة إلى محاولتنا فهم العالم الذى تركناه أثناء سفرنا نحو عالم آخر، بينما نعيش الآن فى وضعية انتقالية.
أحد النصوص التى لفتت انتباهى أيضًا هو قصيدة «نميمة إلكترونية»، التى وردت فى كتابه «إعرابًا لشكل». يبدو أن داغر كتبها بعد اعتداءات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ فى نيويورك، وهو تاريخ مفصلى يرى البعض أنه كان بداية حقيقية للعولمة الحديثة. فى هذه القصيدة، وجدت إشارات عديدة تعكس تلك اللحظة الكونية التى تجمع بين الخصوصية والعمومية فى آن واحد. تناول فيها داغر إحالات إلى حالة القلق التى فرضتها العولمة، والتى تتجلى فى تبدلات الزمن والرموز والإشارات.
كما تميز داغر بمقاربته للتكنولوجيا فى الشعر. فى كتابه «حاطب ليل»، وجدت نصًا يتناول الحاسوب، وهو أحد أبرز مفاعيل العولمة. هذا الربط بين الحاسوب والنص الشعرى كان جديدًا وغير مألوف فى معظم القصائد المعاصرة. دفعنى ذلك إلى البحث بشكل أعمق فى تأثير العولمة على الشعر من خلال أعماله.
فى حواراته كذلك، أشار داغر إلى العنف المتعدد الأوجه الذى تحمله العولمة، لكنه لا يخفى تفاؤله بإمكانات التقدم نحوها، داعيًا إلى إيجاد موقع لنا ضمنها. يرى داغر العولمة باعتبارها وجهة للعالم الجديد، رغم التهديدات التى تفرضها علينا، حتى أننا مرشحون لأن يُفرض علينا أنماط عيش لا نختارها. وقد استنتجت من كتاباته وحواراته فهمه المختلف للنص الشعرى، فالنص لم يعد مجرد كلمات على الورق، بل تحول مع دخول الحاسوب إلى وسيط ديناميكى مفتوح على إمكانات جديدة. الحاسوب لم يعد أداة للكتابة فقط، بل صار فضاءً حيويًا يجعل النص يتجاوز حدوده التقليدية، فتصبح الشاشة فضاءً تواصليًا وماديًا يتيح تشكلات مفاجئة. داغر يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يجعل للنص أفقًا يتعدى الكلمة المكتوبة ليشمل الصورة والحركة والتفاعل.
■ تطرقتِ فى الكتاب إلى العلاقة الفكرية بين شربل داغر ومحمد أركون. كيف يمكن فهم التداخل بين رؤيتهما ومنهجهما النقدى فى مواجهة القراءات المؤدلجة والتفكير التقليدى؟
- العلاقة بين أركون وداغر تطورت من علاقة أستاذ بتلميذه إلى علاقة فكرية أعمق، فقد تبنى داغر المنهج النقدى الذى عمل عليه أركون، ثم طوره وأضاف إليه بقراءاته للفن الإسلامى وتاريخه ومصطلحاته. استفاد داغر أيضًا من هذا النهج النقدى فى دراسة الحضارة العربية، القصيدة العصرية، وقصيدة النثر، ما جعله واحدًا من أبرز المفكرين الذين يتميز عملهم دائمًا بالسعى لتقديم رؤية نقدية متجددة لعصر النهضة.
وعلى غرار أركون، الذى أمضى نحو خمسين عامًا فى الحفر فى التراث ودراسة النصوص وتأويلها نقديًا، انشغل داغر بتحليل الحقائق المثبتة وتفكيك القراءات المؤدلجة التى قيّدت العقل العربى وأضعفت أدواته النقدية. أركون أشار إلى مكمن الخلل فى الحضارة العربية الإسلامية، الذى يتمثل فى العقل اللاهوتى والسياسى، وهو ما انعكس فى اهتمام داغر بالفكر النهضوى. بدوره، استفاد داغر من الحداثة، ليس لتبنيها فقط، بل لتجاوزها عبر العودة إلى الوراء لتقديم قراءات نقدية عميقة لنهضة العرب وفكرهم.
تتمثل القواسم المشتركة بين أركون وداغر فى الانفتاح الذهنى النهم لتلقى العلوم الحديثة، وهضمها، وتطبيقها على التراث العربى الإسلامى. لكل منهما رؤية نقدية للفكر الحديث والتراث على حد سواء، وقد انشغل كلاهما بكيفية البحث العلمى، فالمنهج بالنسبة إليهما ليس مشروعًا جاهزًا، بل عملية متطورة تتشكل تباعًا وفق طبيعة الحقول التى يعملان فيها. هذه القناعة المشتركة بالحاجة إلى التكيف المستمر مع متطلبات البحث جعلت من منهجيهما أدوات حيوية لاستكشاف طبقات المعنى وإعادة النظر فى القضايا الفكرية الكبرى.
■ فى كتابك «الفكر العربى الحديث والمعاصر» حللت فكر عدد من النهضويين والحداثيين العرب، ما الذى يعوق تأسيس مشروع حداثى عربى انطلاقًا من القواسم المشتركة بين أفكار هؤلاء الرواد؟
- ما يجمع المفكرين الخمسة الذين اخترت العمل عليهم فى هذا الكتاب هو المنهج النقدى الذى يبرز فى رؤاهم المختلفة. على سبيل المثال، أمين الريحانى قدّم رؤية نقدية متميزة فى تحليله للنفس البشرية والدين ورجال الدين، فقد تناول هذه القضايا بمنهج يشكك فى المسلمات ويطرح تساؤلات جوهرية تتجاوز التفكير التقليدى. أما عبدالله العلايلى، اللغوى ورجل الدين المعروف فى لبنان، فقد ظُلم بعدم تداول أعماله بالشكل الذى يستحقه، على الرغم من فكره النقدى العميق. لقد سلطت الضوء على مقاربته النقدية للدين، إذ اتبع منهجًا فريدًا فى دراسته لفكر المعرى، ففصّل أفكاره بطريقة نقدية، وقدم جديدًا من ناحية تحديد كيفية قراءة أديب ما قراءة نقدية.
وعندما تناولت فكر صادق جلال العظم، توقفت عند طريقته فى تفكيك مفهوم الأسطورة، وكيفية تناوله للمسألة الدينية من منظور نقدى. لقد تناول «العظم» النص الدينى بمنهج يرتكز على الفكر التاريخى والاجتماعى، متجاوزًا المحرمات وقارئًا النصوص من زاوية جديدة أثارت نقاشات واسعة. أما نصر حامد أبوزيد، الفيلسوف الكبير، فقد ركزت على مساره الطويل فى تقديم منهج تأويلى معاصر يسعى إلى إعادة قراءة النص الدينى باستخدام مفهوم المجاز فى التراث، مع توظيف مكتسبات علوم اللغة لتقديم رؤية تأويلية جديدة. أسهم نصر حامد أبوزيد فى إرساء قواعد تأويلية تتجاوز المحرمات وتحرر العقل واللغة من قيود القراءة التقليدية. ومع ذلك، فإن محاولاته فى مراجعة مفهوم المجاز وطرح تأويل حديث للنصوص لم تلقَ قبولًا لدى الجميع وأثارت الكثير من الجدل.
تناولت أيضًا مسألة العولمة والمنحى النقدى فى أعمال شربل داغر، الذى أعاد تعريف مفاهيم مثل الاستعارة والتشبيه والقصيدة، إضافة إلى تطوير المناهج النقدية عبر تشبيك الاختصاصات والأنواع الأدبية. هذا الجانب من فكره الذى يسعى إلى مزج المناهج بشكل متكامل لتقديم قراءة نقدية متجددة هو ما أبرزته لاحقًا فى كتابى عنه.
ما يجمع هؤلاء المفكرين هو المنهج النقدى والرؤية النقدية، التى نفتقدها اليوم لأن الفكر النقدى دائمًا ما يوجع ويقلق ويزعج، ولهذا يُحارب، سواء فى الماضى أو فى الحاضر. فبدون النقد والمراجعة النقدية وتعقب مسار الأفكار، ودراسة الأيديولوجيا وحدودها المرتفعة والمنخفضة، وتفكيكها، لا يمكننا أن نتقدم. نحن بحاجة إلى قراءة الماضى والحاضر قراءة نقدية، تسلط الضوء على مواضع الضعف والتأزم، كى نتمكن من النهوض واستكمال المسار.
■ إذًا ما الذى يمنع الفلسفة من أن تكون جزءًا من الوعى العام فى العالم العربى؟ وكيف يمكن التغلب على ذلك نحو دور فعال لها؟
- نحن كباحثين ومفكرين ومشتغلين بالفكر والفلسفة، ندرك عن قرب تعدد المشكلات والمعيقات التى تواجه النهوض الفكرى والثقافى، لكننا نرى أيضًا محاولات جادة ورصينة تستحق التقدير. هناك جهود ملحوظة تُبذل بين أروقة الجامعات ومراكز الأبحاث، وهى بحاجة إلى تسليط الضوء عليها، لأن النهوض لا يتم إلا بتضافر هذه الجهود واستمراريتها.
ما يعوق التفلسف اليوم يعود إلى عوامل عدة، فى مقدمتها التربية. فهناك خوف متأصل من العقل والتفكير والنقد. هذا الخوف يضعف القدرة على التجرؤ على التساؤل والرفض والمراجعة النقدية. أثناء عملى على أطروحة الدكتوراه حول الفكر النقدى العربى، تفاجأت بعدم وجود كلمة «نقد» مستخدمة فى القواميس العربية بالمفهوم الفكرى كما هو الحال فى القواميس الأوروبية أو الغربية. فى الفكر الأوروبى، تحمل كلمة «نقد» دلالات واسعة وصفحات من التأويلات المختلفة، بينما فى القواميس العربية تقتصر على معانى نقد العملة أو التمييز بين الصحيح والزائف فيها. هذه الرهبة من ممارسة النقد تؤثر على الفلسفة، التى نشأت منذ بدايتها على الفكر النقدى. الفلسفة تأسست على نقد الدين والعالم، وتطورت مدارسها بفضل الحوار الجدلى بين الفلاسفة، حتى بين الأساتذة وتلاميذهم، كما هو الحال فى الخلاف الشهير بين أفلاطون وأرسطو.
حتى فى الحقبة ما قبل السقراطية، مثّلت تناقضات هيراقليطيس وبارمينيدس حول العالم والوجود أساسًا للنقد الذى قاد إلى تطور الفلسفة. وفى الفكر الحديث، يقوم تطور الفلسفة على الجدل والمراجعة النقدية. مع ذلك، ما زلنا نعانى من مخاوف متجذرة من التفكير النقدى، ومن السجن الذى يفرضه الخوف على العقل، ما يمنع انطلاقته نحو آفاق أوسع وأعمق.
إضافة إلى التربية، هناك إشكال آخر يتمثل فى تهميش المفكرين والفلاسفة. لا تُمنح النجومية اليوم للفكر أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع، بل تتجه إلى مجالات أخرى. وسائل الإعلام تغفل دعم المفكرين، وتقصّر فى إتاحة الوقت لهم لعرض أفكارهم ومشاريعهم. هذا الإهمال يُضعف من تأثير الفكر على المجتمع.
جانب آخر يكمن فى أن الجمهور غالبًا ما يجد صعوبة فى فهم اللغة الفلسفية والتنظير الفكرى، ما يدفعه إلى الراحة مع خطابات دينية أو فنية أو سياسية أبسط. هنا، يلعب الخطاب التجريدى للفلسفة دورًا فى نفور الجمهور، خاصة عندما يُصاغ بلغة يصعب فهمها. على المفكرين أن يسعوا لتبسيط أفكارهم والالتقاء بالناس فى منتصف الطريق، وفى المقابل، يحتاج الجمهور إلى تطوير قدراته الذهنية للاستجابة للتفكير الفلسفى.
تجربة سقراط فى شوارع أثينا تمثل نموذجًا مُلهِمًا، حيث كان يجمع الشارع بالفكر النقدى. وكذلك كانت المقاهى الفلسفية والأدبية فى أوروبا، التى شكلت فضاءات للحوار بين الفيلسوف والجمهور. هذه التجارب ما زلنا نفتقدها فى العالم العربى، لكن هذا لا يعنى أن المشهد سوداوى تمامًا. هناك مراكز أبحاث محترمة، وإنتاج فكرى رصين، ومؤتمرات وندوات تُحدث حراكًا فكريًا لا يمكن إنكاره. علينا أن نثنى على هذه الجهود ونطالب بالمزيد منها، فهى الأمل فى مواجهة المعيقات التى تحد من انطلاق الفكر والنهوض بالمجتمعات.
■ ما الذى يجعل المشروعات المحاولة للخروج من ذلك الأفق تواجه بالنقد والهجوم؟ يمكننا أن نجد فى مؤسسة تكوين التى تشاركين فيها مثالًا على ذلك. هل جاءت مشاركتك محاولة للخروج من عزلة الخطاب الفكرى نحو وجود فاعل ومؤثر على الجمهور العام؟
- هناك فجوة كبيرة بين الخطاب الفلسفى والفكرى من جهة، والخطاب الدينى التقليدى الذى يتميز بالقدرة على جذب الجيل الجديد من خلال لغة مبسطة ومباشرة، يعزف فيها على أوتار المشاعر، ويلجأ إلى خطاب الهوية المهددة والاضطهاد المفترض، مع شعارات تحفز الحماسة وتستنهض الدفاع عن الأمة والدين. السؤال الذى يطرح نفسه هنا: إلى أى مدى يمكن للفلسفة والفكر تطوير خطاب قادر على التفاعل الإيجابى مع الجمهور، ومنافسة الخطاب الدينى فى قوته التأثيرية؟ هذا هو التحدى الحقيقى.
مؤسسة «تكوين للفكر العربى» قامت على فكرة معالجة هذه الهوة، فقد هدفت إلى التواصل مع الشباب والناس الذين لديهم توق إلى الحقيقة والإجابة عن أسئلة وجودية تؤرقهم. لماذا يلجأ هؤلاء إلى خطابات سطحية أو عاطفية لتلقى الأجوبة؟ لماذا لا يجدون فى الفلسفة والفكر وعلم الاجتماع والنقد الأدوات التى يحتاجونها للبحث عن المعنى؟ حاولت «تكوين» تغيير هذا المسار، من خلال تقديم أبحاث ومقالات رصينة، لكن بلغة سهلة ومقبولة تتوافق مع هموم الجيل الجديد وقلقه وخيباته المتتالية.
نحن نعيش اليوم فى مجتمعات واجهت خيبات كبرى؛ سقطت الأيديولوجيات العظيمة، وتكشفت الشعارات الرنانة عن فراغها. الفراغ الذى تركته هذه السقوطات يجعل الجيل الجديد فى مواجهة قاسية مع واقع يخلو من الأمل الملموس. والسؤال هنا: من الذى سيملأ هذا الفراغ؟ هل نترك الشباب على هامش المجتمع، محبطين وضائعين؟ أم نسعى للتواصل معهم، وتزويدهم بالأدوات المعرفية التى تمكنهم من التفكير النقدى والبحث المستقل؟
الحل ليس فى التعامل مع الجيل الجديد على أنه قاصر يحتاج إلى قيادة، بل فى احترام قدراته العقلية. واجبنا أن نقدم له المواد المعرفية ونزوده بالأدوات الفكرية والمنطقية اللازمة ليشق طريقه بنفسه. الطريق الصحيح ليس مسارًا مفروضًا من الخارج، بل هو قدرة الإنسان على التفكير والتحليل واتخاذ القرارات بناءً على المعارف التى يمتلكها.
ورغم الانتقادات التى وُجهت إلى «تكوين»، فإن هذه الانتقادات جزء طبيعى من مسار أى مشروع نقدى. كل من يرفع راية النقد وإعادة القراءة يُواجه بالاعتراض أو الرفض، وهذا ليس جديدًا. لكن المؤسسة تمضى قُدمًا فى تحقيق أهدافها، وأهمها مد جسور معرفية مع الجيل الجديد، وتشبيك الباحثين والمفكرين من المشرق إلى المغرب العربى. هذا الجهد يعكس رؤية ضرورية لبناء شبكة فكرية قادرة على تقديم خطاب بديل، خطاب ينبع من العقلانية والنقد، ويعزز الحوار بين مختلف التوجهات الفكرية، ليس فقط من أجل الإجابة عن تساؤلات الجيل الجديد، بل لتقديم بدائل تسهم فى صياغة مستقبل أكثر وعيًا وانفتاحًا.
■ يواجه العالم اليوم تحديات الواقع الرقمى وتقنيات التواصل الحديثة.. فهل ترين أن مثل هذه التقنيات يمكن استخدامها على نحو إيجابى بما يعزز من الفكر النقدى أم أنها بتعزيزها من سياسات ما بعد الحقيقة من الصعب التعويل عليها فى تأسيس خطاب تجديدى جاد؟
- من السابق لأوانه الخوض فى تقييم دقيق للآثار السلبية أو الإيجابية للتطور التقنى الهائل الذى نشهده اليوم. ما زلنا فى خضم هذه الثورة التقنية، وفى مواجهة سرعة تطورها التى تفوق قدرتنا الحالية على الاستيعاب أو المتابعة. هذا التسارع التكنولوجى يثير قلقًا كبيرًا لدى من يشتغلون بالفكر، نظرًا لما يحمله من تحولات عميقة على أنماط الحياة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
الذكاء الاصطناعى، على وجه الخصوص، يُطرح اليوم بوصفه محركًا رئيسيًا لهذه الثورة، لكنه يثير تساؤلات جوهرية حول مخاطره المحتملة. الحديث عن «انقلاب السحر على الساحر»، وعن تهديد الذكاء الاصطناعى للجيل الجديد ونمط العيش فى المجتمع، بالإضافة إلى تأثيره فى إعادة تعريف مفاهيم القوة والضعف داخل الهياكل الاجتماعية، كلها قضايا تلوح فى الأفق وتدفعنا لإعادة التفكير فى علاقتنا بهذه التقنيات.
ورغم ذلك، فإن تقييم هذه التحولات بشكل شامل ودقيق ما زال بعيد المنال. نحن بحاجة إلى مسافة زمنية كافية، تُمكننا من دراسة مفاعيلها على مستويات متعددة، بدءًا من التأثيرات الفردية وانتهاءً بالمجتمع والعالم بأسره. هذه الثورة ليست فقط تقنية، بل هى أيضًا ثقافية وفكرية واجتماعية، ما يجعلها أكثر تعقيدًا وأبعد أثرًا من أى تطور تقنى سابق.
إن المرحلة التى نعيشها الآن تتطلب التفكر النقدى والبحث المتأنى. علينا أن نتجنب الأحكام المسبقة، سواء كانت مفرطة فى التفاؤل أو مشوبة بالقلق المبالغ فيه، وأن نركز على فهم الآليات الكامنة وراء هذه التحولات واستشراف مستقبلها. بهذه الطريقة فقط يمكننا الاستعداد للتعامل مع هذا الواقع الجديد بطريقة واعية ومثمرة.
■ هل ترين أن الإسلام السياسى فى حالة «تقهقر» حقيقى، أم أن ما نشهده هو مجرد تراجع مؤقت فى فترة معينة، وأنه قد يعود بشكل أقوى فى المستقبل؟
- من الصعب إصدار حكم قاطع حول ما إذا كان الإسلام السياسى فى حالة «تقهقر» حقيقى أم أن ما نشهده مجرد تراجع مؤقت قد يعقبه عودة أقوى فى المستقبل. ولكن ما يمكن قوله هو أن الإسلام السياسى مثل أى حركة أو تيار فكرى يحتاج إلى مشروعية لكى يمارس سلطته كما أشار المفكر محمد أركون فى دراساته حول الإسلام والسياسة.
أركون يوضح أنه من الصعب الفصل بين السلطة ومشروعيتها بشكل جذرى، إذ هناك تداخلًا بين العاملين الروحى والزمنى بمعنى آخر من غير الممكن تمامًا فصل الدين «الذى يمثل السيادة العليا» عن السياسة «التى تتجسد فى السلطة»، وقد عكست هذه العلاقة التاريخية فى العديد من المجتمعات بما فى ذلك المجتمعات الإسلامية، التى فى فترات مبكرة كانت تمارس الحكم باسم الدين، وتعتبر السلطة السياسية مشروعة لأنها تتأسس على السيادة العليا. يرى أركون أن مشروعية السلطة تخلق من خلال الارتباط بالسيادة العليا التى تُعتبر مقدسة، مما يجعل هذه السلطة مقبولة وفاعلة، عند وصول الحاكم إلى السلطة فإنه يسوغ سلطته عبر فرض معنى معين، ويصبح مديونًا لهذه السلطة التى تمكنه من السيطرة.
وبهذا الشكل كان العلماء الدينيون فى المجتمعات الإسلامية يضفون القداسة على السلطة السياسية من خلال ربطها بالسيادة الدينية، الأمر الذى يعقد مسألة فصل الدين عن السياسة. يشير أركون إلى «المثلث الأنثروبولوجى» الذى يتكون من العنف والمقدس والحقيقة، هذا المثلث يوضح أن العنف قد يصبح حاضرًا عندما يشعر المعنيون بتلك «الحقيقة المقدسة» بأنها مهددة، تصبح العلاقة بين العنف والمقدس والحقيقة أكثر تعقيدًا فى هذا السياق، مما يسهم فى استمرار التوترات والعنف باسم الحقيقة المقدسة.
رغم ذلك يعتقد أركون أن الفكر الإسلامى ليس مغلقًا فى وجه العلمنة، ومن خلال قراءته للتاريخ الإسلامى يبين أن هناك فترات تاريخية شهدت انفتاحًا على العلمنة، ما يعنى أنه من الممكن تمييز أكثر بين الروحى والزمنى وعدم تداخل الدين مع السياسة بشكل صارم. من هنا يبدو أن تراجع الإسلام السياسى أو عودته مرتبط بشروط معقدة تشمل فهم الدين والسلطة الدينية وكيفية ممارسة السلطة الدينية والسياسية لمهامها، فبعض المجتمعات قد تسير نحو مزيد من العلمنة، كما هو الحال فى بعض الدول العربية التى شهدت تزايدًا فى العلمانية، بينما قد تزيد مجتمعات أخرى من التداخل بين الدين والسياسة.
بناء على هذا لا يمكن الجزم بأن الإسلام السياسى فى «تقهقر» حقيقى، أو أن التراجع الحالى مؤقت، فقط العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالإضافة إلى الضغوط الإمبريالية تلعب دورًا فى تحديد مسار هذا التيار، وقد تؤدى هذه العوامل إلى دفع الإسلام السياسى نحو التراجع فى بعض المجتمعات بينما فى مجتمعات أخرى قد يتزايد تأثيره ويستمر فى الظهور.
■ ما الأثر الذى تركته أفكار محمد أركون على رؤيتك النقدية؟
تتلمذت على يد محمد أركون من خلال اشتغالى على مشروعه الفكرى فى مرحلتى الماجستير والدكتوراه، كما التقيت به فى أكثر من مناسبة. كانت لى معه أحاديث مطولة حول مشروعه الفكرى، وتأثرت، بوعى وبدون وعى، بمنهجه النقدى وبطريقته فى تقديم الإسلام من منظور يحاول استعادة المنحى الإنسانى، الحداثى، والعلمانى فى التراث.
عمل أركون على الحفر عميقًا فى التراث لإبراز ما تم إخفاؤه أو السكوت عنه، متأثرًا بميشيل فوكو، خصوصًا فيما يتعلق بمفهوم اللا مفكر فيه. هذا النهج أثّر بشكل كبير فى مسارى البحثى؛ إذ أصبحت عندما أقرأ فى كتاب أو أبحث فى حقبة تاريخية معينة أركز على ما هو محجوب أو مُغيّب، متسائلة عن الأسباب والأهداف وراء ذلك. طوال سنوات دراستى وبحثى، شكّل مشروع أركون جزءًا أساسيًا من تكوينى المعرفى. كان دائمًا يحثنى، كما حث العديد من طلابه وقرائه، على تجاوز أفكاره وعدم التوقف عند حدوده. هذا التوجيه كان دافعًا للاستمرار فى البحث، ومحاولة الذهاب إلى مناطق لم يسمح له الوقت باستكشافها.
ما يشغلنى الآن هو تسليط الضوء على المشاريع النقدية والفكرية فى العالم العربى المعاصر، وإبراز أهم مفاصلها، لتصبح جزءًا من التكوين المعرفى للجيل الجديد. هناك الكثير من المفكرين العرب الذين يعملون فى الظل، يقدمون إسهامات فكرية جبارة، لكن للأسف لا يحظون بالاهتمام الكافى. ومن دروس أركون التى تأثرت بها بعمق، اهتمامه بالمفكرين الذين لم يكونوا فى دائرة الأضواء، وإبرازه للطابع الإنسانى فى أعمال شخصيات لا يُسلط الضوء عليها مثل التوحيدى ومسكويه.
الفكر العربى، فى رأيى، يجب أن يتموضع ضمن السياق العالمى، لأنه جزء من التراث الإنسانى المشترك. هذه الرؤية استلهمتها من أركون، وأسعى للسير على هذا الخط، آملة فى أن أسهم فى إعادة تقديم الفكر العربى باعتباره عنصرًا فعالًا فى النقاش الفكرى العالمى.
■ ما الذى يجب أن يكون فى صلب أولويات الفكر العربى فى المرحلة الراهنة؟
هناك العديد من المسائل التى تشغل الباحثين والمفكرين على الساحة العربية الإسلامية، وأبرزها قضية الأنسنة، والتى تتعلق بمشكلة الإنسان وحقوقه، وقيمته، ودوره، وكيفية تنميته، وكذلك حقوق المرأة والطفل. هذه المسائل تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، فهناك عوائق تحول دون تطور الإنسان العربى.
ثانيًا، يأتى موضوع الدين وكيفية قراءته، وذلك انطلاقًا من الانفتاح على المعرفة والخبرات المتعددة، والعلم، والتأويل، وعلوم اللغة، والإنسان، والمجتمع. يجب ألا نقتصر فى فهم التجربة الدينية على نظرة أحادية الجانب، ضيقة، مرتبطة فقط بالنص وقراءته بشكل محدد. بل ينبغى أن نتبنى نظرة أوسع تأخذ فى الاعتبار مختلف السياقات والمداخل المعرفية.
أسعى فى هذا السياق إلى تحفيز الطلاب ونفسى على الاشتغال على هذه القضايا. فمن المهم أن نفهم دور العقل فى فهم الواقع والتاريخ، وكل ما يتعلق بالإنسان. نعيش فى مجتمعات مأزومة، فلدينا العديد من المشكلات التى تحتاج إلى تفكيك الواقع، وتقديم مقاربات جديدة لما يعيشه الإنسان فى العصر الراهن. ومن ثم علينا أن ننغمس فى معاناة الإنسان اليوم، وأن نتواصل مع الجيل الجديد، ونعيد شغف الحوار والقراءة والجدال. هذه دعوة للانفتاح وزعزعة الحدود، وتخطى كل ما يعوق التفكير، ويحبس الإنسان فى سجن من الأفكار والأحكام المسبقة.
نسعى فى النهاية إلى الإسهام كما فعل محمد أركون وشربل داغر، من أجل الدخول فى العالمية، ومواكبة ما يجرى من حولنا، والتفاعل معه، واتخاذ موقف منه. كفى تهميشًا للفكر العربى، عانى الكثير، وحان الوقت لأن يستعيد وهجه. استعادة الثقة بالذات مهمة للغاية، وذلك قبل أن يثق بنا الآخر.