بحر لا ينشق.. عزف منفرد على أوتار خفية

فى مجموعته القصصية «بحر لا ينشق»، ينطلق عبدالله محمد من فهم للقصة القصيرة بوصفها ذلك العزف المنفرد على أوتار خفية، بوصفها نوعًا من الموسيقى التى تمنح اليومى والمعتاد دهشته، وصلاحيته بالأساس لأن يحكى.
هناك لعبة، واتفاق ضمنى بين الكاتب وقارئه. هناك أحجيات، يمكنه بقراءات متنوعة أن يستكشفها، كما استكشفتُ، مثالًا، إعلان عبدالله الصريح عن انتمائه إلى يحيى الطاهر عبدالله، من آباء القصة العظام، الذين ينتمى إليهم بتفاوتات متنوعة.

يبدو ذلك واضحًا جدًا من نص الدخول «الاختيار» الذى خلا للمفارقة من الحدث «بنية القص المركزية»، ولم يتجاوز حدود الديالوج، ولكنه ديالوج يشبه «الرقصة المباحة» عند يحيى الطاهر، فيما لا تخلو «الانتظار»، ثانى قصص المجموعة، من وشائج قربى يمكن استنباطها مع «أنا وهى وزهور العالم».
إن عنوان مجموعة عبدالله محمد، التى صدرت عن دار المرايا، قد يوحى بالتناقض، فبينما تستدعى الذاكرة الدينية معجزة انشقاق البحر، فإن الكاتب هنا يقلب التوقعات، ليحيلنا إلى بحر ثابت لا يسمح بالخلاص، بحر لا يخضع لإرادة البشر، بل يفرض قوانينه عليهم. ومنذ البداية، يُشعر العنوان القارئ بثقل المصير، وكأن الشخصيات محاصرة داخل واقع غير قابل للتغيير، أشبه بسجن مائى لا منفذ للخروج منه.
وتتكون المجموعة من عدة قصص، لكل منها عالمها الخاص، لكنها جميعًا تتلاقى عند فكرة مركزية: الإنسان فى مواجهة حدود قدره. فتأتى قصة «الاختيار» كمثال بارز على ذلك، حيث يتوهم البطل أنه يمتلك حرية اتخاذ القرار، لكن كل خياراته تقوده فى النهاية إلى نفس النتيجة المحتومة، وكأن الحياة ليست سوى مسار مغلق مهما بدت مفترقاته متنوعة. يذكرنا هذا الطرح بالوجودية الحديثة، حيث يكون الاختيار مجرد وهم أمام سطوة الظروف الخارجية.
أما فى «الانتظار»، فالمفارقة الزمنية حاضرة بقوة. القصة لا تسير وفق نسق تقليدى، بل يتمدد الزمن ويتقلص وفق إحساس الشخصية بالوقت. الانتظار هنا ليس مجرد لحظات تمر، بل هو جوهر التجربة الإنسانية، حيث تذوب الحدود بين الأمس والغد، ويصبح الزمن نفسه سجنًا إضافيًا. هذه القصة تتماهى مع عنوان المجموعة، إذ إن البحر الراكد هنا ليس مجرد استعارة مادية، بل هو كناية عن الثبات القاتل للزمن.

وفى «الساعة» تتأكد تيمة الزمن فى ألعاب الزمن النوعى بين لحظة آنية ولحظة مستعادة، حيث نجد الشخصية الرئيسية عالقة داخل دائرة زمنية مغلقة. يتكرر مشهد وقوفه أمام الساعة، كل مرة بأمل جديد، لكن النتيجة دائمًا واحدة: الوقت لا يتوقف، وهو يفقد إحساسه بالحاضر. ويعتمد أسلوب القصة على الإيقاع السردى السريع، الجمل القصيرة والمتوترة تعكس إحساس الشخصية بالعجز عن السيطرة على الزمن. هنا يعود العنوان ليؤكد فكرة العجز عن الخلاص، وكأن الشخصيات فى المجموعة كلها تعيش فى بحر زمنى راكد، لا ينشق ليمنحها فرصة جديدة.
ويحمل عنوان قصة «البطة المرحة» مفارقة ساخرة؛ فالقصة تدور حول شخصية الأستاذ كمال، الذى يعيش حالة من الاغتراب واليأس الوجودى. وفيما ترمز البطة، عادة، إلى البراءة أو الحركة المرحة، فإنها هنا تُستخدم لترمز إلى مقهى يعكس نمط الحياة الرتيب لشخصية فقدت الحافز والهدف. المفارقة هنا أن المقهى، الذى يحمل اسمًا يوحى بالحيوية، ليس سوى مكان للهرب من بؤس الحياة، حيث يجتمع المنفيون من واقعهم، غارقين فى دخان الشيشة، غير قادرين على مواجهة مصيرهم.
القصة، مثل غيرها فى المجموعة، تنتهى دون حلول واضحة. لا يوجد تحول درامى كبير، بل يظل البطل عالقًا فى دائرته المغلقة. هذا يتماشى مع العنوان العام للمجموعة «بحر لا ينشق»، حيث نجد أن شخصياتها غارقة فى حتمية وجودية لا يمكنها تجاوزها. كمال، مثل غيره، لا يسعى للهروب بجدية، بل يتقبل الواقع بصمت، ليصبح المقهى هو المنفى الذى اختاره بنفسه.
وفى قصة «الفأر» نلاحظ تكثيف المشاعر من خلال تكرار الجمل القصيرة، والتدرج من التوتر إلى اتخاذ القرار الحاسم بقتل الفأر، ثم الإحباط بعد أن يفشل فى ذلك. كذلك، يأتى استخدام الحوار ليضيف بعدًا دراميًا للقصة، حيث يتم تضخيم موقف الفأر من خلال ردود أفعال العائلة، خصوصًا الأم والأخ. وتنمو القصة من حالة يومية عادية إلى قمة التوتر عندما يظهر الفأر، حيث تسيطر حالة من الفزع على الجميع. تصاعد الحدث يحدث ببطء، ما يمنح القارئ إحساسًا بالتصاعد التدريجى للتوتر، حتى يصل إلى الذروة عندما يفشل البطل.
ويضع العنوان أرق القارئ منذ البداية أمام تجربة معاناة مستمرة مع النوم، لكنه يتجاوز المعنى المباشر ليشير إلى اضطراب داخلى أعمق. لا يعبر الأرق هنا فقط عن حالة جسدية، بل يصبح رمزًا للقلق، للضغوط النفسية، وللوجود المثقل بالإرهاق. إنها حالة من التيه الداخلى، حيث يتبدل الليل والنهار دون راحة حقيقية، ويصبح انقطاع الكهرباء فى الأسانسير حلمًا يتحراه البطل، لبعض النوم.
يتسم أسلوب عبدالله بالسرد المكثف الذى يختزل المشاهد فى جمل قصيرة لكنها محملة بالمعنى. ويأتى الحوار فى بعض القصص مقتضبًا، لكنه مشحون بالدلالات، حيث يعتمد على التلميح بدلًا من التصريح. ويعتمد السرد غير المتكلف، حيث يستخدم مشاهد مقتضبة لكنها محملة بالدلالات. هناك حضور قوى للاسترجاع الزمنى، حيث تتداخل الذكريات مع لحظات حاضرة، كما أن الزمن يبدو وكأنه يدور فى حلقة مفرغة؛ مما يعمّق من الإحساس بالعزلة والجمود.
وفى «بعد الدور» يستخدم عبدالله محمد أسلوبًا سينمائيًا يعتمد على تصوير المشهد مباشرة دون مقدمات سردية طويلة. نرى البطل وهو يحدق فى الآخرين «بحدَّة»، مما يوحى بأنه فى موقف مواجهة، ثم يصرخ معلنًا رفضه المشاركة فى «المهزلة». هذه العبارة تفتح باب التأويل: ما هى المهزلة التى يتحدث عنها؟ هل هى مشهد مسرحى؟ أم لعبة اجتماعية؟ أم ربما وضع وجودى يرفضه؟
وتدور «الرقص على السلم الموسيقى» فى فضاء مكانى مألوف: محطة مترو العتبة، وهو مكان يعكس الانتظار والعبور والتحولات. المحطة هنا ليست مجرد موقع جغرافى، بل هى حالة ذهنية تعكس تردد البطلة بين قرارات مختلفة، بين الذهاب إلى الحسين أو البحث عن ذكرياتها المشتركة مع شخص آخر. هذا التأرجح المكانى يعكس بدوره التذبذب النفسى للشخصية. فى القصة يتداخل الحاضر مع استدعاء الماضى، مما يعمّق الإحساس بالتوتر واللا يقين. الشخصيات تعيش فى حالة من الإيقاع غير المنتظم، تمامًا كراقص يحاول مجاراة لحن متبدل.
وكسمة عامة فى النصوص تستخدم بعض القصص تقنيات سردية غير خطية، مثل الاسترجاع الزمنى «Flashback» والاستباق «Foreshadowing»، مما يضفى على النصوص طابعًا دائريًا، حيث يبدو أن الزمن لا يسير إلى الأمام بل يعود إلى نقطة البداية مرارًا. فى «الساعة»، تتداخل الأزمنة، فلا يعود القارئ قادرًا على التمييز بين اللحظة الحاضرة والماضى، وكأن الشخصية تعيش فى دائرة مغلقة من التكرار.
أما فى «الانتظار»، فإن الزمن ليس مجرد عنصر محايد، بل يصبح كيانًا مستقلًا يفرض سلطته على الشخصيات، يجمدها فى لحظة واحدة تمتد إلى ما لا نهاية. الحبكة هنا لا تعتمد على تطور درامى تقليدى، بل على تكثيف الشعور بالزمن، ليصبح القارئ مشاركًا فى التجربة الشعورية للشخصيات.
وفى النهاية، لا تقدم «بحر لا ينشق» حلولًا أو نهايات سعيدة، بل تدفع القارئ إلى مواجهة أسئلته الوجودية الخاصة. ماذا لو كان القدر طريقًا مرسومًا سلفًا؟ هل نحن أحرار فى خياراتنا، أم أن حياتنا مجرد سلسلة من الأحداث التى تقودنا إلى مصير محتوم؟ هذه الأسئلة تظل معلقة فى فضاء المجموعة، تجعل من «بحر لا ينشق» نصًا مفتوحًا على التأويل، يدعو قارءه إلى الغوص فيه، حتى وإن كان بحرًا لا ينشق.