المولود من ذى قبل.. البحث عن مفهوم الوطن وسط «السكان الأصليين»
إن الأعمال الفنية التى يُقال أو تُوصف بـ«العظيمة» هى التى لا تترك صغيرة أو كبيرة تخص الإنسان إلا وناقشتها فى شكل جمالى محكم، بداية من الأسئلة الفلسفية العامة المتعلقة بالوجود والسماء، مرورًا بالأسئلة المجتمعية الخاصة بالأوطان، والمجتمعات وثقافتها، وصولًا للنظر داخل الإنسان نفسه- الذى هو الفنان- ليتأمل النفس البشرية بكل ما تحمل من تناقضات، ففى الصفحات الأولى من الرواية التى نحن بصدد الحديث عنها نرى الكاتب أو الراوى يقول إن النظر إلى السماء أو البحر والمدى لا يفضى إلا للنظر إلى ما داخل الإنسان نفسه.
هذه مقدمة قصيرة لرواية عظيمة، هى رواية «المولود من ذى قبل»، للكاتب الأرجنتينى خوان خوسيه ساير، الصادرة عن «الكرمة للنشر والتوزيع»، بترجمة رصينة عن اللغة الأصلية للنص لمحمد الفولى.
لكن قبل الحديث عن الرواية لا بد وأن ننظر إلى عام نشرها ١٩٨٣، ونسأل: كيف لم تُترجم هذه الرواية من قبل إلى العربية؟ نحن بحاجة ماسة لقراءة هذه الرواية، لأنها تتماس بشكل أو بآخر مع مفهومنا العربى تجاه الوطن أو الاحتلال أو الغزاة، والطريقة التى يمكن النظر بها إلى هذه المفاهيم ومن ثم تفكيكها، والنظر إليها عن قرب.
اقرا ايضًا: إعادة إحياء الهرم..حرف يكشف ما جرى فى المنطقة الأثرية الأهم قبل الافتتاح
فبطل الرواية هو الناجى الوحيد من المذبحة التى طالت جاليته أو أبناء وطنه الذين كانوا معه على متن السفينة، أبناء وطنه الذين لم يقدروه، لم يحترموه، بل يشير الكاتب إلى أنهم لربما لوطوا به، وستكون نهايتهم على يد أصحاب الأرض، بعدما يظن السكان الأصليون أو الهنود أن هؤلاء القوم جاءوا لغزوهم، ومن ثم طردهم عن أراضيهم.
وكلما جاء قوم إلى تلك الأرض المكتشفة حديثًا، آنذاك، يتم فعل الشىء نفسه معهم، ولا يتركون منهم إلا شخصًا وحيدًا، حتى يعلم هذا الشخص ويتعرف ويقترب من القبيلة، ويعرف أنهم ليسوا همجًا، أو آكلى لحوم بشرية، أو أشخاصًا بلا أخلاق ولا دين، وبعدما يعرف ذلك يتركونه ليسير نحو منبع النهر، إلا أن بطل الرواية هو الوحيد من بين هؤلاء الناجين من تطول فترة إقامته وسط أصحاب الأرض.
وفى فقرة واحدة من الرواية، يفض «ساير» النزاع المشتعل بين كلا العلاقتين، علاقة الإنسان بالوطن، وعلاقته بالطبيعة بشكل عام:
«كبرت معهم، ويمكننى أن أقول إنه مع مر السنين فقد حلّ التعاطف محل الرعب والنفور الذى أوحوا إلىّ به، فى البداية. إن هذا العراء الذى أساء معاملتهم- وقوامه الجوع والمطر والبرد والجفاف والفيضانات والأمراض والموت- موجود داخل عراء أكبر حكمهم بصرامة وقسوة».
بالطبع هذا المقطع القصير شديد الدلالة يعيدنا إلى النقطة التى انطلقنا منها، وهى الطريقة البديعة التى يستطيع بها «ساير» أن يربط ما هو خاص أو خاص جدًا بالعام. الطبيعة فى مواجهة الإنسان، فكرة مرعبة أن يقف الإنسان وحيدًا ضد مخاطر الطبيعة، هذا ما نواجهه بالفعل فى عصرنا الحاضر، فعلى الرغم من التقدم العلمى المشهود، لم يزل الإنسان، ومن ثم المجتمعات، تتصدى للخطر الذى تشكله الطبيعة.
اقرا ايضًا: "حرف" تحاور المرشحين لانتخابات "اتحاد الناشرين" حول تطلعاتهم لصناعة النشر
فيبدو هنا العالم أجمع بكل سكانه وكأنهم على حد تعبير الكاتب: «كغرقى فى زورق يحاولون الحفاظ على انضباطهم فوقه، وسط إعصار يضربهم فى عز الليل داخل بحر مجهول»، ليطرح من خلالهم، بل يكونوا هم سببًا فى فض هذا الالتباس بين الإنسان بشكل عام، والمفاهيم والمعانى وعلامات الاستفهام الكبرى التى تحيط به. فحتى الرقص فى هذه الأرض له دلالة عند الراوى، فنراه يقول بأقل عدد من الكلمات:
«بدا الأمر وكأنهم يرقصون على إيقاع لم يكف عن التحكم فيهم، وهو إيقاع صامت استشعر هؤلاء الرجال وجوده. كان إيقاعًا منيعًا وغائبًا وحاضرًا. حقيقيًا، لكنه ملتبس، كوجود الرب».
فمثلًا إذا ما نظرنا إلى سؤال فلسفى هام كالأخلاق، وجدنا أن بطل الرواية أيضًا شكل مفهومًا جديدًا للأخلاق خلال فترة إقامته بين الهنود، حيث عرف أن هناك قوانين أخلاقية- ربما تلك التى تولد مع الإنسان فى فطرته- هى التى تحكم هؤلاء الهنود، وكيف يمكن هذا المجتمع أن يجمع بين الأضداد.. الأخلاق والانحلال، ويحافظون على هذا لأقصى درجة، وكأن الإنسان نفسه وليس المجتمع فقط بداخله كل هذه التناقضات.
يُشكل أيضًا «ساير» مفاهيم جديدة تجاه الزمن والذاكرة، فالشىء الذى يواجه الإنسان أيضًا، بعد الطبيعة التى سبق وتحدثنا عنها، هو الزمن، تلك الدوامة التى تكاد أن تبتلع الإنسان، فى فقرات شديدة القصر يتأمل الكاتب الزمن، يشرح الفرق بين الماضى والحاضر والعدم، حيث يبدو أن هذا هو الثالوث الذى يشكل ليس فقط عالم الرواية، ليصل لنتيجة مفادها أن: «ما من حياة بشرية أطول من ثوانى الإدراك الأخيرة التى تسبق الموت».
وحتى هذه النتائج الفلسفية التى يصل إليها «ساير»، هو يقول- على لسان الراوى- إنه لا يقتنع بها، ففى الجزء الأخير من السردية، حين يحاول إيجاد مفهوم محدد للمعرفة، نراه يقول إن فهمنا الخاص للأشياء ونظرتنا لها هو ما يشكل معرفتنا، وبالتالى يعتبر أن المعرفة نفسها «وهم»، لأن ما من إنسان سيستطيع أن ينفذ إلى صلب الحقيقة.
اقرا ايضًا: مدينة الأسرار والقلاع.. لا شىء يوازى الغموض فى براغ
فى النهاية «المولود من ذى قبل» واحدة من أهم وأفضل الروايات، نظرًا لما تحمله من قيمة فلسفية رهيبة، وُضعت فى قالب جمالى محكم، حاول الكاتب أن يصل صوت من لم يصل صوتهم- ليس الهنود فقط ولكن الإنسان أيضًا- فالهنود كانوا يتركون شخصًا واحدًا، لا لشىء إلا لكى يحكى عنهم.
والرواية كلها تقام على هذا الاستدعاء للذاكرة، حيث يروى البطل تفاصيل ما جرى له، وما شاهده، وحتى هذه الذاكرة هو لا يثق بها، ولكن هذه الرواية أو الاستدعاء لا ينتج فقط التأريخ للتجربة أو المكان، بل يشهد الميلاد الجديد الذى حدث للراوى نفسه، لأنه شكل مفاهيم جديدة حول كل شىء، بعدما هبط على هذه الأرض، أو هذا الوطن.
إنه نص مدهش، استطاع المترجم محمد الفولى نقل روحه كما أراد كاتبه خوان خوسيه ساير، بأن يأتى النص- رغم ضجيج أسئلته- هادئًا كالموسيقى، أو كجدول الماء الذى يحمل الناجين، لكى نصبح نحن أيضًا رواة لسيرة هذه الأرض، وكل هذه الأسئلة هى ما شكلت النص الروائى والسردية التى لم تكتب إلا لتبحث عن الإنسان، وسط هذا الضباب الملتبس.