الأحد 13 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مقامات الغضب.. النسق الدرامى والسرد الناقد

حرف

- يتقاطع الخطاب السردى فى رواية مقامات الغضب مع فن المقامات

- الكاتبة أجادت الصياغة السردية فى توز يع البث الحكائى بين عدد من الأصوات

- «فيس بوك» واحد من وسائطى العديدة لامتصاص طاقة الآخرين

- بين ذراعيها شعر بأنه قبض على الريح وبداخلها شعر بأنه ملك هذا الزمان 

تدخل الكاتبة صفاء النجار فى روايتها، مقامات الغضب «الدار المصرية اللبنانية، 2024» فى سرد أبرز التحولات الاجتماعية والسياسية، وكذلك التقنية التى مرت بها مصر بخاصة والعالم، لاسيما فى العقدين الأخيرين، فيتشابك فى سردها الذاتى بالجماعى، ليحمل خطابها السردى نوعًا من النقد الاجتماعى عبر رؤية شخوصها لواقعهم وتحليلاتهم للمتغيرات الحادثة، فكان اعتماد الكاتبة على أسلوب تعدد الرواة تأسيسًا لنسق درامى يقوم على تنوع الأصوات الساردة للأحداث ملائمًا لتقصُّد الخطاب السردى استيعاب زخم من الأحداث وعرض وجهات نظر متعددة حول ما طرأ على المجتمع المصرى والعالم من تحولات كبرى كثورتى الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 فى مصر.

ولا يقتصر الخطاب السردى فى رواية مقامات الغضب فى استيعابه التغيرات الحادثة على التعرض للأحداث المفصلية الكبرى فى تاريخ مصر فى جوانبها السياسية والاجتماعية وحسب وإنَّما يتجاوز ذلك بهضم التغيرات التقنية فى أسلوب الحياة فى أحشاء السرد وسريانها فى أوردة الحكى، ما يجعل نصًا مثل هذا، رواية مقامات الغضب، بمثابة وثيقة تاريخانية جمالية تستوعب حركة الحياة والتحولات العصرية كاعتماد الذوات، بشكل أساسى، على وسائل التواصل الاجتماعى حد استغراقها لهم.

شعرية العنونة وهندسة السرد

يحمل عنوان الرواية وعناوين أقسامها الفرعية دلالة متعددة المدلولات، حيث العنوان الرئيسى للرواية، مقامات الغضب، الذى يستدعى على مستوى تقنى فن كتابى تراثى، هو فن «المقامات»، هذا الفن النثرى الذى ظهر فى العصر العباسى وتشكَّل من قالب سردى قصصى، يدور موضوعه حول بطل مراوغ أو محتال، مع نهوض المقامات على نقد اجتماعى، فضلًا عن شمولها استخلاصات قيمية وتوجيهًا أخلاقيًّا وقيمًا، إضافةً إلى أسلوبها البلاغى المعتمد على إظهار كتَّابها مهاراتهم اللغوية وقدراتهم التصويرية وتوظيفهم البلاغى للغة باستعمال أدوات متعددة، مثل التشبيه والاستعارة والجناس والكناية والسجع وغيرها. كما يستدعى هذا العنوان «مقامات» الدلالة الصوفية القائمة على عملية الذات فى مكاسبها بالترقى مرورًا بمنازل روحية وصولًا إلى غاية أسمى وهى الله. 

وبالفعل يتقاطع الخطاب السردى فى رواية مقامات الغضب، مع فن المقامات، فى قيامه موضوعًا على النقد الاجتماعى لأحوال مصر بعد تغيرات اجتماعية وسياسية، بعد ثورتى الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، والثلاثين من يونيو ٢٠١٣، كما يتقاطع بناء الرواية القائم على أقسام أربعة معنونة بتركيب إضافى يتكون من كلمتين؛ الأولى: مقامات مضافة إلى أربع كلمات «المغامرة- الحيرة- الترقب- الترحال»، وكل جزء من الأجزاء الأربعة «المقامات» تتخلله فصول تسردها أصوات الحكاية، وهو ما يتواشج دلاليًّا مع المعنى الصوفى للمقامة، حيث المرور بمنازل وصولًا لغاية ما، فكأن حالة الغضب التى تسرى بالذات تمضى بها من المغامرة إلى الحيرة التى تدفع إلى الترقب ما يفضى فى النهاية إلى الترحال، الذى قد يعنى الرحيل الجسدى كما فى رحيل الجد فى حادث أثناء سفرته إلى المنيا، أو انفصال «أروى» عن زوجها «فادى»، ورحيلها عنه.

ويعتمد التكوين السردى للبنية الروائية على أسلوب تعدد الأصوات الساردة، حيث ثلاث شخصيات تسرد بشكل متواتر فى أبواب الرواية/ المقامات الأربعة هى: «أروى» الابنة/ «سلوى» «الأم»/ «يسرى صالح» «الجد»، وتأتى الثلاث شخصيات بنفس الترتيب فى الأبواب الثلاثة «المقامات الأولى» من الرواية، ثم ينعكس ترتيبها فى الباب الأخير «مقام الترحال»، فيبدأ بفصل يسرد فيه يسرى صالح سفرته إلى بلدته فى محافظة المنيا بصعيد مصر التى تنتهى برحيله صريعًا، ثم «سلوى» التى تنعى أباها، وتختتم الرواية بفصل تسرده «أروى» كما استهلت بفصل من سردها أيضًا، فى بنية دائرية للسرد، تبدأ بصوت «أروى» وتنتهى بها، ربما لأنَّها تحمل طاقة الغضب الأوفر بين شخصيات الرواية، وفى البابين «المقامين» الأوسطين الثانى «مقام الحيرة»، والثالث «مقام الترقُّب»، ثمة فصلان يسردهما صوتان يمثلان شخصيتين متقابلتين حدًا ما، هما «فادى» فى رابع فصول الباب الثانى، مقام «الحيرة» و«على قنديل» الداعية الدينى العصرى فى خامس فصول الباب/ المقام، والعكس فى الباب الثالث «مقام الترقُّب»، حيث يسرد صوت «على قنديل» فصله الرابع، ويسرد صوت «فادى» فصله الخامس.

ويبدو أنَّ هندسة الرواية بتعدد الأصوات الساردة تقيم منظورها وتبث وجهة النظر عبر أصوات تنتمى لأجيال مختلفة بين الجد اللواء يسرى صالح، الذى يمثل جيلاً قديمًا، والأم سلوى التى تمثِّل جيل الوسط، والابنة أو الحفيدة «أروى» التى تمثل جيل الشباب الحامل طاقات الغضب الهادر، أما «فادى» و«على قنديل» فيمثلان قطبين بالكاد متقابلين، من حيث النشأة والجذر الاجتماعى والاختلاف العقائدى، ثم يلتقيان حيث يبلغ على قنديل بفضل عمله الدعوى فى «الميديا» ثراء ومكانة اجتماعية ترتقى به طبقيًّا لتعادله بفادى الذى خرج من أصل اجتماعى راق وميسور الحال، كما يتلاقى «فادى» مع «على قنديل» باعتناقه الإسلام؛ ليتمكن من الزواج بأروى، وكلاهما يتقاطعان فى علاقتهما الإشكالية بأروى ارتباطًا وانفصالًا. 

تعدد الأصوات والتداعى السردى

تعمل تقنية تعدد أصوات الساردين فى البنية الروائية على تقديم وجهات نظر متعددة بتمايزات الشخوص أبطال الحكاية، لتؤسس لبنية بولوفونية قائمة على تنوع رؤى الشخصيات بعضها نحو الآخر، وكذلك تجاه المواقف والأحداث، ما يدعِّم التقابلات والتمايزات الرؤيوية للخطاب الروائى ويرفع من درجة التوتر الدرامى للسرد، تمثيلًا للواقع بتنوعات الأفكار ووجهات النظر الحادثة فيه.

وفى مقطع دال من الفصل الأول من باب الرواية الأول، «مقام المغامرة» الذى تسرده «أروى» تحكى عن علاقتها الشائكة بأمها:

كل دروس التنمية الذاتية لم يستطع أن تغير علاقتى بماما، دائمًا هناك اعتراض منها على شىء، ودائمًا هناك طلب منى لشىء، أى منا لم يتغير رغم تجاوزى مرحلة المراهقة.. الخلافات المتكررة، تستنزف طاقتى، أهرب لسريرى، أهرب لشاشتى الصغيرة، الفرق الموسيقية الجديدة، العالم يتجه شرقًا لليابان، لكوريا، الشجار لا ينتهى بينى وبين ماما حتى إنى أسميها «السيدة التى تقيم فى الغرفة المجاورة»، أحاول أن أبتعد بعالمى عنها، بالصراخ، بالمراوغة.. لكن أعود وأحتاج إليها، علاقتنا باليومية، بالقطاعى. تتهمنى بالسطحية، بالتسرع، هذه حقيقة، لكنى لا أراها صفة سلبية، من يريد العمق؟ من يريد هذا الحكمة فى زمن اللاعقل؟ «ص١٢».

يكشف سرد الابنة «أروى» عن أمها توتر العلاقة بينهما، وتسفر فى الوقت نفسه عن العوالم التى تستغرق جيل الشباب كالشاشة الصغيرة، تقصد الهواتف المحمولة، وسيلة ميديا هذا العصر، كملاذ ذاتى يستغرق الفرد ويحتويه، كما تكشف أيضًا عن نمط فنى سائد يفضله هذا الجيل، وهو الفرق الموسيقية، كأسلوب فنى يلبى رغبة الجيل الشاب فى شكل فنى يحقق قدرًا من جماعية تعبيرية فنية ربما يفتقدونها فى الواقع. ويأتى مختتم هذا المقطع موظِّفًا بلاغة التساؤل الاستبعادى والاستنكارى المتولِّد عن حكم الأم على الابنة بالسطحية والتسرُّع: «من يريد العمق؟ من يريد هذا الحكمة فى زمن اللاعقل؟» بالانتقال من حالة خاصة تتمثل فى توترات علاقة الابنة بأمها، إلى حكم استخلاصى على عصر يفتقد العمق والحكمة وزمن بلا عقل، فثمة تداعٍ سردى من سرد الحوادث الجزئية إلى إطلاق الأحكام الكلية واستخراج القواعد العامة.

وفى المقابل يأتى سرد صوت الأم فى الفصل الثانى من الباب الأول، «مقام المغامرة»، عن ابنتها «أروى» مختلفًا بعض الشىء عن سرد ابنتها عنها:

«وجاءت أروى نسخة منى، جمالها، هدوءها، التعبيرات نفسها التى كانت تقال عنى دى رومية، تعالى يا قطة، كل يوم تزداد ملامحها اقترابا منى ويكبر التصاقها بى». (ص٣٠).

يتبدى تأثير عاطفة الأمومة على شخصية «سلوى» كصوت سردى يحكى عن الابنة فى تمثُّل الأم لمشابهتها لها، بما يعكس طبيعة الأم الحانية وغريزتها المُحِبَّة لابنتها، وكذلك الطبيعة الاحتوائية لجيل الأمهات فى مقابل توتر جيل الأبناء واشتعالهم غضبًا وجموحهم المارق أحيانًا.

وفى موقف دال لعلاقة الابن «شريف» بأمه «سلوى»، تبرز الصياغة السردية عبر مبادلة حوارية انتهازية الابن وابتزازه أمه:

- أريدك أن تشاركينى، ونشترى ١٠٠ بيتكوين بحوالى ٦١ ألف دولار.

- هل تعلم معنى ٦١ ألف دولار؟ 

- سيتضاعف يا ماما، من عشر سنين كان كل ١٠٠٠ بيتكوين بدولار، حاليًّا، البيتكوين الواحد بـ٦١٠ دولارات.

- شريف، أنا لا أفهم فى ما تتحدث عنه، ماذا تعنى عملة إلكترونية؟ مين يضمنها؟ ثم إنَّنى لا أستطيع أن أطلب من جدك؟ 

- أنا لا أريد شيئًا من جدى، من حسابك يا ماما، حسابات الدولار؟ حسابات تقييم الآثار، أنا أحتاج تحويلًا واحدًا من حساباتك بالدولار. 

نظرت له؛ يتحدث بنبرة لا تخلو من تهديد، ضغط، نبرة ليس فيها بنوة أو استعطاف.. صوت ند، وليس تحنان ابن وأم. 

منذ الليلة الأولى لميلاد «شريف»، أخذته حماتى، نام فى حضنها، وأنا نمت بجوار سامر فى سريره، كأنَّ شيئًا لم يحدث، كأنى كنت أمثل، كأنَّ شهور حملى لم تكن حقيقة، كأنى ذهبت للمستشفى وعدت من قسم التجهيزات والهدايا بعروسة بلاستيكية.

(...) من أى عبء كنت أتخلص؟ لم أكن أتخلص من أى عبء، لم تكن الأمور واضحة لى، لم أفكر فى الأمر، روحى وعقلى كانا مساحة بيضاء خالية من أى ظلال لشك أو خوف أو لهفة، مساحة ساكنة ليست لافحة حارة ولا باردة ثلجية، بيضاء وفقط ليس فيها ما يؤذى أو يجرح أو يفاجئ، دون معنى للأشياء، دون دلالات، دون حساب للخطوة والخطوات التالية، لم أتشبث به ولم يتشبث بى، لم يرضع الصغير منى. «ص٨٠- ٨١».

يستوعب السرد فى الحكاية فى رواية مقامات الغضب السيولة العولمية فى أساليب الحياة والانفتاح المتواتر على قنوات العصر، كما فى تداول عملة إلكترونية عالمية مثل «البيتكوين» كأسلوب للمضاربات المالية فى امتداد أرجاء العالم، فى طفرة رقمية فى وسائل العيش الإنسانى، وجلاءً لنمط ناشئ يمثِّل وجهًا من وجوه الاقتصاد العالمى الجديد القائم على المضاربات المريبة والعامل على تدوير الفرد فى أى مكان فى العالم فى عجلة الاقتصاد العالمى الجديد والسعى إلى الدوران فى فلك منظومته.

وثمة ارتدادة، فى تداع سردى، من الحوار الذى دار بين الأم «سلوى» والابن «شريف»، إلى استعادة الأم اللحظات الأولى لعلاقتها بابنها عقب ولادتها له، وانتزاعه منها، تلبية لإملاءات حماتها، ليكون بمثابة تفسير للعلاقة الآنية بين الأم وابنها التى تقوم على انتهازية الابن ونفعيته وسعيه الدائم إلى استغلال مادى لأمه، ثم ينتقل الصوت السارد، صوت الأم، «سلوى»، من اجترار ذكرياتها فى بواكير علاقتها بابنها، فى «مونولوج» تقوم الذات عبره بمساءلة نفسها: «من أى عبء كنت أتخلص؟ لم أكن أتخلص من أى عبء»، فيبدو التساؤل ثم إجابته بالنفى، فى تمديد لغوى يتكرر من خلاله عبر جملتى الاستفهام والنفى عدد من الكلمات، مثل: «الاسم عبء/ فعل الكينونة مثبتًا: كنت ومنفيًّا: لم أكن/ الفعل أتخلَّص» فى تدوير لعناصر التركيب لجملة الاستفهام فى جملة النفى، وكان يمكن للتلفُّظ السردى أن يستهل الفقرة بجملة النفى مباشرة دون الجملة الاستفهامية، ولكن هذا التدوير لعنصرى العبء والتخلص، يعكس ترددات الذات النفسية ومساءلتها نفسها فى تشكيل إيقاعى للتلفظ السردى يجسِّد إيقاعات التردد النفسى والتوتر الذى تعيشه الذات عند اجترارها ماضيها حين ترتد إليه من حاضرها الآنى الموجع لتعود إلى جذور مآسيها.

وبقدر ما أجادت الصياغة السردية فى توزيع البث الحكائى بين عدد من الأصوات تمثَل أجيالًا مختلفة وتنوعات عديدة على أساس جنسى واجتماعى وعقائدى، فقد كان يحسن أن يسمح السرد لشخصية «سامر» الزوج السابق لـ«سلوى» بأن يكون صوتًا من أصوات الحكى، ما يزيد درجة التوتر الدرامى.

نقد الواقع الاجتماعى وتحولاته

من مدارات الخطاب السردى فى رواية مقامات الغضب، ما يدخل بالسرد فى نظاق نقد الواقع الاجتماعى والتحولات التى طرأت على المجتمع فغيرت شكل ونمط الحياة، وهو ما يبرز بشكل أكبر عبر صوت الجد، «يسرى صالح»، لواء الشرطة المتقاعد الذى يعمل بعد تقاعده فى المحاماة، فتبدو حدقة الجد الناقدة للواقع مرآة لنقد التحولات الاجتماعية، كما يظهر من حديثه عن المكان الذى اعتاد ارتياده منذ زمن بعيد، بمقهى عريق بوسط العاصمة المصرية، «القاهرة»:

جلست تحت أكبر شجرة، فى مواجهتى تجسمت الواجهة الخلفية، بناء ستينى من الجص الأبيض، التصميم معتاد ومنتشر يشى بانضباط وتقشف روحى، والوحدات الزخرفية، مجرد تكرارات تشغل الفراغ ولا تملأه، يكفى أن تتأمل وحدة واحدة لتعرف شفرة بقية الوحدات، وحدة واحدة تكفى، ضعف وفقر فى الخيال، حتى تنفيذها بمجرد قليل من الانتباه تدرك أنَّها مصبوبة فى قوالب، فلا دفء أصابع مستها، ولا روح نفخت فيها، فظلت جمادًا يؤكد الفراغ.. أين اختفت أشجار اللبلاب التى كانت تنتشر على الجدار وتتمدد معها الحياة فتغطى كل ما هو ميت أو زائد من مواسير الصرف، والطلاء المقشر، وتجاعيد الأيام. 

جاءت النادلة، شابة قصيرة القامة، وجهها شاحب، مرهق، مجدب من تراكمات الشقاء والحاجة المعنوية والنفسية، شعر هائش، تجمعه للخلف وتربطه ذيل حصان فتتناثر أطرافه المقصفة التى تعانى من هشاشة تعكس نقصًا فى المغذيات الضرورية، ويصبح قصر القامة لا علامة أنوثة واكتناز، لكن دلالة فراغ وحالة تخوخ. عندما اقتربت ظهر لى خط الشعر المتراجع عن الجبهة، وانتشرت رائحة نفاذة فضحت مع اللمعة العاكسة رداءة ماركة الكريم الذى تستخدمه الفتاة.

ما هذه الفوضى؟ كيف ظهر هؤلاء؟ «ص١٦٤».

بقدر ما يحمل هذا المقطع المبثوث عبر صوت الجد «نوستالجيا» هذا الرجل لجمال شكلى طبيعى، ممثل فى أشجار اللبلاب التى كانت تغطى على الثغرات الشائهة فى شكل المكان، فهو يرصد أيضًا انعكاس الحالة العامة لمظهر أبناء جيل شاب تتوازى مع تراجع الذوق الاجتماعى وافتقاد لأناقة فى المظهر الخارجى للأشخاص كما هى مفتقدة فى الأماكن، فتبدو الوظيفة النقدية من الأدوار التى يؤديها الخطاب السردى فى هذه الرواية، كما تبدى فى تحوُّل وصف الجد للمكان وإحدى العاملات فيه، إلى مرثية مشمولة بالتحنان إلى زمن ولى وأسف آسيان إزاء زمن حاضر يعم فيه القبح والتشوُّه الأماكن والشخوص.

السرد كاجترار سيكولوجى

مما يستبطنه السرد من تتبع مسار الحكى لأفعال الشخوص استجلاء دواخلهم وبيان البواعث النفسية لأفعالهم، فيستبطن سرد الحدث علله السيكولوجية، أو قد يجلى السرد الآثار النفسية الناجمة عن الحدث، فيسعى السرد إلى كشف العلاقات التبادلية بين الفعل أو السلوك ودوافعه النفسية.

فى مقطع سردى دال، يكشف صوت «أروى» عبر ممارسة شخصية عن جوانب نفسية لشخصيتها، فيما تقوم به على حساباتها المتعددة على موقع «فيس بوك»:

«فيس بوك» واحد من وسائطى العديدة لامتصاص طاقة الآخرين، لى على فيس بوك أكثر من حساب لا أتذكر عددها، واحد فقط يحمل وجهى الحقيقى، البقية بأسماء وصور تعبيرية مختلفة، أجرب واقعًا غير واقعى، ذاتًا غير ذاتى، أتبنى آراء مناقضة لآرائى، ألف وجه أرتدى وأنا أراقب الآخرين، كأنَّهم فئران فى تجربة، أركز على شخص بعينه أراسله بشخصياتى المتنوعة وأراقب رد فعله على حالاتى، يسلينى الأمر كثيرًا، أختبر قدراتى التمثيلية، أشحذ همتى فى التلون والتخفى، حرباء بألف لون، دون حقيقة لى، أقتبس مقولات الآخرين، ألبس رأى هذا برأى ذلك، كلمة من هناك وإشارة من هنا، أحيانًا أتوه ولا أعرف من أنا، فأعود لمخططاتى الصغيرة كأنها ورقة «البرشام» التى أغش بها فى الامتحان.

فى الفضاء الإلكترونى قاعدتى هى كسر القواعد والقوانين، حيث لا جاذبية ولا روابط، ذاتى تتملص من ذاتى، والفرصة سانحة للكر والفر، أرتدى وأخلع كل الأقنعة وقتما أريد، أعلق ذواتى على شماعة الظروف، على الفيس تتنوع ذواتى.. ذات زاحفة، طائرة، ثابتة كشجرة الكافور التى تطل عليها غرفتى.

فى الصباح أفتح دولابى وأنتقى ما يناسب اليوم من ألوان ذاتى، وفقًا لحالة الطقس والمكان الذى سأذهب إليه: ذات العمل رمادية، ترتدى نظارة سوداء أو زرقاء، ذات عملية سريعة، متعاونة، قادرة على حل المشاكل، يغبطها الجميع على نشاطها. 

ذات «النادى»: حمراء برتقالية مع مسحة خضراء أو صفراء وضحكة مجللة، أخوة وحنان وتفاهم وتعاطف ومساندة للأطفال الصغار وتشجيع لهم حول «البسين»، لكنى سأغضب، وسأرفض بشدة أن تخاطبنى ابنة البواب فى برج «قصر العينى» وهى تفتح لى باب الأسانسير: «تفضلى يا طنط». «ص١٣١- ١٣٢».

يجلى الخطاب السردى الوشائج الرابطة بين التغيرات التقنية فى أساليب الحياة وسلوك الذوات النفسى بأثر مثل هذه التغيُّرات الناشئة، كما فى إبراز دور مواقع التواصل الاجتماعى، «ميديا العصر»، فى تشكيل الذات المستغرقة فى استعمالات هذه الوسائل التقنية، حيث ترتدى الذات أقنعة على غير حقيقتها فى حضورها على مواقع التواصل الاجتماعى، ما يكشف عن دور مثل هذه الوسائط التقنية، من مستحدثات العصر فى إعادة تنميط الشخصية وتشكيل الذات الإنسانية، ذاتًا منشطرة، متقنعة، تتخفى وراء أقنعتها استغراقًا فى عوالم الشبكة الزرقاء الممتدة، ما يجعلها ذاتًا متوهمة، زائفة الحضور. 

ويمضى التداعى السردى من تناول تقنُّعات الذات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعى إلى إبراز تعدد شخصياتها فى الواقع، كما فى تنويعها لملابسها حسب الوسط الذى توجد، وتفاوت تعاملاتها مع الآخر، وكأنَّ هذا التعدد فى حالات الذات فى الواقع يرتبط بوشيجة مضمرة بانقساماتها الحادثة بأثر تعدد أقنعتها فى الفضاء الافتراضى الذى بات يستلب الذوات وينسخها وينمط سلوكياتها وفقًا لإملاءات السائد أو الرائج فيه، «الترند».

وفى وصف الصوت السردى لتقلبات الذات بما ترتديه من أقنعة عبر الفضاء الافتراضى، «فيس بوك»: «ذات زاحفة، طائرة، ثابتة كشجرة الكافور التى تطل عليها غرفتى»، ثمة ثلاثة أوصاف للذات تأتى متتابعة دون حرف عطف: «زاحفة، طائرة، ثابتة» ما يعكس سرعة وحدة تقلبات الذات وتبدلاتها الحالاتية، كما تعكس استعارة فى وصف الذات لنفسها حال الثبات: «ثابتة كشجرة الكافور التى تطل عليها غرفتى» عن إحساس الذات بالرسوخ، وكذلك مركزية الذات فى قياسها معطيات عالمها وحالاتها الشعورية.