الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

شفرة الجداريـات.. أساطير ودماء الدين والسياسة فى إيران

حرف

- اعتمد النظام بشكل كبير على التضخيم من رموز الثورة خاصة الرموز الإسلامية أمثال الخُمينى وآية الله مرتضى مطهرى

- هناك جدارية لقاسم سليمانى لدى جلوسه مع إسماعيل هنية عقب اغتياله فى حضرة ضريح الحسين

السائر فى شوارع طهران أو غيرها من المدن الإيرانية سيلاحظ الكم الهائل من الجداريات التى تكسو واجهات العمائر، حيث تختلط صور الشخصيات السياسية مع أئمة المذهب الشيعى وأبطال الملاحم القديمة، فى عالم كامل من الرموز يعكس طبيعة التفكير الإيرانى على مستوى الدولة والمجتمع. فالرسوم الجدارية سمة مميزة وخاصة جدًا بإيران، فلا توجد دولة فى العالم تمكنت من التوظيف السياسى والدينى لفن الجداريات مثلما فعلت الدولة الإيرانية على مدار عصورها.

فإيران أو بلاد فارس مثلها مثل كل دول العالم القديم، نحتت تاريخها على جدران المعابد والتحف المعمارية، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تطور على مر التاريخ، بحيث تستطيع أن ترصد الحالة الفنية والسياسية والمجتمعية، من خلال تحليل ومتابعة الرسوم الجدارية تاريخيًا، سواء على المستوى الرسمى، على جدران القصور أو الهيئات التابعة للدولة، أو الشعبى المتواجد على حوائط البيوت فى الأقاليم المختلفة. ففن الجداريات هو انعكاس غير مباشر لتطور الوضع السياسى والدينى فى إيران منذ القدم وإلى الآن.

سيكون تركيزنا فى هذا المقال على كيفية التوظيف السياسى والمذهبى للجداريات بعد الثورة الإيرانية ١٩٧٩، فهذه المرحلة كما يرصدها النقاد فى إيران، تشكل أوج ازدهار العلاقة بين الفن والسياسة فى العصر الحديث، وصولًا إلى اللحظة الراهنة، التى وظفت فيها الدولة الإيرانية، الرسوم الجدارية لخدمة صراعها ضد إسرائيل وأمريكا. فالنظام الإيرانى رغم ما يبديه من سمات الانغلاق وعدم القدرة على التطور، لكنه يعتمد على تراث ثقافى ضخم يمتد إلى آلاف السنين فى عمق التاريخ، استطاع استغلاله وتوظيفه فى توجيه الرأى العام فى الداخل، وإرسال أفكاره ومواقفه السياسية والأيديولوجية إلى خارج الحدود. وسنحاول رصد تلك الفكرة وتطورها منذ بداية الثورة وإلى لحظة الصراع التى نعايشها، فى محاولة لتفكيك وفهم أيديولوجية النظام الإيرانى، وتوجهاته وقيادته للرأى العام.

جداريات تقديس الأشخاص

بدايات الثورة الإيرانية هى المرحلة المفصلية فى تاريخ إيران الحديث، على المستوى السياسى والفنى بطبيعة الحال، فقد نشطت فكرة الجداريات بقوة فى تلك المرحلة، حينما حاول النظام الجديد أن يوجه الرأى العام باستخدام فكرة الإلحاح البصرى فى الشوارع والميادين، ورغم بدائية الأدوات المستخدمة آنذاك، والاعتماد على الرمز أكثر من التوجيه المباشر المستخدم الآن «والذى سوف نأتى على ذكره لاحقًا»، إلا أن جداريات تلك المرحلة بكل ما تحتويه من أيديولوجية موجهة، حققت وجودًا شعبيًا لا يستهان به.

فقد اعتمد النظام بشكل كبير على التضخيم من رموز الثورة خاصة الرموز الإسلامية، أمثال الخُمينى وآية الله مرتضى مطهرى المنظر الأهم للثورة وتلميذ الخمينى، وصاحب المدرسة الفكرية والفلسفية التى اعتمدت عليها أدبيات الثورة بعد ذلك لفترة طويلة، والذى كان مصاحبًا للخمينى فى باريس وهبط معه من نفس الطائرة فى طهران، وعندما تم اغتياله بعد عدة أشهر من نجاح الثورة، تحول إلى رمز ثورى وسياسى كبير، وأصبح يوم وفاته هو يوم عيد المعلم فى إيران، وانتشرت صوره وجداريات تعبر عن قيمته العلمية والسياسية فى مختلف ميادين طهران وغيرها من المدن، خاصة مدينة قُم الدينية، بجوار صور الخمينى، فتظهر له جداريات وهو يقف وسط مجموعة ضخمة من الكتب دلالة على دوره العلمى والثقافى والتنظيرى فى الثورة.

فى تلك المرحلة كذلك لم تكن فقط الجداريات الرسمية المنفذ الوحيد للتعبير عن حالة السيولة السياسية الثورية، بل إن جماعات الضغط المسلح التى أسهمت بشكل رئيسى فى إنجاح الثورة لها حضورها القوى، والتى مثلت النواة الأولى لتأسيس الحرس الثورى، مستخدمة الجمل المكتوبة على الجدران أو فن الجرافيتى البسيط، الذى انتشر فى كل المدن الإيرانية بشكل كبير. فمثلًا نجد جملًا مكتوبة على عربات الإسعاف أثناء مرحلة المصادمات بين القوى الثورية المسلحة ضد المؤسسات الأمنية فى عهد الشاه، تقول: «لا سبيل إلى الحرية إلا بتسليح الشعب، امنحوا الشعب سلاحًا ليخوض معركة التحرير». وكانت تلك المرحلة هى بداية التسليح المنظم للجماعات الدينية والسيطرة على أسلحة الجيش الإيرانى، خاصة مع بداية مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، وإعلان حالة التعبئة العامة. 

ونتيجة فقدان الجداريات الجانب الاحترافى فى تلك المرحلة، حاولت الدولة أن تسيطر على هذا الفن بشكل رسمى، عن طريق «الحسينيات» وهى أماكن إقامة العزاء الحسينى، أو المساجد، وكذلك منح بعض القطاعات فى الحرس الثورى بعد بداية تأسيسه صلاحيات إدارية لتحديد نوعية الجداريات وانتشارها. وكان تمجيد الشخصيات ومحاولة منحهم جانبًا أسطوريًا له طابع مذهبى هو الهم الشاغل لمختلف الرسوم الجدارية المقدمة، وأصبح الخمينى تحديدًا هو بطل المرحلة بلا منازع، واختلطت رسوماته برسومات الأئمة الشيعة فى محاولة لمنحه قداسة دينية تتسق مع الصورة الذهنية التى يحاول النظام تقديمها، خاصة إذا علمنا أن فكرة تصوير الأئمة غير محرمة بشكل قاطع فى المذهب الشيعى، فمن البديهى أن نرى فى الميادين صورًا للحسين أو على بن أبى طالب، وهناك كذلك بعض التصاوير الجدارية الخاصة بالنبى محمد. فيظهر الخمينى فى بعض الصور وهو يقود الشعب فى اتجاه الثورة وكأنه فى معركة حربية تذكرنا بمعركة كربلاء، وكربلاء بالذات لها حضور قوى بعد ذلك على مر تاريخ الجداريات الإيرانية، وسوف نلاحظ حضورها بشكل قوى فيما يلى، وصولًا لتسجيل الموقف الإيرانى من حرب غزة.

الأمر لم يتوقف عند حدود تصدير الشعارات الثورية أو تقديس الأشخاص، وإنما انسحب كذلك على المواقف السياسية الكبرى، مثل الموقف الإيرانى من الولايات المتحدة، وظهور شعار «مرگ بر آمریکا» «الموت لأمریکا»، خاصة بعد احتلال عناصر من الجماعات المسلحة للسفارة الأمريكية التى استمرت لعام ونصف تقريبًا. انعكست الفكرة على جدران السفارة الأمريكية بحيث تم رسم جرافيتى ضخم للعلم الأمريكى، مع تحويل النجوم إلى جماجم، ومكتوب تحته «الموت لأمريكا»، وكانت هذه الجدارية تحديدًا الأكثر انتشارًا فى تلك المرحلة فى مختلف الميادين فى العاصمة طهران.

شهداء الحرب على الجدران

تعتبر فترة الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الدفاع المقدس، كما يطلق عليها الإيرانيون، فى رأيى، هى العصر الذهبى للجداريات، فقد انتشرت صور الشهداء على مختلف جدران مدن إيران، لدرجة أن بعض النقاد قالوا إنها المرحلة التى عشقت فيها الجدران صور الدماء والجثامين، مع التركيز على مفهوم الاستشهاد الدينى الذى يُشكل العقيدة الرئيسية فى التشيع، وفى الأيديولوجية الحاكمة للنظام الإيرانى، ومزجها بالجانب السياسى للحرب، فقفزت فكرة الحرب من الجانب الوطنى إلى حرب مقدسة لها امتدادها عبر التاريخ المذهبى.

تراجعت فى تلك المرحلة فكرة تقديس الرموز الثورية كالخمينى وغيره، وتصدر المشهد عناصر الحرس الثورى، تمجيدًا لبطولاتهم أثناء الحرب، وأصبحت رموز الحرس والسلاح والدماء وصور الشهداء هى بطل كل الجداريات إلا ما ندر منها، واحتلت تلك الرسومات الفضاء العام، والتى سيطرت عليها ألوان محددة، مثل اللون الأبيض والأسود والأخضر، وهى ألوان ذات دلالة مذهبية عميقة، ترمز إلى «آل البيت» وتحديدًا معركة كربلاء، مع اللون الأحمر الذى سيطر على المشهد رمز الدماء والاستشهاد والتضحية. ومن أشهرها جدارية مكتوب عليها «دماء شهدائنا هو امتداد للدماء المباركة لشهداء كربلاء»، ويظهر فيها صورة مشهورة للحسين والمستخدمة فى طقوس عاشوراء، والتى ترمز إلى مشهد قتل «على الأكبر» ابن الحسين فى كربلاء، ولكن تم تبديل صورة على الأكبر بصورة أحد شهداء الحرس الثورى أثناء الحرب العراقية.

كما منحت الدولة صلاحيات رسم الجداريات وموضوعاتها إلى هيئة مختصة داخل الحرس الثورى، وكذلك المؤسسات الخيرية التابعة للولى الفقيه مباشرة مثل «مؤسسة شهيد»، وهى من المؤسسات المهمة ذات الطابع الاقتصادى المستقل عن الدولة تقريبًا، وتتبع المرشد إلى الآن، وكان يُطلق عليها قبل الثورة «مؤسسة الشاه للأعمال الخيرية»، وهى مؤسسة ذات دعم مليونى ضخم، ولها العديد من المشاريع الاقتصادية، وتم الاستيلاء عليها مباشرة من قِبل رجال الثورة ووضعها تحت رقابة الخمينى ثم المرشد الحالى على خامنئى.

كما ظهر العديد من أسماء الفنانين الذين قرروا الانتماء لفكر الدولة، لا مجال لذكرهم الآن، كما ظهرت هيئات فنية مختصة تتبع كليات الفنون، التى وُضعت عليها العديد من المحاذير الدينية فى ممارسة أى نشاط فنى يخالف التوجهات الدينية للدولة الإسلامية، فلم يجد الفنانون أى اتجاه آخر لممارسة نشاطهم الفنى، إلا الانتماء لمؤسسات الحرس الثورى المختلفة، التى بدأت سيطرتها على مفاصل الدولة، خاصة فى فترة حرب الثمانى سنوات، والتغييب المتعمد للجيش الرسمى.

من أشهر الجداريات فى تلك المرحلة كانت صورة الطفل «حسين فهميده»، الذى لم يتجاوز عمره ١٢ عامًا، استشهد ملقيًا بنفسه أسفل دبابة عراقية على الحدود الإيرانية، وفى يده قنبلة يدوية، ففجر الدبابة وقُتل، فأعلنه الخمينى بطلًا قوميًا، ورسمت له عشرات الصور والجداريات على مدن إيران المختلفة. تلك الجدارية بالذات تعكس فكرة غاية فى الأهمية، وهى أن الحرس الثورى فى ذلك التوقيت لم يعتمد فقط على تجنيد الشباب أو الرجال، ولكنه كان يجند الأطفال والمراهقين، ويمنحهم السلاح، وأحيانًا يستخدمهم فى عمليات انتحارية ضخمة، وهى ممارسة كانت منتشرة فى ذلك التوقيت رغم أنها لم تكن معلنة رسميًا بشكل موسع، لكن تم الترويج لتلك الفكرة بشكل إيجابى عن طريق الجداريات.

امتدت فكرة استخدام رسومات الأطفال فى الجداريات بشكل موسع، والتوحيد بين مفهوم الشهادة والطفولة كضحية للحرب، وتحميل العدو العراقى مفهوم يُتم الأطفال، والحقيقة أن لتلك الفكرة عمقًا أكثر من مجرد استغلال الفضاء الاجتماعى لبث أفكار معينة، فأبناء الشهداء فى إيران لهم مكانة تكاد تكون أهم من المحاربين القدامى أو مصابى الحرب، وكانت تلك القضية مسار نقاش موسع داخل المجتمع لسنوات طوال، فالدعم الذى تأخذه أسر الشهداء، يفوق بشكل كبير أى دعم اجتماعى آخر مقدم سواء للصحة أو التعليم أو غيرهما، عن طريق المؤسسات الداعمة صاحبة الميزانيات المفتوحة الخارجة عن رقابة البرلمان، بحجة تبعيتها للحرس الثورى ولمؤسسة الولاية، وكذلك لضمان مزيد من السيطرة على مفاصل المجتمع من الداخل.

ومن أشهر تلك الجداريات فى ذلك التوقيت كانت رسمة فتاة صغيرة تضع وردة حمراء على رأس والدها الشهيد فى كفنه الأبيض وهى تتشح بالسواد، والخلفية خارطة إيران بلون السماء، وكأنها الجنة الموعودة.

كما عكست الجداريات توجهات الدولة الإيرانية الخارجية آنذاك، ومن أهمها جدارية رمزية فى أشهر ميادين طهران، وهو ميدان فلسطين. مركز الجدارية هو صورة نسر أسطورى كبير، يرمز إلى طائر العنقاء الإيرانى أو «السيمرغ»، الذى يرمز إلى قوة الإله الفارسى القديم ومحاربته للشيطان، وهو يحتوى المسجد الأقصى بين جناحيه ليحميه من جيوش الشر المجسدة بشكل جنود عراقيين يحاولون هدمه، وفى خليفة المشهد رجال الحرس الثورى وهم يحملون السلاح ممسكين أعلامًا خضراء ترمز إلى البعد المذهبى لآل البيت. فالجدارية تجمع بين الرمز الأسطورى والمذهبى والسياسى، لتعكس الفكرة التى كان النظام الإيرانى يروج لها فى ذلك التوقيت، وهى أن الحرب ضد العراق الهدف منها حماية فلسطين والمسجد الأقصى، ففكرة الاستغلال الإيرانى للقضية الفلسطينية حاضرة دائمًا فى أى أزمة تاريخية تمر على إيران خلال الحرب.

وبعد وقف إطلاق النار، وتجرع الخمينى كأس السم بقبوله قرار مجلس الأمن، على حد قوله، ثم وفاة الخمينى وبداية مرحلة جديدة فى التاريخ الإيرانى الحديث، وهى مرحلة إعادة البناء أو الإعمار. تغير شكل الجداريات المستخدمة نسبيًا، فبرغم أن إيران لم تتمكن إلى الآن من تجاوز التأثير النفسى والاجتماعى لحرب الثمانى سنوات، لكن حاولت أن تستغل الفضاء العام بعد الحرب، لتقديم اتجاه مختلف للدولة، فحاولت استخدام جداريات أكثر هدوءًا من الرسومات الصاخبة أثناء الحرب، وألوان تميل للأزرق والأبيض، وظهور أشكال الورود والأزهار بألوانها الزاهية، والتركيز على مفهوم الأسرة أكثر من مفهوم المقاتل أو الجندى، ولكن ظلت صور الشهداء حاضرة فى خلفية المشهد، فالدولة حاولت أن تُقدم رسالة اجتماعية مفادها أننا لن ننسى الشهداء، ولكن سنتجه إلى إعادة البناء، وأن التضحية الجديدة سوف تكون بالجهد والعرق والتماسك الأسرى على أساس دينى، وليس فقط بالدماء.

ومن أشهر تلك الجداريات جدارية على سور إحدى مؤسسات الحرس الثورى فى طهران فى نهاية عام ١٩٨٩، لرسمة حمامة تقف بجوار «بيادة عسكرية» ترمز إلى الجندية، وسط محيط أخضر من الورود والأشجار، فى إشارة إلى أن حذاء ذلك الجندى من الحرس، هو السبب فى كل هذا السلام الذى ننعم به الآن.

جداريات طوفان الأقصى

منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، أوكلت الدولة مسئولية الجداريات إلى «هيئة تجميل المدن»، تحت إشراف البلديات «المحافظات»، وبإشراف ضمنى من المكاتب المختصة فى الحرس الثورى، خاصة الأجهزة الأمنية التى أصبحت أكثر تطورًا ونفوذًا، خاصة خلال العقدين الأخيرين، وبمشاركة من كليات الفنون على اختلافها. وانعكست بعد تلك المرحلة معظم الأحداث الدينية والسياسية على جدران المدن، مثل احتفالات عاشوراء أو عيد غدير خم أو غيره من أعياد ومناسبات دينية أو قومية، مثل عيد النيروز، وكذلك أحداث مرتبطة بالانتخابات الرئاسية أو مجلسى الشورى والخبراء. فقد ظلت الجداريات تحمل توجهات المجتمع أو الدولة لعقود طويلة، وأصبح الفضاء العام ملكًا لأيديولوجية موجهة ومحددة حتى بعيدًا عن أى حدث قوى أو مؤثر.

لكن ما يهمنا هنا هو الجداريات المعاصرة التى تم استخدامها خلال السنة الأخيرة على الأقل، بعد أزمة طوفان الأقصى والمواجهات مع إسرائيل، خاصة أن فن الجداريات تطور بشكل ملحوظ خلال هذا العام، وأصبح له حضور أكثر بريقًا من فترة الثورة أو الحرب العراقية.

جدارية فى ميدان فلسطين أثناء الحرب العراقية

فى بداية طوفان الأقصى ظهر العديد من الجداريات التى تُعمل رؤية النظام الإيرانى واستغلاله للقضية الفلسطينية على خلفية دعمه السياسى والفكرى لحماس فى حربها ضد إسرائيل، كانت أشهرها جدارية فى ميدان «ولى عصر» طهران مكتوب عليها بالعربية والعبرية والفارسية «از غرش شيران بيميريد» «موتوا من زئير الأسود» وهى جدارية غاية فى الأهمية لما تجمعه من رموز أسطورية ومذهبية وسياسية، تتكون الرسمة من عدة عناصر، فى العمق يظهر كائن شيطانى ضخم أسود اللون عليه الرمز الصهيونى نجمة داود، تستخدم الجدارية التصور الشعبى الإيرانى عن الشيطان بشكل واضح، فهو كائن مُظلم بقرون طويلة قبيح المنظر، يسقط هذا الكائن تحت ضربات كائنات نورانية بلون الشمس الذهبى، وهم شخصية ملحمية فارسية قديمة «فريدون» المنتصر على الشيطان «الضحاك»، ممتطيًا طائر السيمرغ «العنقاء»، فى حالة هجوم على الشيطان الصهيونى. وبجانبه يظهر الأسد الأسطورى رمز الألوهية والقوة، كما ورد فى المعتقد الفارسى القديم، ممسكًا بسيف كبير يأتى من المساء مستهدفًا الشيطان، ثم يظهر فى نفس التكوين فارس يرمز إلى شخص العباس بن على فى معركة كربلاء، يتجه بسيف فى نفس الاتجاه، وفى النهاية عنصر من عناصر المقاومة من الجماعات التابعة لإيران، ممسكًا بمدفع مضاد للدبابات، جميعهم يضرب الشيطان الصهيونى فى مقتل. الجدارية تربط بين الأسطورى والمذهبى والتوجه السياسى بشكل واضح، بل إنها تعمل على احتكار المقاومة الفلسطينية الممثلة فى حماس تحت عباء التراث الإيرانى القديم.

جدارية للخومينى والثورة فى البدايات

تتجسد نفس الفكرة تقريبًا فى جدارية أخرى فى ميدان انقلاب فى طهران، منذ ثلاثة أشهر تقريبًا، تُجسد فى مشهد رمزى تراثى من معركة كربلاء، حيث يظهر الحسين على حصانه فى وسط ميدان المعركة ومقابل له جنود جيش الاحتلال أو الأشقياء، مستعيرًا المسمى التراثى لجيش الأمويين، وعلى يمينه جماعة حزب الله، وأبوعبيدة «الملثم» الحمساوى، وخلفه خيام آل البيت وهى تحترق، كما ورد فى تاريخ كربلاء، وخلفها غزة تعانى كمعاناة آل بيت النبى، ومجموعة من الجثامين فى كفنها الأبيض، ورجل يحمل طفلًا رضيعًا فى كفنه، فى لحظة استعادة لمشهد الحسين وهو يحمل طفله الرضيع وفى قلبه يستقر سهم جيش يزيد عندما طلب الماء للطفل الرضيع. ومكتوب على الصورة «لو كنت الحسين بن على ماذا كنت ستفعل؟». المشهد بأكمله يلخص الصورة الذهنية التى يحاول النظام الإيرانى تصديرها عن حرب غزة ومحاولة دمجها فى الوعى المذهبى الدينى، بهدف مغازلة المرجعية المذهبية والشعبية للمجتمع، فالصورة التى تم تصديرها عن الحسين فى الجدارية هى ذاتها التى يتم التعامل معها فى احتفالات عاشوراء السنوية، وبها جزء كبير مُكون داخل المخيال الشعبى وليس المذهبى أو التاريخى الخالص.

وبرغم أن رد الفعل الشعبى لا يأتى أحيانًا إيجابيًا أمام تلك الأفكار المؤدلجة، ويأخذ شكلًا متمردًا على محاولات النظام احتكار الفضاء الاجتماعى، عن طريق مجموعة أخرى من الجداريات والجرافيتى الشعبى الرافض لتوجهات الدولة، والمتناثر بين الطرقات والأزقة والمبانى المهجورة، بعيدًا عن أعين النظام، «وسوف نتناول تلك الفكرة فى كتابة أخرى قريبًا»، إلا أن الإلحاح البصرى الدائم بالإضافة إلى التوجيه الإعلامى والدينى، يحققان جانبًا كبيرًا من الأهداف المنتظرة للنظام.

سليمانى سيد عالم الجداريات

منذ مقتل قاسم سليمانى عام ٢٠٢٠، وهو المتصدر لعالم الجداريات بلا منازع، فهو الشهيد البطل من الرؤية الإيرانية، ويتم استدعاء ذكراه فى كل الأحداث الجلل فى إيران، فقد تحول سليمانى من مجرد قائد عسكرى تم اغتياله لأسباب سياسية إلى رمز مذهبى وسياسى معقد للغاية فى التصور الذهنى للنظام الإيرانى، تنعكس تلك الفكرة بوضوح فى العديد من المشاهد، منها على سبيل المثال، بعد مقتل «إبراهيم رئيسى» فى حادث تحطم المروحية الشهير، تصدرت فى كل مدن إيران جداريات تجمع بين قاسمى ورئيسى فى الجنة، حسب التصور الشيعى، حيث يقبل قاسم سليمانى رأس رئيسى «شهيد الواجب كما أطلقوا عليه فى إيران»، لحظة استقباله فى الجنة.

وكذلك جدارية أخرى لقاسم سليمانى لدى جلوسه مع إسماعيل هنية عقب اغتياله فى حضرة ضريح الحسين من جانب، والجانب الآخر ضريح الإمام العباس بن على. ويظهر سليمانى كذلك فى جدارية أخرى تجمعه مع الشهداء الأربعة الذين تم قتلهم عقب الهجوم الإسرائيلى على إيران فى شهر أكتوبر الماضى، بحيث يتوسطهم سليمانى وكأنه فى شرف استقبالهم. النظام الإيرانى يُصدر سليمانى دائمًا بوصفه الرمز الأكبر منذ عدة سنوات، فهو الحاضر الغائب فى الفضاء البصرى أمام المجتمع.

كما تحاول الدولة تصدير سليمانى فى جدارياته بوصفه الموحد لأطياف المجتمع الإيرانى على اختلافه، فالطبيعة العرقية تشكل صداعًا دائمًا للنظام، فالأقليات العرقية تتجاوز نسبة ٥٢٪ من إجمالى الشعب الإيرانى، ودائمًا ما تسعى العرقية الفارسية التى تشكل نسبة ٤٨٪ أن توحد بقية العرقيات تحت سقف الدولة الدينية أو على الأقل تحييد مطالب الأقليات بشكل أو بآخر، فتظهر جدارية لسليمانى وهو يتصدر المشهد وخلفه مجموعة من المقاتلين الإيرانيين بملابس عرقية وقبلية مختلفة، وكأنها دعوة من النظام إلى التوحد أمام الخطر الوشيك، وخلف رمزية قاسم سليمانى والحرس الثورى.

 

منذ بداية الثورة والدولة الجديدة حاولت تقديم المرأة فى الرسومات الجدارية بشكل ملتزم بالشكل الدينى الجديد، فى مقابل الشكل الغربى الذى تبناه الشاه، فجاءت الجداريات معبرة عن التوجه الجديد، لتُظهر وجه المرأة فقط وهى محجبة ولا تُظهر جسدها إطلاقًا. ورغم الإلحاح على هذا الشكل فى الفضاء العام، إلا أن حضورها كان خافتًا أمام جداريات الشعارات الثورية أو الرموز الدينية والسياسية. حتى انعدم تمامًا أثناء حرب الدفاع المقدس، أمام الحضور الطاغى للشهداء والأفكار العسكرية المؤدلجة، وما يعكس تغيب صورة المرأة من الجداريات أنه جاء معبرًا عن تغيبها عن المجتمع بشكل عام، أمام الحضور الأبوى الذكورى المسيطر على الحالة الاجتماعية العامة فى وضع الحرب.

ولكن وفى أواخر الحرب العراقية بدأت التركيز على دور المرأة مرة ثانية، خاصة مع اكتشاف الأزمات الاجتماعية الناتجة عن غياب دور الرجل عن الحياة العامة، وانخراطه فى حرب استمرت ثمانى سنوات متتالية، ما وضع النظام وجهًا لوجه أمام النساء، اللائى تحملن أعباء الحياة منفردات، وبلا عائل بعد استشهاد آلاف الشباب فى المعركة، ومن عاد منهم عاد إما مصابًا أو فاقدًا لعمله. فعمد النظام إلى تقديم المرأة بطريقة أكثر وضوحًا فى الجداريات، ولكن فى إطار يخدم توجهات الدولة آنذاك، بحيث تم تصدير المرأة فى الرسومات، بوصفها منجبة للشهداء المتحملة لأزمات المجتمع.

ومن أشهر تلك الجداريات التى ظهرت فى نهايات الحرب ١٩٨٧، صورة لامرأة مرتدية الشادور «الحجاب الإيرانى»، ويخرج من تحت عباءتها جنود يخوضون المعركة فى بسالة، فى إشارة إلى أن دور المرأة ينحصر فى إنجاب الأبطال، وخلفها حصان الإمام الحسين يبارك أولادها، وبجانبها صورة الخُمينى، أى التوحيد بين الرمز الدينى والسياسى والجنسى المتمثل فى حالة الإنجاب، ولكن فى خدمة توجهات النظام الذى تشتعل حدوده وصولًا إلى العاصمة تحت وطأة القصف الصاروخى العراقى.

استمرت تلك الرؤية هى المسيطرة على رسامى الجداريات، وهو اختزال دور المرأة فى كونها الأم التى تنجب الشهداء، والزوجة الصابرة على فقدان زوجها. ورغم التطور الذى لحق بدور المرأة بعد ذلك فى المجتمع ومحاولتها أن تنال حظها الاجتماعى أو السياسى، لكن ظلت الفكرة المتشددة هى الحاكمة لصورة المرأة الظاهرة فى الجداريات، وتجلت تلك الفكرة بوضوح بعد أزمة مقتل «مهسا أمينى» ٢٠٢٢، وما أعقبها من مظاهرات، والدعوة إلى تغيير قانون الحجاب، وعدم فرضه بالقوة، فظهرت الجداريات معبرة عن توجه النظام، الذى يُصر التيار المحافظ داخله، على أن وجود المرأة فى المنزل هو الهدف الأسمى من خلقها من الأساس.

ومن أشهر الجداريات التى عبرت عن تلك الفكرة، والتى قام بتصميمها «دار مصممى الثورة الإسلامية»، التابع للدولة، جدارية فى ميدان «ولى عصر» تظهر فيه فتاة صغيرة تقوم بالعديد من الأدوار داخل المنزل، من مساعدة الأم والجدة ورعاية أخيها الصغير، وقد أثارت تلك الجدارية غضب التيار الرافض لفكرة حصر دور المرأة فى المنزل، معتبرًا أن النظام يستغل الفضاء العام للترويج لأفكار التيار الأصولى ولا يعبر عن المجتمع بشكل عام، وما زالت معركة الجداريات قائمة فى كل مرة تظهر فيها المرأة، لتعكس حالة الصراع بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة فى الداخل.

الخلاصة: الجداريات فى إيران ليست مجرد رسومات دعائية أو إعلانية، بل هى انعكاس كامل للتوجهات السياسية للدولة، وتسجيل فنى لأهم اللحظات التاريخية المفصلية التى تمر بالمجتمع، فمن خلال متابعة جادة للجداريات، وبتحليل دقيق للرموز التراثية والمذهبية والسياسية المستخدمة، سنتمكن من رصد تطور الفكر السياسى والاجتماعى الإيرانى بكل ما يحمله من تعقيد وتشابك.