جامعة «MSA»
أحمد العشرى يكتب: أنتظرك أنتِ.. أو موتى!

لم يصدّق أنها كانت معه فى الحلم، كأنّ استعادة ملامحها من العدم ضربٌ من الوهم، وكأنّها لم تكن سوى انعكاسٍ باهت لما أراد أن يجده، لا لما كان حقًا. لكنه رآها، رآها كاملةً، كما لو أن الأحلام تستطيع أن تُعيد الصياغة الدقيقة لما تبعثر من الذاكرة.
ظلّ يحدّق فيها طويلًا، يتأكد أن الجمال الذى كان يفتقره قد تجمّع أمامه دفعةً واحدة. مزيجٌ من النشوة والفزع اخترق جسده، خوفٌ من أن تختفى قبل أن يمسك بها، قبل أن يقول لها إنه انتظرها طويلًا، وإنّ العابرين من الأحلام لا يملكون رفاهية الرحيل دون أثر.
ثم تحدّثت.
صوتها كان قريبًا، كأنه ظلّ يختبئ فى مكانٍ ما داخل رأسه كل تلك السنوات. قالت كلماتٍ كان يحتاجها طوال ثلاثين عامًا، ليست كلمات الحبّ والوجد، بل الكلمات الأخرى، الأعمق، تلك التى تلمس القلب دون أن تحاول امتلاكه، التى تُعيد تشكيل الأشياء التى خذلته من قبل.
الفنّ، الأدب، الفلسفة، الجمال، التفاصيل التى لم يدركها أحد سواهما. تحدّثا كأنّ العمر لم يُبدّد المسافات، كأنّ اللغة التى جمعتهما ظلّت قائمة رغم كل الانقطاعات. لم يسألها من أين جاءت، ولا لماذا عادت، كان خائفًا من أن يُفسد السؤال هشاشة الحلم، من أن يُقوّض التوازن الدقيق بين حضوره وغيابها.
وحين شعر بأن كل شىء سينهار، مدّ يده ليمنحها رقمه، لم يكن يعرف اسمها حتى، لم يكن يعرف إن كان للحلم ذاكرة أم أنّه يتلاشى مع أول شعاع ضوء.
ثم استيقظ.
كانت سعادته وتعاسته متشابكتين، كأنّ أحدهما كان شرطًا للآخر. سعيدٌ لأنه بعد سنواتٍ طويلة يتذكّر حلمًا بهذا الوضوح، تعيسٌ لأنه لم يأخذ ما يدلّه عليها فى واقعه البائس.
حاول أن يصارع الصداع الذى يعتصر رأسه، أن يُفسّر الحمى التى تسرى فى عروقه، أن يعيد ترتيب الأحداث كما وقعت، لكنه لم يجد سوى ثلاث زجاجاتٍ فارغة، بقايا تبغٍ مطفأ تكفى لصنع هرمٍ كبير، وموسيقى تتردّد داخل جمجمته دون انقطاع.
فكّر فى أنّه لو أعاد الليلة من جديد، بنفس الطقوس، بنفس التفاصيل، ربما يعود الحلم.
أعاد كل شىء. الزجاجات، الدخان، الضحكات المكررة، الموسيقى التى سمعها من قبل، التوقيت الدقيق للنوم. وحين أغمض عينيه، لم يأتِ شىء.
انتظر أن تتصل به. انتظر أن شتبعث له إشارة، أن تثبت أنها لم تكن مجرد صورة انبثقت من لا وعيه المرهق. لكنها لم تبعث شيئًا.
حين بدأ يفكّر فى أن تكون شخصًا حقيقيًا، قرأ فى المرايا أعوامه المنهكة. هل صنعها خياله ليواسى انتظاره الطويل؟ هل كانت محض استعارةٍ بائسة، خلقها عقله ليمنحه سببًا للبقاء؟
ظلّ يفكّر، وهو كما هو.
مُترعٌ بذكرى حلمٍ وحيد، بثلاثين سنةٍ من التيه، بعجزٍ يتفشّى فيه كمرضٍ قديم. لم ينسَها أبدًا. لم يتوقّف عن محاولاته لاجترار لحظةٍ واحدةٍ منها، أن يستعيدها مرةً أخرى، ولو على حافة حلمٍ كاذب.
لا يدرى إن كانت موجودةً حقًا، تحاول أن تلتقى به من وراء الحجاب الشفيف بين النوم واليقظة، أم أنّها لم تكن سوى ظلّ العجز الذى استعمر ذهنه فى شبابه، ثم تمدد على جسده المنهك حتى ابتلعه تمامًا.
ينتظر شيئين فقط:
موته... أو هى!