الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المرشد الدموى والأديب الكاذب

أخطر تحقيق صحفى تاريخى عن العلاقة الخاصة بين حسن البنا وسيد قطب

حسن البنا وسيد قطب
حسن البنا وسيد قطب

لأول مرة: حقيقة مقال سيد قطب عن شواطئ العراة.. ولماذا رد عليه طالب بكلية التجارة فى مجلة الجماعة الرسمية؟

 لماذا قرر التنظيم الخاص اغتيال سيد قطب؟ وهل رفض حسن البنا قتله؟ 

 مر سيد قطب بمرحلة ارتياب فى عقيدته الدينية وظل كذلك لسنوات

 مقال سيد قطب عن «شواطئ العراة» لم تكن فيه دعوة للتعرى ولكنه كان يتحدث عن واقع موجود

هل كان سيد قطب يحتقر حسن البنا؟ ولماذا رفض قطب نشر رسالة مرشد الجماعة التى يثنى عليه فيها؟

 جماعة الإخوان أرادت أن تشوه صورة سيد قطب الذى كان يهاجم الكاتب الإسلامى عبدالرحمن الرافعى

 الواقع يؤكد أن سيد قطب لم يكن معجبًا فى أى يوم من الأيام بحسن البنا

 البنا يحرق شركة الإعلانات الشرقية اليهودية لمنافستها شركة الجماعة.. ويمنع الإعلانات عن مجلة سيد قطب حتى يعلن استسلامه 

وثيقة تاريخية: الصحف الأمريكية أعلنت غضبها من اغتيال حسن البنا لأنها كانت تجهزه لمحاربة الشيوعية

 بالدليل والبرهان: سيد قطب كاذب فيما رواه عن شماتة الأمريكان فى قتل البنا

ولد حسن البنا وسيد قطب فى العام نفسه 1906.

الأول كان من أبناء المحمودية محافظة البحيرة... والثانى كان من أبناء قرية موشا التابعة لمحافظة أسيوط. 

لم تكن هذه هى كلمة القدر الوحيدة فى حياة الرجلين اللذين ارتبطت باسمهما حركات وحوادث العنف التى عبرت من القرن العشرين إلى القرن الحادى والعشرين، ويعلم الله وحده إلى متى ستستمر؟ 

كانت هناك كلمة أخرى للقدر، فقد درسا الدراسة نفسها بدار العلوم.. لكن الطريق فرق بينهما بعد ذلك رغم عملهما مدرسين بوزارة المعارف، فبينما اتجه حسن البنا إلى تكوين جماعته، أخلص قطب للنقد الأدبى والكتابة فى الصحف. 

وجد البنا نفسه فى الحركة، أما قطب فظل حائرًا يبحث عن نفسه، ولما وجدها بين أحضان جماعة البنا سرعان ما فقدها.. وفقد حياته نفسها. 

لم يتعرف البنا على قطب خلال الدراسة، فقد كان من الطبيعى أن يدرسا فى العام نفسه، لأنهما مولودان فى العام نفسه، لكن البنا سبق قطب فى التخرج- تخرج البنا فى العام 1927 وتخرج قطب فى العام 1933- بما يعنى أنهما لم يكونا فى دار العلوم فى الوقت ذاته، لكن جرى ما جمعهما على خط واحد. 

محاكمة سيد قطب وعناصر من الإخوان

فى تراث سيد قطب مقال يعرفه كل من درس حياته الصحفية والأدبية، عنوان المقال «خواطر صيف.. شواطئ ميتة»، نشره فى جريدة الأهرام، قال فيه: 

«إن الذين يتصورون العرى على الشاطئ فى صورته البشعة الحيوانية المختلفة واهمون، وهم لم يذهبوا إلى الشاطئ، ولكن قرروا أو رأوا الصور منشورة فى الصحف، أو ذهبوا وفى نيتهم أن ينتقدوا، فعاشوا فى الصورة الخيالية المشوهة فى أذهانهم، ولم يعيشوا على الشاطئ والأمواج». 

«ليس فى الجسم العارى على البلاج فتنة لمن يشاهده ويراه فى متناول عينه كل لحظة، وفتن الأجسام هناك وهى المنتشرة فى البُرنس أو الفستان، أما المايوه فهو لا يجذب ولا يثير، وإن أثار شيئًا فهو الإعجاب الفنى البعيد بقدر ما يستطاع عن النظرة المخوفة المرهوبة». 

«لقد كنت أحسبنى وحدى فى هذه الخلة، ولكنى صادفت الكثيرين ممن لم يوهبوا طبيعة فنية، ولا موهبة شعرية، فلاحظت أن الأجسام تمر بهم عارية فلا تثير كثيرًا من انتباههم، بينما تتسع الحدقات وتتلفت الأعناق إذا خطرت فتاة مستترة تخفى الكثير وتظهر القليل، وحدثتهم فى ذلك فصدقوا رأيى، فالذين يدعون إلى إطالة لباس البحر وإلى ستر الأجسام بالبُرنس، إنما يدعون فى الواقع إلى إثارة الفتنة النائمة وإيقاظ الشهوات الهادئة، وهم يحسبون أنهم مصلحون». 

«إن صورة واحدة عارية مما ينشر فى الصحف أفتن من شاطئ كامل يموج بالعاريات، لأن الصورة المصغرة تثير الخيال الذى يأخذ فى تكبيرها والتطلع إلى ما وراءها من حقيقة، وهذا هو الخطر، أما الجسم العارى فواضح مكشوف، وصعب على الكثيرين تصديق هذه الحقيقة، أما الذين ذهبوا إلى الشاطئ وهم مجردون من الرأى السابق فيها ومن التحفز لمرائيها، فيعلمون فى ذات أنفسهم صدق ما أقول». 

حسن البنا مع عدد من أعضاء جماعة الإخوان

«أطلقوا الشواطئ عارية لاعبة، أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضمان للأخلاق».

كان هذا المقال تحديدًا هو من وضع سيد قطب فى مواجهة حسن البنا. 

والحكاية نقرأها عند محمود عبدالحليم، صاحب موسوعة «الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ». 

تحت عنوان «بصيرة نافذة ورأى ملهم حول سيد قطب» يقول محمود عبدالحليم: 

«انتهى سوق الأدب فى مصر، بل فى الشرق العربى كله إلى مجلة (الرسالة) التى كانت تصدر فى القاهرة، كان يصدرها أديب كبير هو الأستاذ أحمد حسن الزيات، وقد استطاع هذا الرجل بحكمته أن يجعل مجلته ملتقى أفكار الأدباء وأقلامهم على اختلاف نزعاتهم، وتباين وجهاتهم، فقد كان يكتب فيها مصطفى صادق الرافعى وهو حامل لواء الأدب الاسلامى، كما كان يكتب فيها عباس محمود العقاد وكان معروفًا عنه فى ذلك الوقت أنه يمثل الجانب الآخر». 

«وكان لكل من الرجلين مدرسة على شاكلته ومريدون، وكان من تلامذة العقاد فى ذلك الوقت شاب أديب درعمى اسمه (سيد قطب)، ولم يكن سيد قطب مجرد تلميذ للعقاد بل كان أقرب تلاميذه إليه وألصقهم به وأشدهم تشيعًا لأدبه وأفكاره واتجاهاته، حتى إن مجلة (الرسالة) بعد أن لقى الرافعى ربه ظلت فاتحة صفحاتها للكتابة عن الرافعى ردحًا من الزمن، فكان أشد الكتاب تهجمًا على الرافعى وإشادة بالعقاد هو سيد قطب». 

«وكان هذا التهجم على الرافعى يحز فى نفوس الألوف من قراء (الرسالة) الذين كانوا لا يقتنونها كل أسبوع إلا لمقال الرافعى الذى كان الزيات يجعله دائمًا المقال الافتتاحى لكل عدد، وتأتى من بعدها مقالات العقاد وغيره من أمثال أحمد أمين وطه حسين وأحمد زكى، وكان الناس يتدارسون مقالة الرافعى حتى إن منهم من كان يحفظها عن ظهر قلب». 

«على أن (الرسالة) مهما أفسحت من صفحاتها للأضداد، فقد كان لها من الكرامة والرهبة والوقار ما يجد الكاتب فيها نفسه ملتزمًا بهذا الوقار مهما كان بطبيعته مسفًا منحلًا، وقد يجد هؤلاء فيما سوى (الرسالة) من الصحف مجالًا لنشر آرائهم وإبراز إسفافهم». 

«وقد قرأت فى ذلك الوقت فى جريدة الأهرام- يشير عبدالحليم إلى أن المقال نشر فى العام ١٩٣٤- مقالًا لسيد قطب يدعو فيه دعوة صريحة إلى العرى التام، وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم- لا أدرى من أين فهم عبدالحليم ذلك فقطب لا يتحدث إلا عن الشواطئ ولباس البحر عليها ولا يدعو إلى العرى التام- وكانت هذه البدعة قد انتشرت فى بعض بلاد أوروبا، وقد أثارنى هذا المقال إثارة لم أستطع معها أن أقاوم القلم الذى وجد فى العقل والمنطق والخلق والحياء ألف دليل ودليل يدحض هذه الدعوة، ويثبت أنها دعوة تخريبية بهيمية دخيلة». 

«حملت المقال الذى كتبته وذهبت إلى الأستاذ المرشد- كدأبى فى كل مقال أكتبه فى غير مجلتنا- وكنت مزمعًا نشره فى الأهرام مطالبًا إياه بنشره فى نفس المكان الذى نشر فيه المقال المردود عليه، قرأه الأستاذ المرشد ثم أطرق طويلًا- على غير ما عودنى- ثم التفت إلىّ وقال: يا محمود إن المقال متين الأسلوب، قوى الحجة، جدير بأن ينشر، وقد سبق أن أجزت لك ما نشرته فى بعض الصحف اليومية، ولكن هذه المرة مرت بخاطرى عدة خواطر أحب أن أعرضها عليك: 

أولًا: لا شك أن فى المقال فكرة مثيرة تجرح قلب المؤمن. 

ثانيًا: كاتب هذا المقال متأثر بالبيئة التى تعرفها ونعرفها جميعًا، وهى التى تغذيه بمثل هذه الأفكار. 

ثالثًا: إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به، وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه على أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة. 

رابعًا: إن قراء الأهرام عدد محدود بالنسبة لسكان هذه البلاد، وليس كل قراء الأهرام قد قرأوا هذا المقال، فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار، وأكثر الذين قرأوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسية قراءة عابرة.

سيد قطب خلف القضبان 

خامسًا: إذا نشرنا ردًا على هذا المقال فى الأهرام كانت لذلك النتائج الآتية: 

أولًا: سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرأوا المقال الأصلى إلى البحث عنه وقراءته، كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخرى قراءة متأنية، وستبرز بذلك فكرة المقال فى مختلف المجتمعات، وتكون موضوع مناقشة واهتمام، ونكون بذلك قد عملنا- من حيث لا نقصد- على تحقيق مأرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه على الألسنة. 

ثانيًا: نكون- من غير قصد- قد تسببنا فى لفت الأنظار إلى لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة، ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلى هذه الرذائل فى غفلة من الناس غير معارة أى اهتمام ولطمرت فى طيات النسيان. 

ثالثًا: الرد نوع من التحدى، والتحدى يخلق فى نفس المردود عليه نوعًا من العناد، وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه، ونكون بذلك قد قطعنا عليه خط الرجعة، وفى هذا خسارة نحن فى غنى عنها». 

«وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلى الحق أولى من إحراجه، وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته، ويفىء إلى الصواب، ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده فى يوم من الأيام». 

ثم قال: ما رأيك فى هذه الخواطر؟ 

قلت: إنها مقنعة تمام الإقناع، ومزقت الرد بين يديه. 

«ولا داعى للإشارة إلى ما كان من أمر هذا الشاب، وما يسره الله إليه من اليسرى حتى صار علمًا من أعلام الدعوة، ثم كان من شهدائها، وإن كان شىء من نبوءة الأستاذ المرشد، رحمه الله، لم يتحقق فى حياته». 

كانت هذه محاولة من محمود عبدالحليم لمدح حسن البنا بطريقة خفية، فهو من تنبأ لسيد قطب بأنه سيكون عونًا لدعوته، ولهذا قرر ألا يتم الهجوم عليه حتى لا يفقده. 

لكن كعادة الإخوان يلفقون الحكايات ليصنعوا أساطيرهم الخاصة، وهو ما يبدو فى الحكاية التى حاول محمود عبدالحليم أن يجمع فيها بين حسن البنا وسيد قطب لأول مرة، وهى حكاية مشكوك فيها لما بها من عدم منطقية، بداية من أن مقال سيد قطب لم تكن فيه دعوة للعرى، ولكنه كان يتحدث عن واقع موجود، وكان يدافع عنه فى مواجهة من يهاجمونه. 

شكك فى هذه الواقعة كثيرون، على رأسهم يوسف القرضاوى الذى كان يتحدث عن سيد قطب، وجاء عرضًا على هذه الحكاية. 

يقول القرضاوى: ذكر الأستاذ محمود عبدالحليم فى كتابه «الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ» واقعة عن سيد قطب، ما زلت فى شك من أمرها، وهى: إنه كتب مقالة فى الأهرام تدافع عن «العرى»، وأنه من الحرية الشخصية للإنسان، على غرار ما يكتبه دعاة الإباحية، وهذا نفس غريب على مسيرة سيد قطب، فلم يكن الرجل- على ما أعلم- فى أى فترة من حياته من دعاة التحلل، وأرجو من إخواننا من شباب الباحثين أن يحققوا ويبحثوا فى مدى صدق هذه الواقعة.

جاء البحث أولًا من خارج الإخوان، وبدأ التشكيك من التاريخ الذى أشار إليه محمود عبدالحليم على أن المقال نشر فيه وهو العام ١٩٣٤. 

فى كتابه «سيد قطب.. الخطاب والأيديولوجيا» يتبنى محمد حافظ دياب أن مقال سيد قطب نشر فى جريدة الأهرام فى ١٧ مايو ١٩٣٤، يقول نصًا: فى هذه الفترة مر سيد قطب بمرحلة ارتياب فى عقيدته الدينية، وظل كذلك لسنوات، وهو ما ذكره للندوى حين أخبره بأنه بعد انتقاله إلى القاهرة واستقراره فيها انقطعت كل صلة بينه وبين نشأته الأولى، وتبخرت ثقافته الضئيلة، وعقيدته الإسلامية، ومر بمرحلة الارتياب فى الحقائق الدينية، وهو نفسه يعترف بهذا بعدها، بقوله: إن هذه الرواسب كانت تغبش تصورى وتطمسه، وتحرمنى من الرؤية الواضحة الأصيلة. 

ويصل دياب إلى ما نتحدث عنه، يقول: وليس أدل على آثار هذه المرحلة من مقال نشره فى الأهرام بتاريخ ١٧ مايو ١٩٣٤، دعا فيه دعوة صريحة إلى العرى التام، وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، وهى بدعة كانت وقتها تنتشر فى بعض بلاد أوروبا، كذلك تتضح نزعة ارتيابه فى كثير من قصائده الشعرية التى كان ينظمها أيامها.

استسلم محمد حافظ دياب تمامًا إلى الرواية الإخوانية، ونقل كلماتها نصًا دون أن يحاول مراجعتها أو نقدها.

وهو ما لم يحدث مع شريف يونس صاحب دراسة «سيد قطب والأصولية الإسلامية» وهى رسالة ماجستير صدرت بعد ذلك فى كتاب بنفس الاسم، فقد حاول أن يبحث عن هذا المقال. 

فى هوامش دراسته، يقول شريف يونس: وقد ذكر محمود عبدالحليم أن سيد قطب كتب مقالًا فى الأهرام يدعو فيه إلى العرى التام على مثال أندية العراة فى أوروبا - لم يرد فى المقال شىء عن نوادى العراة مطلقًا- وحدد الباحث محمد حافظ دياب تاريخ نشر هذا المقال بعدد ١٧ مايو ١٩٣٤، ولم أجد لمثل هذا المقال أثرًا، بتوقيع أو بغير توقيع فى كل أعداد النصف الأول من عام ١٩٣٤، وهى الفترة التى داوم فيها سيد قطب على النشر بالأهرام، ولم أجد أى إشارة إليه فى كل المعارك الأدبية التى أثيرت ضد سيد قطب، وفوق ذلك أرجح عدم وجوده أصلًا، نظرًا لعدم اتفاق مثل هذه الفكرة مع اتجاه سيد قطب الأخلاقى فى كتاباته فى تلك الفترة، وأقرب ما وجدت فى كتابات سيد قطب إلى مثل هذه الفكرة إشادة من جانبه بأبيات العقاد فى قصيدة «خليج ستانلى»، التى تتناول الجمال العارى على الشواطئ. 

وفى كتابه «تحولات سيد قطب» يقول حلمى النمنم: يذكر محمود عبدالحليم واقعة تعود إلى سنة ١٩٣٤ حيث كتب سيد قطب مقالًا نشره فى الأهرام، وفهم عبدالحليم منه، كما فهمت الجماعة أن المقال دعوة إلى العرى التام، وأن سيد قطب يتمنى أن يسير الناس فى الشارع عراة تمامًا كما ولدتهم أمهاتهم. 

يعلق النمنم على الواقعة وعلى فهم الإخوان بقوله: ولم يكن ذلك صحيحًا ولا فيه شىء من الصحة، فقد كان قطب كاتبًا محافظًا، والمقال لمن يقرأه يجد أنه يأسف لأن المصايف كانت خاوية ذلك الصيف من المصيفين، وتعرض فى المقال إلى أن ارتداء المايوه على الشاطئ ليس مثيرًا للشهوات كما يتصور البعض. 

المفاجأة أن النمنم فى هوامش كتابه قال عن مقال سيد قطب: المقال نشر فى ١٧ أكتوبر ١٩٣٧ وليس سنة ١٩٣٤ كما ورد لدى محمود عبدالحليم. 

الأمر نفسه تكرر مع الباحث محمد سيد بركة صاحب كتاب «سيد قطب صفحات مجهولة» الذى صدر فى العام ١٩٩٩، حيث عاد إلى أعداد جريدة الأهرام فى مايو ١٩٣٤، ولم يجد مقالًا لسيد قطب بهذا العنوان. 

لم يكن فيما قاله الأربعة شيئًا صحيحًا من الأساس، حافظ دياب الذى أقر محمود عبدالحليم على ما قاله، وحلمى النمنم الذى صحح التاريخ الذى نشر فيه المقال فجعله ١٩٣٧ بدلًا من ١٩٣٤، وشريف يونس الذى نفى تمامًا أن يكون هناك مقال لسيد قطب عن الشواطئ من الأصل، ومحمد سيد بركة الذى اكتفى بالبحث فى أعداد الأهرام الصادرة فى مايو ١٩٣٤. 

مقال سيد قطب الأصلي بعنوان «الشواطئ الميتة» 

فى كتابه «سيد قطب من القرية إلى المشنقة» عبر عادل حمودة عبورًا سريعًا على هذا المقال: 

يقول: «من منتصف العشرينيات (١٩٢٥) إلى قرب نهاية الثلاثينيات (١٩٣٩) كان سيد قطب مثل العقاد وطه حسين وغيرهما من المثقفين المصريين الذين اغترفوا وشربوا حتى الامتلاء من نبع الحضارة الغربية، كانوا وقتها مثل الفراشات التى تنجذب إلى ضوئها المبهر، وقد تحول الانجذاب إلى إعجاب، وتحول الإعجاب إلى عشق، وتحول العشق إلى إدمان، ثم كان أن تحول الإدمان إلى صلاة وعبادة وخشوع، لكن ما إن مرت السنوات حتى كفروا بتلك الحضارة واستردوا وعيهم الشرقى وحسموا تناقضهم المحموم بسبب فيروس الازدواج الثقافى وراحوا يحتمون بتراث الإسلام ويعيدون صياغته فى صور عصرية غير بعيدة عما بقى فى عقولهم ووجدانهم مما هضموه من الحضارة الغربية». 

ويضيف عادل: «وعندما جاء الدور على سيد قطب فعل ما فعلوه، ولكن بتطرف أكثر كعادته، لقد كان متطرفًا فى إعجابه بالحضارة الغربية إلى درجة الدعوة للعرى الكامل». 

لم يحاول عادل حمودة أن يبحث عن مقال سيد قطب، واكتفى فيما يبدو للاستسلام، كما يبدو من ظاهر كلامه، إلى حقيقة الاتهام الذى لاحق سيد قطب بالدعوة إلى العرى الكامل. 

الحقيقة التى تبدو لغزًا كبيرًا هى أن كثيرًا من الباحثين حاولوا التأكيد على أن سيد قطب لم يكتب المقال الذى بحثوا عنه فى الأهرام فلم يجدوه، فى إشارة إلى أن جماعة الإخوان وقتها أرادت أن تشوه صورة سيد قطب الذى كان يهاجم الكاتب الإسلامى عبدالرحمن الرافعى وينحاز إلى العقاد، وهو ما يشير إلى اتهام واضح للإخوان بأنهم اخترعوا المقال من الأساس. 

المفاجأة أن مقال سيد قطب موجود بالفعل، ومنشور فى جريدة الأهرام فى عدد ١٠ يوليو ١٩٣٨، وهو ما يعنى أن التاريخ الذى نشره محمود عبدالحليم كان مضللًا، وظل الباحثون يعملون فى المنطقة الخطأ، ولم يكن عبدالحليم دقيقًا أبدًا فيما قاله، لقد حاول أن يضفى هالة أسطورية على حسن البنا الذى تنبأ لسيد قطب بما سيكون عليه، فاخترع قصة من عنده. 

لأنه وطبقًا للموسوعة التاريخية للإخوان المسلمين، فإن صحف الإخوان تصدت لمقال سيد قطب ونقدته، وهو ما يظهر فى مجلة «النذير» عدد ٨ بتاريخ ١٨ يوليو ١٩٣٨ أى بعد عشرة أيام من نشر سيد قطب لمقاله. 

فقد كتب محمد حسين أبوسالم الطالب بكلية التجارة مقالًا عنوانه «النفوس الميتة» جاء فيه: 

«طلع الصيف، وكم كنت أتمنى لو طلع علينا بجديد، كم كنت أتمنى أن يكون فى حره نذيرًا يوقظ القوم من نومهم، وينبههم من غفلتهم، ويفيقهم من سكرتهم، ويذكرهم بذلك اليوم الذى تدنو فيه الشمس من الرءوس، وتتعامد على الأبدان، لا على مدار السرطان، ويلفت نظرهم إلى ذلك العرق الذى سيلجم الماجنين، ويطفو فوق رءوس اللاهين الغافلين، يوم لا توجد لدى القوم مراوح ولا مناديل، ولكن للأسف لم أرَ فيه إلا تكرارًا للمجون، وإعادة للقبح، واستزادة من المنكر، وتماديًا فى الفجور». 

«فراح القوم يفرون من المدن وضيقها، والقرى وتقاليدها، والمنازل وقيودها إلى حيث لا حسيب ولا رقيب، إلى رمال المصايف، فيسهل عليهم قتل الطهارة، ويتيسر لهم قبر الفضيلة والعفة، وإن يك صيف هذا العام قد طلع بجديد، فما ذلك الجديد إلا أن القبح يتعكَز على أدباء آخر الزمان، ويعتمد على الصحافة التى لا تتورع عن تسميم الرأى العام بأبخس الأثمان وبصورة جريئة دنيئة لم نعهدها من قبل، هأنذا أسوق المثل لما أقول». 

«تصفحت جريدة الأهرام بتاريخ ١٠ يوليه سنة ١٩٣٨، وما إن وقع بصرى على خواطر الصيف بعنوان «الشواطئ الميتة» حتى سررت وقلت: ها هى باكورة خير جديد، وها هى غيوم الغفلة واللهو بدأت تنقشع، وها هم القوم انتبهوا إلى الشواطئ وقد ماتت فيها الأخلاق، وسالت على جنباتها دماء الفضيلة، وانتهكت على صفحاتها الأعراض والحرمات». 

وما إن قرأت المقال إلا وغضبت واختنقت ودهشت وتعجبت لهذه «النفوس الميتة» التى لا تتوارى عن أن تثبت للأمة أنها أشد خطرًا على كيانها من الكوليرا أو الطاعون اللذين نعمل لهما ألف حساب وحساب، إذ إن حضرة الكاتب المسلم العظيم صاحب الفكر الخصب والرأى السديد يطلع علينا بنظرية افتقر إليها إبليس من زمن بعيد، فراح يقلقنا بعظيم مبتكراته، وسخيف مقترحاته، وفظيع نظرياته، فقال: إن الذين يتصورون العرى على الشواطئ فى صورته البشعة الحيوانية المخيفة جد واهمين. 

«إلى أن قاده الشيطان إلى قوله: فالذين يدعون إلى إطالة لباس البحر، وإلى ستر الأجسام بالبرانس إنما يدعون فى الواقع إلى إثارة الفتنة النائمة، وإيقاظ الشهوات الهادئة، وهم يحسبون أنهم مصلحون»، نعم يا مسيو سيد قطب، حاشا لأمثال هؤلاء أن يكونوا مصلحين غيورين على الفضيلة، وإلا فأمثالُك ماذا يكونون؟ وأنت أستاذ الإصلاح وحامى حمى الفضيلة، غرت عليهما، وعشت لهما، وأرسلت من أجلها صرخةً داويةً عاليةً أن أطلقوا الشواطئ عاريةً لاعبةً أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضمان للأخلاق». 

«لا أهلًا ولا سهلًا بهذه الخواطر المتشبعة بالقبح، المكدسة بالفجور، المليئة بالسخف، الخارجة على الدين، ثم لا أهلًا ولا سهلًا بهذه الآداب وهؤلاء الأدباء الذين أصبحوا فى جيد الأمة حبلًا من مسد، ولسوء حظك أيها البلد المنكود بالذين يدعون زورًا أنك زعيم البلاد الإسلامية، ويزدادون فجورًا ويقولون إن دينك الرسمى هو الإسلام فما معنى أن هذا البلد زعيم البلاد الإسلامية وفيه المنكرات أوضح من أن توصف، وأكثر من أن تعد؟ وما معنى أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام؟ وها هى الدعوة للعراء والفوضى ونقض أحكام الدين يدعو بها الكتاب بكل وقاحة، وتنشرها الصحف بكل غبطة، وتسكت عليها الحكومة بكل جرأة». 

عادل حمودة 

«ليس الإسلام يا قوم عبارات جوفاء، وأسماء ومسميات، ولكن الإسلام أحكام تطبق، وحدود تقام، وفضيلةٌ ترعى، ومنكر يحارب، وفرائض تؤدى، وحق يحفظ، أما ما عدا ذلك فهو لغو، وما أردت بكلمتى هذه أن أناقش ذلك الفوضوى المتفلسف الكاذب، ولكننى رميت إلى هدفين:

أولهما: أن أوقظ حكومةً تقول إنها مسلمة، سلم الله إليها قيادة هذا الشعب المسلم ورعايته، فغطت فى نومها، وتركت الموبقات والمنكرات تتقدم بخطى واسعة على أيدى المصلحين الغيورين على الأخلاق، أمثال المسيو سيد قطب، ولم تظهر الحكومة إلا السبات العميق مع أن المرء الذى كان يسمع خطبهم الانتخابية ووعودهم التى طلبوا ثقةَ الأمة بناءً عليها، كان يظن أن حدود الله ستقام وشريعته ستطبق فى أول ساعة تحوز فيها الوزارة ثقةَ الأمة، وها هى الشهور تمر وكتاب الله معطلة أحكامه، وسموم المنكر تسرى فى عروق الأمة.

حلمي النمنم

وثانيهما: أن أقول لهذا الشعب المظلوم إن القوم الذين أيدتهم، واعتمدت عليهم، ووثقت فيهم صاروا فى البُعد عن الإسلام ومحاربة المنكر أسبق من غيرهم فلتستيقظ أنت من نومك ليستيقظوا على صوتك، ولتعلم أنك عبدت الأشخاص كثيرًا فلتعبد ربك قليلًا، وفقدت رشدك طويلًا، فلتعد إلى الرشد، ولتدع الغفلة، ولتعمل على رفع الحق بسيف الحق، وخفض راية المنكر بجرأة المؤمن، فلن يُجديك الاعتماد على هؤلاء الزعماء إلا ضياع الوقت وخيبة الأمل».

المقال موجود، لكن ما رحلتنا للبحث عنه تجعلنا نؤكد أن موسوعة محمود عبدالحليم التى يتعامل معها الإخوان على أنها تاريخهم الرسمى، ليست إلا موسوعة مزورة فى كثير من مواضعها، كان كل هم صاحبها أن ينسج الأساطير حول حسن البنا، حتى لو كانت هذه الأساطير على حساب سيد قطب، الذى كان ينظر إليه رفاق حسن البنا على أنه أقل شأنًا من مرشدهم الأول. 

اللافت أيضًا أن حسن البنا الذى ادعى محمود عبدالحليم أنه رفض الرد على سيد قطب، سمح بالفعل بالرد عليه فى مجلة الجماعة الرسمية «النذير» لكن بخبث شديد، فعل ذلك من خلال أحد طلاب الجامعة فى إشارة إلى أن سيد قطب أقل شأنًا من أن يرد عليه أحد من قيادات الجماعة أو الأسماء الكبيرة فيها. 

الواقع يؤكد أن سيد قطب لم يكن معجبًا فى أى يوم من الأيام بحسن البنا. 

ويروى الدمرداش العقالى فى حواره المطول الذى نشرته جريدة «السياسى المصرى» فى العام ١٩٨٥ ما يؤكد ذلك، يقول: كان سيد قطب أديبًا مشهورًا قبل أن يعرفه الناس قطبًا من أقطاب الإخوان المسلمين، وهو كأديب كان يتصف بالنرجسية الشديدة واعتداده بنفسه، وقد أوقعه ذلك فى تناقض مبكر مع حسن البنا، الذى رأى فى سيد قطب أنه يتشابه معه فى صفات كثيرة أولهما أن كليهما كان «درعميًا» أى خريج كلية دار العلوم، ولكن الشيخ حسن البنا كان ينفرد عن أبناء جيله فى أنه بدأ يبنى صرحه الذى يقوم على صناعة الأفكار وصناعة الرجال، أما سيد قطب فقد كان من فريق «الوراقين» أى أنه كان يعيش فى عالم بناه من الورق، قراءة وكتابة، وربما كان اعتداده بنفسه هو الذى جعله يتحاشى التعامل مع الناس ومع الواقع، فلما رأى زميله «الدرعمى» يملأ السمع والبصر صيتًا وشهرة، كان يمقت عليه ذلك ويحسده. 

أثق فى شهادة الدمرداش العقالى هذه المرة، فهو يتحدث من أرضية العارف بما يقول، وحتى يدلل على كراهية سيد قطب لحسن البنا ومقته له، يقول: كان سيد قطب خال زوجتى وهو من قرية «موشا» التابعة لأحد مراكز محافظة أسيوط، وكان أحمد محمد موسى ابن شقيقته، وشقيق زوجتى من أتباع حسن البنا وأحد المنخرطين فى صفوف الإخوان المسلمين، وكان سيد قطب إذا جاء إلى قريته والتقى مع ابن شقيقته الإخوانى ومعه عدد كبير من رفاقه أتباع حسن البنا، كان يكثر من سباب حسن البنا أمامهم، وفى بعض المرات سمعته يسأل ابن أخته هذا: ماذا فعل بك حسن الصباح وجماعة الحشاشين؟ 

وطبقا للعقالى: كان سيد قطب كثيرًا ما يعقد مقارنات بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعة الحشاشين الشهيرة الذين كان يتزعمهم حسن الصباح، والذى كان سيد قطب يرى، فى ذلك الوقت من أواسط الأربعينات، شبهًا كبيرًا بينه وبين حسن البنا زعيم الإخوان، فكان ابن أخته حين يسمع خاله قطب يقول ذلك عن جماعته وزعيمها، يدخل فى شجار عنيف معه، لم يكن ينتهى إلا بتدخلنا لإنهائه.

وأكد أن حسن البنا كان يعرف طرفًا مما يقوله عنه سيد قطب، لكن حدث ما جعل قطب يكره حسن البنا أكثر، والرواية هذه المرة صاحبها هو الشيخ محمد الغزالى.

فى ٢٣ أكتوبر ١٩٩٣ كان الباحث شريف يونس يجرى مقابلات ميدانية من أجل دراسته «سيد قطب والأصولية الإسلامية»، ومن بين من قابلهم كان الشيخ الغزالى الذى كان يعرف سيد قطب جيدًا، وكان صديقًا مقربًا له، بل هناك من يرى أن الغزالى لعب دورًا كبيرًا وأساسيًا فى ضم قطب لصفوف الإخوان رسميًا. 

عرف شريف من الغزالى أن سيد قطب كان يقوم بتحرير مجلة «الفكر الجديد» وكان ينشر مقالًا بها، وكان يدعو فى مقالاته إلى الإصلاح الاجتماعى مستندًا إلى دعائم إسلامية، بدلًا من الدعوة إلى الإصلاح على المبادئ الماركسية التى كان يتبناها البعض. 

كان حسن البنا معجبًا بالمجلة ورأى أنها تسير فى نفس الخط الذى يدعو إليه، وهو ما جعله يرسل مقالًا يشيد فيه بالمجلة وبخطها، لكن المفاجأة أن سيد قطب رفض نشر هذه الكلمة، ربما لأنه رآه لا يرقى إلى درجة النشر فى مجلته، وعندما أرسل دعوة لقطب لينضم إلى جماعة الإخوان، وهى الدعوة التى حملها الشيخ الغزالى رفض قطب تمامًا، وهو ما جعل حسن البنا يغضب عليه، وكان طبيعيًا أن يفكر فى الانتقام منه. 

لكن كيف انتقم البنا من سيد قطب؟ 

هنا يظهر لنا كتاب فائق الأهمية كتبه المستشرق الإنجليزى ورجل المخابرات البريطانية «ج.هيوراث دن» الذى كان صديقًا لحسن البنا وسيد قطب معًا. 

فى كتابه «تحولات سيد قطب» يكشف لنا حلمى النمنم أهمية هيوارث دن وكتابه، يقول: جاء إلى مصر مطلع الثلاثينيات ليدرس التراث العربى، وتعرف على أحمد أمين وطه حسين، ثم ترك هذا المجال نهائيًا واتجه إلى جماعة الإخوان وصادق حسن البنا وارتبط به، ووصل به الأمر إلى أن اعتنق الإسلام وصار اسمه جمال الدين هيوارث دن، وتزوج من فنانة مصرية، وسعد به الإخوان، والغريب أن دن تعرف فى تلك الفترة وصادق كذلك سيد قطب، وأصدر كتابًا بعنوان «الاتجاهات الدينية والسياسية فى مصر الحديثة»، صدر فى الولايات المتحدة عام ١٩٥٠، ووقتها كان سيد قطب فى بعثته التى أوفدته فيها وزارة المعارف. 

يتحدث دن فى كتابه عن شركة الإعلانات العربية التى أسسها حسن البنا لتكون ذراعه الغليظة فى مجال الصحافة والنشر، وكانت هذه الشركة تتعرض لمنافسة شديدة من شركة الإعلانات الشرقية التى كانت مملوكة لعدد من اليهود المصريين، وقام التنظيم الخاص التابع لحسن البنا بتفجير هذه الشركة بدعوى أنها يهودية صهيونية، ويقطع كثيرون- كما يذهب النمنم- ومن بينهم «دن» أن سبب التفجير هو أنها كانت منافسة لشركة البنا، ثم يتحدث عن الطرق التى كانت تتبعها شركة البنا مع الصحف والمجلات.

يقول «دن» وهو ما نعرف من خلاله كيف انتقم حسن البنا من سيد قطب: 

«كانت شركة البنا هذه وسيلة للحصول على أكثر ما يكون من السيطرة على الدعاية العربية، وفى الواقع احتلت مكانًا مرموقًا فى العالم التجارى العربى بسبب التهديد بالمقاطعة الدينية التى قد يستخدمها الإخوان إذا لم تحصل على التعاون من قبل المؤسسات التجارية العربية والمصرية، وقد استخدم حسن البنا الشركة كأداة لإجبار بعض المجلات على الخروج من السوق، فيما إذا كانت تعتبر خطرًا عليه أو غير راغبة فى أن يشتريها، فالمجلات فى مصر لا تستطيع الوفاء بمدفوعاتها، ما لم تحصل على نصيب كافٍ من الدعم من المؤسسات التجارية من خلال الإعلانات وخصوصًا تلك المجلات التى ليس لديها سوى رأس مال صغير». 

وقد استخدمت تلك المناورات ضد سيد قطب محرر مجلة «الفكر الجديد» الذى كان يكتب مقالات عن الإصلاحات الاجتماعية على أسس إسلامية، وقد اتصل ممثلو الإخوان بالمحرر وزملائه عدة مرات بناءً على تعليمات من حسن البنا لاستمالتهم على أساس أن عملهم هو نفس ما يريد الإخوان عمله، وأنه لا مجال هناك للمنافسة، وأدى رفض سيد قطب الامتثال لمطالبهم إلى مقاطعة أدت إلى عدم استطاعة أصحاب المجلة بيعها من خلال القنوات العادية، وفى النهاية أغلقت المجلة أبوابها بسبب حصار حسن البنا لها. 

وحتى يؤكد حلمى النمنم صدق ما ذهب إليه دن يقول: صدر كتاب دن بالولايات المتحدة، وكان دن هناك وكذلك سيد قطب، وكانت الصداقة لا تزال قائمة بينهما، وهذا يجعلنا نفترض أن سيد قطب لا بد قرأ الكتاب، ولو أنه اعترض على ما ورد فيه بخصوصه وما فعله معه حسن البنا لعبر عن ذلك وما سكت عنه. 

ما قرأته يجعلنى أذهب إلى أبعد مما ذهب إليه حلمى النمنم، فسيد قطب لم يصمت على ما ذكره دن عن الصراع بينه وبين حسن البنا لأنه كان حقيقيًا فقط، بل إن قطب قد يكون هو من روى له الحكاية كلها، أى أنه كان مصدرها، وهو ما جعله يصمت عليه دون أن يفندها أو يعلق عليها. 

لم يكن هذا هو كل شىء بين سيد قطب وحسن البنا، فلا يزال هناك ما يمكن أن يدهشك؟ 

لقد فكر التنظيم الخاص التابع لحسن البنا مباشرة فى اغتيال سيد قطب، والرواية هذه المرة سنجدها فى كتاب «أهم الكتب التى أثرت فى فكر الأمة فى القرنين التاسع عشر والعشرين»، وهو الكتاب الذى أعده عدد من الباحثين وقدمه جمال البنا. 

فى مقدمته قال جمال إن سيد قطب قبل مبايعته لجماعة الإخوان كانت له كتابات ضد الجماعة استوجبت عزم التنظيم الخاص للجماعة على تصفيته، وحين علم المرشد حسن البنا رفض هذا التفكير، وأخبر المتحمسين أن كتابة سيد قطب ضد الجماعة لا تعتبر عداوة بل جهل منه بحقيقة الإخوان، وقال لهم: إنه يشعر بقرب انضمام سيد قطب إلى الجماعة ولسوف يصبح أحد جنودها المخلصين. 

ما يرويه جمال البنا هنا ليس إلا بعضًا من الخيال، فلم يقل أحد غيره من الإخوان ما قاله ولم يقره، ثم إن سيد قطب بالفعل لم تكن له كتابات ضد الجماعة حتى يؤاخذه التنظيم الخاص عليها، لكن يبدو أن جمال البنا كان يريد إضفاء حالة من القداسة على شقيقه الذى لم يدخل جماعته، لكنه ظل يدافع عنه وينحاز إليه لأنه فقط شقيقه. 

جرت هذه الوقائع- ما صح منها وما تمت فبركته- قبل أن يذهب سيد قطب فى بعثته إلى الولايات المتحدة، وهو ما يعنى أنه ذهب وهو كاره لحسن البنا، وهو ما ينفى تمامًا ما يردده الإخوان عن دوافع سيد قطب للانضمام إلى الجماعة. 

ورغم ذلك كله إلا أن سيد قطب انضم إلى جماعة الإخوان التى كان مرشدها الذى يكرهه ويمقته هو مرشدها الأول، فكيف حدث هذا؟ 

لن أذهب كثيرًا إلى ما قاله الآخرون، سأكتفى بما قاله سيد قطب نفسه فى الوثيقة الشهيرة التى كتبها بخط يده، وهو يحاكم فى قضية تنظيم ٦٥، وصدرت بعد ذلك فى كتيب أطلقوا عليه اسم «لماذا أعدمونى؟». 

يقول سيد قطب: لم أكن أعرف إلا القليل عن الإخوان المسلمين إلى أن سافرت إلى أمريكا فى ربيع ١٩٤٨، فى بعثة لوزارة المعارف، وقد قتل حسن البنا وأنا هناك، ولقد لفت نظرى بشدة ما أبدته الصحف الأمريكية، وكذلك الإنجليزية التى كانت تصل إلى أمريكا من اهتمام بالغ ومن شماتة وراحة واضحة فى حل جماعتهم وضربها فى مقتل وفى قتل مرشدها، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب فى المنطقة وعلى ثقافة العرب وحضارتهم معًا، وصدرت كتب بهذا المعنى سنة ١٩٥٠، أذكر منها كتابًا لجيمس هيوارث دن بعنوان «التيارات الدينية والسياسية فى مصر الحديثة»، كل هذا لفت نظرى إلى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربى». 

«قبل ذلك كنت قد أصدرت كتابى (العدالة الاجتماعية فى الإسلام) سنة ١٩٤٩، مصدرًا إياه بإهداء يقول: إلى الفتية الذين كنت ألمحهم بعين الخيال قادمين، فوجدتهم فى واقع الحياة قائمين، يجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، مؤمنين فى قرارة أنفسهم، أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، إلى هؤلاء الفتية الذين كانوا فى خيالى أمنية وحلمًا، فإذا هم حقيقة وواقع، حقيقة أعظم من الخيال، وواقع أكبر من الآمال، إلى هؤلاء الفتية الذين انبثقوا من ضمير الغيب كما تنبثق الحياة من ضمير العدم، وكما ينبثق النور من خلال الظلمات، إلى هؤلاء الفتية الذين يجاهدون باسم الله، فى سبيل الله، على بركة الله أهدى هذا الكتاب، ففهم الإخوان فى مصر أننى أعنيهم بهذا الإهداء، ولم يكن الأمر كذلك، ولكنهم من جانب تبنوا الكتاب واعتبروا صاحبه صديقًا، وبدأوا يهتمون بأمره». 

«فلما عدت فى نهاية عام ١٩٥٠ بدأ بعض شبابهم يزوروننى ويتحدثون معى عن الكتاب ولم تكن لهم دار لأن الجماعة كانت لا تزال مصادرة، واستغرقت أنا فى عام ١٩٥١ فى صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الأوضاع الملكية القائمة والإقطاع والرأسمالية وأصدرت كتابين فى الموضوع غير مئات المقالات فى صحف الحزب الوطنى الجديد والحزب الاشتراكى ومجلة الدعوة التى أصدرها الأستاذ صالح عشماوى ومجلة الرسالة، وكل جريدة أو مجلة قبلت أن تنشر لى بلا انضمام لحزب أو جماعة معينة وظل الحال كذلك إلى أن قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢». 

«ومرة أخرى استغرقت كذلك فى العمل مع رجال الثورة حتى فبراير سنة ١٩٥٣ عندما بدأ تفكيرى يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها وحول مسائل أخرى جارية فى ذلك الحين، وفى الوقت نفسه كانت علاقاتى بجماعة الإخوان تتوثق باعتبارها فى نظرى حقلًا صالحًا للعمل للإسلام على نطاق واسع فى المنطقة كلها بحركة إحياء وبعث شاملة». 

«وكانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة انضمامى بالفعل سنة ١٩٥٣ إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومع ترحيبهم- على وجه الإجمال- بانضمامى إلى جماعتهم إلا أن مجال العمل بالنسبة لى فى نظرهم كان فى الأمور الثقافية لقسم نشر الدعوة ودرس الثلاثاء والجريدة التى عملت رئيسًا لتحريرها وكتابة بعض الرسائل الشهرية للثقافة الإسلامية، أما الأعمال الحركية كلها فقد ظللت بعيدًا عنها». 

لم يكن سيد قطب صادقًا فيما قاله عن انضمامه للجماعة. 

لقد حاول أن يرسم لنفسه صورة طيبة لدى أبناء الجماعة، بعد أن خسر تمامًا أى فرصة له عند رجال الثورة، فحاول أن يسهم فى رسم صورة أسطورية عنه وعن حسن البنا، وكان طبيعيًا أن تدعى الجماعة بعد ذلك أن سيد قطب وجد أن الصحف الأمريكية احتفت احتفاءً كبيرًا بمقتل حسن البنا، بل إنه رأى فى الشوارع احتفاء وشماتة فى موت حسن البنا، وهو ما جعله يلتفت إلى دعوة مرشدهم. 

وهنا لا بد أن نفتح من جديد كتاب محسن محمد «من قتل حسن البنا؟» الذى يؤكد أن الصحافة الإنجليزية الأمريكية لم تبد اهتمامًا كبيرًا بحل الجماعة ولا باغتيال حسن البنا، ونشر الاغتيال كخبر عادى فى بعض الصحف، بل إن إحدى الصحف الإنجليزية نسبت اغتيال البنا إلى التنظيم الخاص بالجماعة، انطلاقًا من أن البنا كان يتفاوض مع الحكومة على إعادة الجماعة بكل أنشطتها مقابل أن يسلم الحكومة قائمة بأعضاء التنظيم الخاص وأسلحته، وأن التنظيم قرر استباقه واغتياله. 

وعند «هيوارث دن» فى كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسية فى مصر الحديثة» نقرأ: غضبت الصحف وبعض الجهات الأمريكية لحل الجماعة واغتيال البنا، فقد كانت الجماعة فى نظر الولايات المتحدة هى الكيان المؤهل فى مصر لمقاومة الشيوعية ومنع دخول السوفييت إلى مصر، ومن ثم إلى بلاد المنطقة.