آلهة وأساطير.. كيف صنع الأمريكان أوهامهم الكبرى؟

- سمة التنقل عبر الزمن تذكرنا بغيره من آلهة العالم القديم مثل «إيون» فى الثقافة اليونانية
- الثقافة الأمريكية على حداثة تكوينها تمكنت من صنع أساطير متعددة ومعقدة
يقول «جوزيف كامل» الباحث الأمريكى المهم فى مجال الأساطير والميثولوجى، فى كتابه الأشهر «البطل بألف وجه»: «الأساطير ليست مجرد قصص خيالية، بل هى عوالم تحمل رموزًا تساعدنا على فهم أنفسنا». كما يذكر عالم الأساطير الهندى «ديفدوت باتانايك»: «لا يمكن لمجتمع أن يعيش دون أساطير، لأنها تشكل مفاهيم الصواب والخطأ، الخير والشر، وتحدد حقوق وواجبات الأفراد، فمجتمع بلا أساطير هو مجتمع بدائى بالضرورة». فالأساطير تشكل عمق الحضارة البشرية، دونها لن يكتمل فهمنا للبشر أو لأنفسنا، فالعلاقة بين قدم المجتمعات والأساطير علاقة طردية، كلما زاد قدم المجتمع تعمق ارتباطه بعالم الحكايات والملاحم والأساطير، وأصبحت معتقداته أكثر تعقيدًا وثقلًا، والعكس صحيح كلما كان المجتمع حديثًا فى تكوينه ونشأته، افتقد المكون الأسطورى، بالتالى توقف التطور الحضارى، وسيطرت السطحية على مفاصل الحياة الاجتماعية والثقافية.ولست هنا بصدد الحديث عن الصراع التجارى والفنى بين العملاقين فى عالم الكوميكس وأفلام الخارقين، مارفل أو دى سى. فالفكرة التى تشغلنى أكثر عمقًا، الأمر يتجاوز مجرد منتج للتسلية، إلى عالم أكثر رحابة، من صناعة وإنتاج الأساطير وتسويقها شعبيًا، لتتحول تدريجيًا إلى مكون أصيل فى الوعى الأمريكى بل والعالمى، أساطير تصنع على أعيننا، تحتاج منا إلى مزيد من التفكيك والفهم.
فأمريكا التى تتسم بحداثة التكوين مقارنة بغيرها من حضارات العالم، قررت أن تخلق أساطيرها الخاصة، لتُكسب المجتمع الهجين المتكون من أعراق وجنسيات وثقافات مختلفة، مزيدًا من الترابط وتوحيد الهدف الثقافى والاجتماعى، لتُكون بالتدريج وعيًا متشابهًا حتى وإن كان زائفًا. وسنحاول هنا أن نرصد صناعة أسطورة حديثة ومكتملة العناصر، عن طريق رصد شخصيات الكوميكس التى تحولت إلى أفلام عن أبطال خارقين، أو آلهة وأبطال إن شئنا الدقة.فعوالم الكوميكس وتطورها هى الأساطير الأمريكية الحديثة التى استلهمت من خلالها كل أساطير العالم القديم، وأعادت صياغته ما يتناسب مع الحالة التاريخية العامة.

Superman.. صوت الله
سوبرمان هو إله ذلك العالم بامتياز، ولكنه إله من نوع فريد، إله مخلوق بدقة شديدة، ليحتل الجانب الأهم فى الوعى الأمريكى بالتدريج، ودعونى أسوق لكم تطور صناعته، وكيف تم اقتباس شخصيته من عوالم أسطورية متعددة ومتعارضة أحيانًا.
تزامنت بداية ظهوره مع أحداث الكساد العظيم فى الولايات المتحدة، الذى امتدت منذ ١٩٢٩ وصولًا إلى نهايات الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥، ظهر سوبرمان فى خضم تلك الأزمة الكبرى عام ١٩٣٨، على يد الكتاب «جيرى سيغل» والرسام «جو شاستر»، ورغم الصعوبات التى واجهت بداية نشأة الرجل الخارق، إلا أنه كان له تأثير لا يستهان به فى النهضة الاقتصادية والاجتماعية التى صاحبت ظهوره، فى عالم الكوميكس، فقد تحول فى وقت قصير إلى رمز قومى كبير، وتبنته الدولة لتجعل منه الشعار السياسى الأوفر حظًا على المستوى الشعبى، فأمريكا هى السوبرمان الذى سوف ينهض ليُعيد بناء العالم المنهار من جديد. لكن دعونا نركز على سماته الأسطورية التى منحته قدراته السياسية والاقتصادية المهولة، فالاستغلال السياسى للأسطورة يحتاج منا إلى كتابة أخرى أكثر تفصيلًا.
سوبرمان، هو ابن السماء، الآتى من كوكب «كريبتون» من مجرة بعيدة، كجميع الآلهة، يهبطون علينا من السماوات العلى ليقودوا العالم الأرضى أو ينقذونه. هبط على كوكبنا مصادفة ليأخذ قوته الكبيرة من الشمس، وللشمس رمزية أسطورية عظمى فى مختلف الثقافات البشرية، بداية بالإله «رع» فى الثقافة المصرية، وصولًا إلى «هور خشه ئته» أو الشمس المقدسة وأصل النور فى الديانة الزرادشتية القديمة، مرورًا بالديانة «المهرائية» حيث عُبدت الشمس كإله مكتمل فى فارس القديمة وكان لها حضور قوى فى أوروبا، وأثرت بشكل ملحوظ على المسيحية الكاثوليكية.فالشمس هى مستقر القوة والنور فى مختلف الثقافات البشرية، ومن البديهى أن يكون للإله الجديد علاقة بالشمس.
قدراته الإلهية العظيمة التى تمتع بها، أخذت أشكالًا مختلفة، منها قدرته الغريبة على تغير الزمن، ففى الجزء الثانى من سلسلة سوبر مان التى أنتجت عام ١٩٨٢، استطاع سوبرمان أن يعود بالزمن إلى الوراء بعد مقتل حبيبته، ليتمكن من إنقاذها، تلك الفكرة تكررت كثيرًا فى عالم الكوميكس، خاصة إذا أضفنا إليها قدرته على الانتقال بين المجرات المختلفة، والأكوان المتعددة «وسوف يكون لنا وقفة مع فكرة تعددية الأكوان فيما يلى». فهو متفوق على قيود الزمان والمكان التى يشعر بها البشر، بالإضافة لقدرته على الطيران، وهى سمة لم تكن متوافرة فى غيره من الأبطال الخارقين، فى تلك المرحلة على الأقل.
سمة التنقل عبر الزمن تذكرنا بغيره من آلهة العالم القديم مثل «إيون» فى الثقافة اليونانية، الذى يرمز إلى دورات الكون المتكررة من بناء ودمار، أو «جانوس» إله البدايات والنهايات والتحولات الزمنية. أو الإله «نامتار» فى الثقافية العراقية القديمة، الذى كان يحدد توقيت موت البشر، ويملك حق اللعب فى الزمن وتغيره حسب هواه. فتغير الزمن من السمات الإلهية الأصيلة.
المفارقة هنا أن سوبر مان فى بداية ظهوره فى عالم الكوميكس، لم يكن قادرًا على الطيران، وإنما كان يقفز قفزات مهولة، وظهرت قدراته الفائقة تدريجيًا حسب احتياجات العقل الشعبى فى كل مرحلة، فأول مرة تمكن فيها سوبرمان من الطيران، كانت تقريبًا أثناء الحرب العالمية الثانية، وكذلك قدراته على التحكم فى الزمن، لم تظهر بشكل واضح إلا أثناء الحرب الباردة.فهو إله أسطورى يتكون تدريجيًا حسب الظرف التاريخى، واحتياجات الوعى الجمعى.
الأساطير القديمة ليست هى المصدر الوحيد لتكوين شخصية سوبر مان، بل إن الأمر يدخلنا فى الأصول التوراتية والمسيحية كذلك، فاسم سوبرمان الأصلى على كوكبه هو «كال إيل»، وهو يعنى بالسريانية القديمة «صوت الله»، ما يعكس أن مؤلف الشخصية الأول، قد قرر أنى يمنح سوبرمان أو رجله الخارق سمة توراتية مقدسة، كامنة فى تكوينه الأول.تلك السمة التى اختبأت خلف اسمه المستعار الصحفى «كلارك كينيت» أو شخصيته الاعتبارية التى أطلقها عليه البشر «سوبرمان».

الفكرة تمتد إلى الطابع المسيحى الذى تم منحه للشخصية مع التطور الزمنى، متمثل فى فكرة العودة إلى الحياة، كما تم مع شخص المسيح والقيام من الموت، ففى عامى ١٩٩٢ و ١٩٩٣ ظهرت فى الكوميكس قصة «موت سوبرمان ثم عودته إلى الحياة»، حيث تم قتله بعد مواجهته الشهيرة لوحش «دمزداى»، الذى يمثل أكثر الأشرار شراسة فى عالم دى سى، والمخلوق من نفس جنس «كال إيل» على كوكب كريبتون، فهو الوجه الآخر لسوبرمان، يملك كل قدراته ولكن فى الجانب المظلم من الشخصية، وكأننا أمام فكرة الشيطان المظلم، المقابل للإله الشمسى المنير. ولكن يتمكن سوبرمان من العودة إلى الحياة مرة أخرى، بواسطة تكنوليجيا كريبتونية، تم استغلالها بشكل جيد من قبل فريق العدالة، الذى تم تجسيده فى فيلم «»Justice League» ٢٠١٧، فعاد ثانية إلى الحياة ليكمل حربه مع فريق باتمان، تجسيدًا لفكرة الإله المقتول الذى يعود إلى الحياة. والحقيقة أن تلك الفكرة لا تختص بها المسيحية فقط، ولكن لها حضورًا ملحوظًا فى الديانات والأساطير القديمة، فمثلًا هناك قصة عودة الإله «تموز» فى أساطير العراق القديم، الذى قُتل غدرًا ليعود كل عام من العالم السفلى فى فصل الربيع. وكذلك البطل «سياوش» فى الأساطير الإيرانية، الذى ينتظر أتباعه عودته كل عام فى عيد النيروز الفارسى، بعد أن قُتل على يد الشيطان التورانى/ التركى. أو قصة «أوزير» فى الأساطير المصرية القديمة وعودته إلى الحياة بعد مقتله على يد أخيه «ست»، وكذلك «ديونسوس» إله الخمر والخصوبة فى الأساطير اليونانية الذى أعاده جده «زيوس» إلى الحياة بعد قتله على يد «التيتان» أو الجبابرة الأقوياء الذى حكموا العالم قبل آلهة الأولمب، ونجد تلك الفكرة كذلك لدى «النورديين»/ الاسكندنافية، بمقتل الإله «بالدر» على يد أخيه، ليتمكن من العودة إلى الحياة سنويًا، كرمز للتجدد والحياة. ففكرة عودة الإله المقتول تشكل بنية رئيسية فى تكوين مفهوم الإله فى الأساطير أو غيرها. فسوبرمان يتمتع بكل الصفات الإلهية بشكل واضح أحيانًا أو رمزى كثيرًا، لكنه فى عمق بنيته جسد الأسطورة الأمريكية الأصيلة التى ساعدت الوعى الأمريكى على النضوج والتغير، ما قد يفسر لنا سر التمسك بتلك الشخصية فى عالم الكوميكس أو الأفلام ذات الطابع الرمزى سياسيًا أو دينيًا.

Batman و Superman.. صراع الإنسان والإله
الخفاش يحتل مرحلة برزخية فى الفكر الأسطورى بين الحياة والموت، فهو الكائن القادر على العبور إلى العالم الآخر والعودة منه كما فى الأساطير اليونانية، وهو الذى يقود الأرواح إلى العالم الآخر مثلما ورد فى ثقافة المايا، وهى رمز الانتقال بين الحياة والموت وحارسة المقابر فى المعتقدات المصرية القديمة، الخفاش أو الوطواط يحمل رمزًا معقدًا فى الوعى الإنسانى عمومًا، فهو الوسيط بين الأرض والعالم السفلى، حادى الأرواح، رمز التجدد وإعادة البعث. كما يمثل على المستوى النفسى الجانب المظلم من النفس الإنسانية، فهو الكامن فى عمق الخوف البشرى، إن استطعت أن تتوحد معه سيخرجك من الظلمات إلى النور.
كان ظهور باتمان على صفحات الكوميكس تاليًا لسوبرمان، أول ظهوره عام ١٩٣٩، حقق وجوده انتشارًا عظيمًا آنذاك، فهو الإنسان فى مقابل الإله، فرغم ما يحمله من رموز أسطورية مثملة فى الوطواط، إلا أنه ما زال يحتفظ بمعاناته البشرية ذات البعد التراجيدى، ومقاومته الدائمة لخوفه لدرجة التوحد، أو تفضيله العزلة الدائمة فى مقابل تحقيق العدالة، ما وضعه فى صراع وجودى مع سوبرمان، فهو الإنسان المدعوم من عالم الظلمة والخوف، يقف أمام الإله كُلّى القدرة، مثلما حدث فى فيلم «Batman v Superman: Dawn of Justice» ٢٠١٦، حينما قرر باتمان مواجهة قوة سوبرمان الخارقة بسبب ما تسبب فيه من دمار لمدينة جوثام بعد صراعه مع الجنرال زود فى Man of Steel ٢٠١٣، ما أصابه بالقلق على عدم سيطرة البشر على القوة الإلهية الغاشمة أحيانًا. لدرجة أنه تسبب فى إضعافه ما أدى إلى موته فى مواجهة الوحش «دمزداى». ذلك الصراع بين الرغبة البشرية فى فرض نظام ثابت يحفظ لها مكتسباتها أمام الفوضى اللإهية المحتملة، أو نسبية البشر أمام مثالية الإله وكماله، نجده حاضرًا فى العديد من الأساطير والملاحم القديمة، فمثلًا صراع «هرقليس» مع زيوس أو هيرا فى الحضارة اليونانية، أو جلجامش مع الآلهة فى ملحمته الشهيرة ورغبته فى تحطيم فكرة الموت وسعيه للخلود ضد الطبيعة الفانية التى فرضتها الآلهة على البشر. وقد تكون القصة الواردة فى سفر التكوين عن صراع يعقوب/ إسرائيل مع الرجل الغريب، وما يحمله من رمزية الإله، وتعكس صراع الإنسان مع الله من جانب ومع خوفه الداخلى من آخر، هى القصة الملهمة فى صراع باتمان وسوبرمان، حيث ينتهى باتفاق كليهما معًا على مواجهة قوى الشر التى تهدف القضاء على العالم، مثلما انتهت قصة إسرائيل بمباركة الرب، وهرقليس بنيله دعم زيوس الكامل بمنحه الخلود، أو ما علمته الآلهة لجلجامش فى نهاية رحلته أن الخلود فى الأفعال وليس فى الوجود الدائم. مساحات التصالح مع الإله تلك انعكست على علاقة الرجل الوطواط صاحب القدرة على الانتقال بين عالم النور والقوة وكهف الظلام والخوف، مع صوت الرب أو سوبرمان.

Wonder Woman.. الإلهة الأنثى
عالم الأساطير الأمريكية مفعم بنماذج نسائية كثيرة تعتبر إعادة صياغة لمفهوم الإلهة الأنثى، أو المرأة ذات القوة الجسدية المساوية للرجال أو تفوقهم قوة، ورغم أن مفهوم الأنوثة لدى المرأة يتضمن مفهوم الخصوبة والإنجاب، إلا أن بطلات مارفل أو دى سى، ليس لديهن تلك القدرة الإنجابية بالذات، كغيرهن من الأبطال المقاتلات فى عالم الأساطير القديمة، فأثينا مثلًا الإلهة المقاتلة فى الثقافة اليونانية والتى أنجبها زيوس من عقله، جسدت مفهوم القوة والحكمة وقيادة المعارك، لكنها لم تنجب. وكذلك شخصية البطلة الفارسية «بانو جشاسب» ابنة البطل الإيرانى رستم، التى كانت باستطاعتها هزيمة كل أبطال إيران وتركيا والهند، ولم تتمكن من الإنجاب إلا بعد تخليها عن القتال والفروسية، وكذلك الإلهة الفارسية «آناهيتا» التى كانت تبارك معارك الأبطال قبل خوضهم إياها، وتمنح الحكمة والقوة لمتبعيها. واندر ومان، هى بطلة أمازونية مخلوقة من طين، ونُفخ فيها من روح الآلهة القدماء فى اليونان، وعاشت فى جزيرة نسائية معزولة عن العالم الحديث، إلى أن ساقتها الأقدار لتدخل معترك الحياة العادية، أثناء الحرب العالمية الثانية، لتستمر فى مغامراتها بكل ما تحمله من قوة وسحر، لتحقق العدل والنظام أمام فوضى العالم الحديث.
ورغم أنها ليست من أصول أمريكية فهى أمازونية الأصل، بل إنها تعتبر نصف إله تقريبًا، إلا أن همها الأصلى فى الأساطير الأمريكية هى حماية الولايات المتحدة، بل إنها شاركت فى حماية العالم بمشاركة باتمان وسوبرمان فى الكوميكس والعديد من الأفلام. فهى تجسيد للنظرة الأمريكية عن المرأة، ومحاولة خلق نموذج بطولى أنثوى يقابل النموذج الذكورى القومى المتمثل فى كابتن أمريكا.

Joker و LoKY.. شيطان السخرية والفوضى
آلهة الفوضى أو شياطين الظلام لهم حضور عظيم فى عالم الأساطير والمعتقدات القديمة، فمن بداهة الأمر أن نجد انعكاسًا للفكرة فى صناعة الأساطير الحديثة. لوكى هو إله السخرية لدى النورديين، الذى رباه «أودن» كبير الآلهة فى «أسغارد» (عالم الآلهة)، بعد أن قتل أودن أبيه، ولكن ظل لوكى فى حالة نقمة دائمة على أ ودن وابنه «ثور» Thour إله الرعد، وتحول إلى شيطان ساخر يفسد عمل الآلهة والبشر، ويفضح عيوبهم أمام الجميع. وقد تم استلهام شخصية لوكى، أمام شخصية ثور فى عالم مارفل، بشكل مباشر. وحققت الأساطير النوردية وجودًا قويًا فى صناعة الأسطورة الأمريكية. خاصة شخصية ثور التى مثلت فى عالم مارفل المقابل لشخصية سوبرمان لشركة دى سى. فبوصفه إله مكتمل الألوهية كامل القوة، لا يحتاج إلى كثير من التطوير كما حدث فى شخصية السوبرمان، التعديل الوحيد أنه كان يطير فى الكوميكس بواسطة المطرقة، لكن فى الأسطورة النوردية القديمة كان الطيران بواسطة عربة تجرها الماعز الجبلى.
وإذا كان لوكى قد تم استدعاؤه مباشرة من عالم الأساطير النوردية ليمثل العدو المركزى لثور، الفوضى فى مقابل الواجب والنظام، فإن الجوكر يجسد نفس الفكرة فى مدينة جوثام أمام باتمان، الذى يمثل النظام والحزم والتضحية، فباتمان هو صاحب الألم والفداء أمام فوضى الجوكر وسخريته من الجميع ومحاولة قيامه بدور «موموس» إله السخرية عن اليونان القدماء، أو «تيا مات» رمز الفوضى فى الأساطير البابلية القديمة، التى خُلق العالم من جثمانها بعد قتلها، وتحاول طوال الوقت العودة إلى الحالة الفوضوية الأولى، أو «يام» فى الأسطورة الكنعانية. فالجوكر هو الكاشف لكل عيوب مدينة جوثام، صاحب المغامرة النفسية الأعمق فى ملحمة باتمان، الساعى طوال الوقت لهدم المدينة والعودة إلى الفوضوى بوصفها هى العدالة، كما ورد على لسانه أمام باتمان أكثر من مرة. ومثل كل آلهة الفوضى فى الأساطير القديمة، الذين يملكون ملامح قاسية أو مشوهة، أو لديها القدرة على تغير ملامحها مثل لوكى، فإن الجوكر جاء مشوهًا بملامح المهرج، بكل ما تحمله تلك الملامح من غربة وغموض، فهو العابث بنظام المليادير «بروس وين» ويهدد عرش رأسمالية مدينة جوثام، أمام فوضوى المهمشين، وكأنه الشيطان الذى يحترف هدم النظام الإلهى الثابت.

Capitan America.. ملحمة أمريكية مكتملة
مقابل عالم الآلهة وصراعات الإنسان الوجودية التى غمرت عالم الكوميكس، كان لا بد من ظهور بطل ملحمى له سمات أمريكية خالصة، فكان «كابتن أمريكا» الذى كانت بدايته عام ١٩٤١، بهدف سياسى بحـت، لخلق حالة من التضامن القومى أثناء الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد معركة «بيرل هاربور»، التى هاجم فيها الجيش اليابانى للقاعدة الأمريكية، ما نتج عنه دخول أمريكا الحرب، ما حسم نتائج الحرب العاليمة لصالح الحلفاء، وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان.
ما حتم أن يتم خلق شخصية ملحمية، تخص الجيش الأمريكى بشكل مباشر، فكان ذلك الجندى الضعيف الذى تحول بعد تجربة علمية إلى بطل قويم عظيم، ملابسه ترمز إلى العلم الأمريكى بشكل مباشر، ودرعه مصنوع من «الفايبرانيوم»
مادة فضائية مستجلبة من نيزك هبط على الأرض، فى إشارة إلى الدعم السماوى للأمريكا وبطلها. والحقيقة أن كابتن أمريكا قد سبقه العديد من المحاولات فى عالم الكوميكس لخلق بطل ملحمى قومى ولكن أغلبها باءت بالفشل.
شخصية البطل الملحمى ذا الطابع القومى سنجدها حاضرة فى مختلف الثقافات، بداية من جلجامش فى العراق، وصولًا للبطل الإيرانى القومى «رستم» الذى كان يحارب بدافع الحفاظ على سطوة فارس القديمة وعزتها.أو شخصية «أخيل» فى الملاحم اليونانية وقدرته القتالية الفائقة، ودرعه الذى يمثل جزءًا من شخصيته، أو «أوديسيوس» البطل اليونانى صاحب ملحمة الأوديسا، التى خاض سنوات التيه فى رحلة البحث عن وطنه، بعد غضب الإله بوسايدن عليه بسبب نصرته لقومه واقتحام طروادة بواسطة فكر أوديسيوس «حصان طروادة». وغيرهم الكثير من الأبطال الذين شكلوا وعى الحضارات الإنسانية ليتم خلق كابتن أمريكا ليجسد المفاهيم الأمريكية بملابس عصرية، ولكن بنفس الهوية الملحمية القديمة.

Doctor Strange.. سحر تعدد الأكوان
يشكل عالم السحر فكرة أصيلة فى الوعى الإنسانى بشكل عام، فلا توجد حضارة قديمة لم تؤمن بالسحر لفترة طويلة قبل ظهور الديانات السماوية، التى تعاملت مع السحر بوصفه الفكرة الأكثر خطورة على استمرار الدين ذاته، فقامت بتحريمه وربطه بالشيطان.
شخصية دكتور استرينج، رغم أنها من صناعة الأساطير الأمريكية الحديثة، ورغم ما يمثله من صراع بين العلم والسحر، إلا أن أصوله الشرقية واضحة للغاية فى بنية حكاية الكوميكس أو الأفلام، فبعد تعرضه لحادثه منعته من ممارسة مهنته كجراح، اتجه لتعلم السحر فى أصوله الشرقية الشامانية «ديانات السحر القديمة»، خاصة فى بلاد التبت وكذلك فى جبال الهمالايا فى الهند، وتعلم كذلك الأصول الإشراقية والصوفية، وتمكن من عالم السحر بكل أشكاله، فشخصية استرينج هى المعادل الموضوعى للنظرة العلمية الأمريكية التى حاولت أن تروج لها لعقود طويلة، لكن كان وجود شخصية تجسد مفهوم السحر وجودًا ضروريًا يعبر عن عمق الأسطورة الحقيقى، فأسطورة بلا سحر، ستفقد موهبتها على البقاء والنمو.
دكتور استرينج، هو إعادة صياغة مباشرة من أساطير قديمة، مثل «كالاشاكرا» أو مفهوم عجلة الزمن الدائرية التى لا تنتهى فى الأساطير البوذية والهندوسية، وقد كان استرينج قادرًا على صنع عجلة زمنية دائرية لا تنتهى. أو شخصية «هرمس» فى الأسطورة المصرية وانتقل إلى اليونانية، وهو أبوالعلوم والسحر والأسرار الكونية، وهى العلوم التى يمتكلها استرينج بوضوح أثناء رحلته. وكذلك شخصية الساحر «ميرلين» فى الأسطورة الإنجليزية القديمة وارتباطه بقصة الملك آرثر، فميرلين هو الساحر الحكيم القوى الذى يحمى العالم من السحر الأسود، ويحمى المجتمع من فوضى الشر.
الأهم بالنسبة لشخصية دكتور استرينج، هى نظرية الأكوان المتعددة، وهى نظرية فيزيائية لم تثبت صحتها تتحدث عن أن هناك عددًا لا نهائى من الأكوان، تتصادم أو تتعارض مع بعضها البعض، فى كل كون نسخة مثيلة من الكون الأول مع بعض التغيرات البسيطة. وقد حاولت شركة مارفل أن تؤسس عالمًا أسطوريًا متكامل بناء على هذه النظرية، حيث خلقت عالمًا كونيًا معقدًا ومتعدد الطبقات، يبدأ بالكون الأول الذى أوجده الموجد الأول، ثم حدث صراع بين سكان هذا الكون، ليتفتت إلى عوالم وأكون كثيرة، يصل إلى تسعة أكوان رئيسية داخل كل منها عدد لا متناهى من الأكوان، وكان أول ظهور لتلك الفكرة وخروجها من عالم الكوميكس إلى الأفلام عام ٢٠١٦ فى أفلام دكتور استرينج، وكذلك فى أفلام الأفنجرز، وسبايدرمان، التى شارك استرينج فى قصتها.
فرغم أن فكرة تعدد الأكوان لها حضورها القوى فى الفلسفات القديمة، كفلسفة البوذية التى تؤمن أن الكون فى دورة لا نهائية من الوجود والعدم، أو الفلسفة اليونانية التى آمنت لفترة زمنية طويلة، أن العالم لا نهائى الذرات والأكوان، ورغم أن لتلك الفكرة مناصريها على المستوى العلمى أو الثقافى العام فى العصر الحديث. إلا أن أكوان مارفل هى مزج بين النظرية العلمية الإفتراضية، والفلسفات القديمة، والأفكار الإشراقية والأسطورية القديمة التى تؤمن بوجود أكثر من عالم متداخل مع عالمنا الواقعى مثل عالم الخيال والمثال إلى غير ذلك، فتصور تعددية الأكوان فى عالم الأساطير الأمريكية سواء فى دى سى أو مارفل، وإن كان أكثر تعقيدًا فى مارفل، أنتج فكرة موازية لكل تلك المصادر الأصيلة، بما يضمن خلق أسطورة تأسيسية معقدة ومتفردة عن المعتقدات أو الأفكار القديمة.
مناقشة تلك القضية لا يتوقف عند هذه النماذج فقط، بل إن الأمر يتعدى للعديد من الأفكار المتداخلة، مثل شخصية سبايدرمان أو الرجل العنكبوت الذى يُعد إعادة صياغة لفكرة آلهة العنكبوت فى الثقافات القديمة، أو فكرة توحد الإنسان مع الحشرات أو الحيوانات. وكذلك شخصيات XMEN الذين مثلوا عناصر الطبيعة مجسدة فى كل شخصية منفردة، وكأنهم إعادة صياغة للعديد من الآلهة فى الثقافات القديمة، مثل، آلهة الرياح والطقس فى الثقافة الإفريقية «أورورو مونرو» التى ظهرت بوضوح فى شخصية الفتاة السمراء «ستورم»، وكذلك شخصية «وولفرين» التى تجسد العلاقة المقدسة مع الذئاب فى مختلف الحضارات، خاصة الأساطير النوردية أو الاسكندنافية عمومًا. وكذلك ظهور شخصية طائر الفينيكس أو العنقاء فى العديد من الثقافات الإنسانية التى يرمز إلى الخلود والتجدد الدائم.
الثقافة الأمريكية على حداثة تكوينها تمكنت من صنع أساطير متعددة ومعقدة ولها حضورها الشعبى، لترسل من خلالها مجموعة من الرسائل سواء فى الداخل الأمريكى من حيث الرمز الدينى أو السياسى أو المعتقدى، أو لنشر أساطيرها الخاصة على العالم أجمع، لتتحول الأساطير الأمريكية بالتدريج إلى الأسطورة الوحيدة الحية أمام أساطير الحضارات القديمة التى أصابها النسيان أو الاندثار. فالفكر الأسطورى ضرورة إنسانية إن لم نجده على الأرض لاخترعناه.