الإثنين 07 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سهير القلماوى تكتب في مجلة «الهلال»..

منذ مائة عام.. شيخ صعيدى يحرّر المرأة

حرف

- لقد رأى الشيخ الطهطاوى فيما رأى فى فرنسا ألوانًا من تقدم المرأة الفرنسية ورقيها

- كان الشيخ رفاعة الطهطاوى هو أول من دعا إلى إصلاح عام فى الميادين الاجتماعية والسياسية والعلمية

من العسير على المرأة العربية اليوم أن تتصور مدى التطور الجبار الذى طرأ على حياتها فى القرن العشرين، إن سرعة التطور وعمقه يجعلان صور المرأة فى القرن الماضى تأتى من عالم سحيق فى القدم، عالم لا يمت بأى صلة لعالمنا الحديث.

ومع هذا فإن أحوال المرأة فى القرن التاسع عشر لم تكن هادئة ثابتة كما نظن.. وإنما كانت بشائر الدعوة إلى الإصلاح من حولها تقلقل الواقع من تحتها وهى تحاول أن ترسم لها مستقبلًا أفضل.

المعروف لدى أكثر الذين يكتبون عن المرأة العربية أن دعوة قاسم أمين لسفورها وتحريرها، آخر القرن الماضى وأول القرن الحالى، كانت هى الصيحة الأولى التى فتحت باب التحرر ومنه تدفق القول والعمل فى سبيل ما وصلت إليه المرأة من تحرر كريم وحياة مثمرة. ولكن دعوة قاسم أمين لم تخرج من فضاء ولم تنبت فى الهواء، ولم تكن فيما عدا المناداة بالسفور بأقوى ولا بأوسع أفقًا من دعوات سبقتها. كل ما فى الأمر أن قاسم أمين خص الدعوة بكتابين خالصين لها «هما جملة مقالات»، ثم تزعم الرد والدفاع عن الفكرة، ولكن الذين سبقوه من المصلحين وإن لم يتخصصوا فى الدعوة لذاتها فقد مهدوا لها ودعوا لأسسها بقدر ما يستطيعون فى زمانهم، بل جعلوا قضية المرأة قضية من قضايا الإصلاح العام فكانوا بذلك أقوى ارتباطًا بالحق وبالواقع.

ولنقف عند أول من نادى فعلًا بأول أساس لتحرير المرأة - وهو تعليمها - وإن يكن النداء فى محيط عصره وبإمكانات زمانه يعد محدودًا إذا قيس بما تم بعد ذلك. ولكن دعوات الإصلاح لا تقاس ولا تقدر فى ضوء ما قد جاء بعد، وإنما هى تقاس وتقدر بمقدار ظروفها التى عاصرتها، وبمقدار صحة الاتجاه نحو المستقبل البعيد. فما كان يمكن للحاضر إذ ذاك أن يقدم من إمكانات تعين على صفاء الرؤى لتحديد آمال المستقبل الأفضل.

كان الشيخ رفاعة الطهطاوى الصعيدى، الشيخ المعمم الذى لم يعرف قبل سفره إلى فرنسا إلا قريته، والأزهر وما حول الأزهر من بيوت علمائه فى القاهرة، هو أول من دعا إلى إصلاح عام فى الميادين الاجتماعية والسياسية والعلمية الكثيرة. فكان بناء على أول من دعا إلى تحرير المرأة ضمن ما دعا به من تحرير العقل والجسم فى سبيل الحياة المثلى.

قاسم أمين

والعجيب أن هذا الشيخ الصعيدى كان من الذكاء والنباهة وصدق الإيمان بحيث صمد فى أصالة وفى قوة أمام تجربة الانبهار بحضارة الغرب وحضارة فرنسا التى اعتبرت تتويجًا وذروة لهذه الحضارة، فاستطاع بما امتاز به من صفات فذة أن ينقل من هذه الحضارة السليم النافع وأن ينفى السقيم الضار فى حذق ومهارة قلّ أن يخيب بهما أو ينحرف.

لقد رأى الشيخ الطهطاوى فيما رأى فى فرنسا ألوانًا من تقدم المرأة الفرنسية ورقيها وإسهامها فى المجتمع وكمال دورها فى البيت أمًا وزوجة وسيدة مجتمع، وكانت فرنسا بلدًا صديقًا وكانت حضارتها فى ذروة مجدها بحيث كانت باريس كعبة العلم والعرفان والفن والأدب.

بل، ولا بد من الوضوح، رأى الجمال المكشوف والاختلاط اللذين حرم منهما بعنف فى بلده، ومع هذا وقف الشيخ بذكائه ورهافة حسه وقدرته على التوازن كالآلة الدقيقة الحساسة يلتقط صورة ما يرى فى موضوعية عجيبة ثم ينقيها ويعلق عليها حاضًا على ما يفيد محذرًا مما يضر.

إن دقته فى وصف دقائق أحوال المرأة الفرنسية فى كتاب الرحلة «تخليص الإبريز» تثير كثيرًا من الإعجاب الممزوج بكثير من التساؤل أيضًا.. فهو مثلًا لم يترك كبيرة ولا صغيرة فى ملابس المرأة لم يلحظ عليها ملاحظة مقارنة بما هو موجود فى مصر. يقول: «وملابس النساء لطيفة بها نوع من الخلاعة».

ويصف تصفيف شعورهن وتفاصيل الحزام الذى يُلبس فى خصر استحق منه الغزل ونقل الشعر القديم الكثير فى وصف دقة الخصر، ولكنه يفصل فيقول «وهن يشبكن بالحزام قضيبًا من صفيح من البطن إلى آخر الصدر حتى يكون قوامهن دائمًا معتدلًا لا اعوجاج فيه. ولهن كثير من الحيل». ويصف السيقان ويعجب لخلو الرجلين من الخلاخل ويذم السيقان الرفيعة «وفى الحقيقة سيقاهن الرفيعة غير عظيمة أصلًا فلا يصلح لهن قول الشاعر.. إلخ». ويورد أبياتًا تتغزل فى السيقان السمينة ويعيب كشف الأذرع والصدر والرجلين ويحبذ الحُلى القليلة الرقيقة وهكذا..!

رفاعة الطهطاوي

بهذه الدقة فى ملاحظة الماديات لاحظ الطهطاوى الصفات المعنوية والعادات والتقاليد فأثار مشاكل وقارن صورًا. صور المرأة الفرنسية وسيدة البيت التى نعم بأنسها وترحيبها به ضيفًا فى بيتها، وصور الفرنسية التى تؤلف الكتب وترحل وحدها دون محرم، وتراقص زوجها وغير زوجها من الرجال، وتربى أبناءها وتعنى بنظافتهم وتختلط قبل الزواج بخطيبها.

ومن كل هذه وغيرها من الصور اتخذ لنفسه موقفًا وأورد حكم الشرع ونبه إلى ما يمكن أن تفيد منه المرأة المسلمة، ولقد وقف طويلًا عند علاقة المرأة بالرجل وأثاره أن الفرنسى عبد للنساء سواء أكن جميلات أم لا كما يقول بل هويورد فى كتابه «المرشد الأمين» قول بعضهم: «النساء عند الهمل معدات للذبح وعند بلاد الشرق كأمتعة البيوت وعند الإفرنج كالصغار المدللين».

ونقف وقفة حيرى متعجبين أمام موقفه من الرقص ومخالطة الخطيبين قبل الزواج، فالظاهر أن مخالطته لأساتذته وتعرفه على بعض سيدات متحررات فى وقار يمارسن الرقص ويبحن اختلاط الخطيبين قد خففا من قابلية الصورة أن تصدم شعور الإسلامى المتزمت، ولعلاقة الموضوعين بالحب ولرهافة حسه فى هذه الناحية دخل فى ميوعة موقفه عندما لا يحبذ هذين المظهرين من مظاهر الحياة الفرنسية.

ولكن هذه الصور الدقيقة وهذه الملاحظات التى يعرضها مبعثرة وفى مناسباتها تتبلور آراء قيمة فى كتابه «المرشد الأمين» الذى ألفه قبيل موته وهو شيخ كهل قد عانى النفى والتشريد من العمل نتيجة التخلف والجمود لدى الحكام الرجعيين، ولكنه ظل شيخًا قوى الإيمان مرهف الحس شاعرًا بمسئولية القيادة مقدرًا تبعات الريادة فى مجال الإصلاح الفكرى والاجتماعى.

وفى «المرشد الأمين» وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على صدور كتاب الرحلة، وكانت بعض أحوال المرأة قد أخذت تتغير بشكل واضح بدليل فتح مدارس للبنات، يقول الطهطاوى عن الخديو الذى أمر بفتح هذه المدارس:

«فقد سوى فى اكتساب المعارف بين الفريقين ولم يجعل العلم كالإرث للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذه سوق المعارف المشتركة قد قامت.. فقد نشر لهن أعلام المقال والفعال وخصّهن بمدارس كالصبيان يخرجن بها من حيز العدم إلى الوجدان».

وفى نطاق حدود عصره الذى يرى العلم امتيازًا لاحقًا، والذى يرى فى المجتمع فئات لا يصح لها أن تسير فى التعليم إلى منتهاه، وإنما يكفيها قدر منه معين معلوم لتدبير معاشها - أى أن فكرة مسئولية الدولة عن تعليم كل المواطنين ما كان يمكن أن تخطر ببال - فى نطاق ظروف زمانه نعجب كيف فتح الآفاق أمام تعليم المرأة، وكيف عمل على تكسير كثير من السدود والقيود التى كانت تتجلى خرافات تعلق بأذهان الناس، وتحول دون قبول فكرة تعليم المرأة تعليمًا نظاميًا كتعليم الرجل سواء بسواء. يقول الطهطاوى: «وقد اقتضت التجربة فى كثير من البلاد.. أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره بل إنه لا ضرر فيه أصلًا».

وإنى لأنظر إلى نفاذ الرؤى عند رائدنا الأول فأعجب كيف استطاع أن يؤكد هذا الرائد منذ قرن من الزمان وفى بلادنا الشرقية العربية المسلمة: «آن للمرأة أن تنتفع بعلمها فى أن تعمل إذا اقتضها الظروف ذلك». أو يقول «ينبغى صرف الهمة فى تعليم البنات والصبيان معًا»، ثم يعلل تعليم البنات بقوله: «ليزول ما فيهن من سخافة العقل والطيش مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لمرأة مثلها». ثم يمضى ليقول: «وليمكن المرأة عن اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأعمال والأشغال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها».

ثم انظر معى أيضًا وأعجب مثلى من حضّه المرأة على أن تعمل بيدها كل ما تستطيع عمله. يقول: «فكل ما تطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن. وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن من العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل». وهو يعقد فى كتاب «المرشد الأمين» فصلًا كاملًا يبين فيه أن أمهات المؤمنين ونساء الصحابة كن يسعين على عيالهن ويروى أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم وأقوالًا لعائشة وأخبارًا ثم يقول: «وهذه دلائل مصرحة بأن نساءهم كن يشتغلن بالخدمة وبالمهنة رضى الله عنهن».

وسواء أفهم العمل على أنه هو الوجود الأسروى والاجتماعى أو فهم العمل على أنه صارف عن الشر مؤدٍ إلى الخير، فإنه يكفيه أنه مجد العمل وحضّ عليه فى حدود ما يطيق العصر من اتساع فى الأفق. وكذلك بالنسبة للمرأة سواء أحضّ على العمل فى البيت أو فى المجتمع أو فى كليهما، فقد مجد اليد العاملة وعد العمل مهما يكن شرفًا واتخذ أمهات المؤمنين مثلًا على شرف العمل. 

وتحيط بآراء شيخنا الرائد طائفة من الآراء الأخرى والمعتقدات والصور خففت من قوة هذه الآراء، وقللت من بروزها ومن مقدار ما كان يمكن «لو تصدرت آراءه جميعًا»، من أن تنفذ إلى المجتمع لتصلح عملًا وتحرر فعلًا. ولكن آراءه الأخرى فى ذكاء المرأة وخلقها وقدرتها على التحايل وما يجب أن تكون عليه من خضوع لزوجها وتحمل لوضعها الذى قد يصل إلى ألوان بقبول زوجات أخريات يبيحهن الشرع أو الذى قد يصل إلى الشلل بفرض الحجاب والتقيد بالبيت وغير هذه من آراء لا نجدها جافة صارمة مستعصية على التغيير أو التحوير.

ذلك أنها آراء كلها عطف على المرأة، وحب لها قد يصل إلى الافتنان بمحاسنها وإيمان بالسعادة التى يمكن أن تتيحها لزوجها وبيتها وأبنائها وأمتها. وحياة الزوجين السعيدين تؤلف بشكل بارز محور كثير من آراء الشيخ، بل محور كثير من تأملاته وعواطفه. ترى هل جرب الحياة الزوجية السعيدة فوصف السعادة الزوجية من واقعها وصف المجرب الحانى والحريص العطوف، أم أنه حرم منها فصور تطلعه إليها كأمل مرجو فى شوق المحروم ولهفة الملهوف!!

إنه لعالم ضيق صغير هذا الذى رسمه الطهطاوى للحياة الزوجية وحاول بشتى الطرق أن يحقق وجوده ويحمى كيانه ليبوئ المرأة الصالحة عرشه. ولكنه كان رغم ضيقه وصغره عالمًا حفيًا بالجمال والحب والحنان. وإنه لعالم عالى الأسوار سميك الجدران كثير القيود عديد السدود ولكنه كان رغم عزلته وتقوقعه وانغلاقه عالمًا قانعًا سعيدًا، عالمًا يرى فى القيود والسدود والأسوار والجدران سياجًا حانية على خصبه الثمين تحمى زرعه وقيمه الإنسانية الرفيعة.