رد غيبة فرج فودة.. شهادات العقل فى مواجهة شهادة قرن الغزال
لا بد أن أعترف لكم بورطة كبيرة وجدت نفسى محاطًا بها وأنا أعيد مرة ثانية تقديم شهادة الشيخ محمد الغزالى أمام المحكمة التى نظرت قضية الشهيد فرج فودة. فأنا لا أنكر أننى أحمل تقديرًا كبيرًا للشيخ الغزالى، ربما بسبب كتاباته التى كنت أعتبرها لا تقل عن كتابات المجددين الذى اقتحموا مجال تجديد الفكر الدينى بجرأة وشجاعة وقوة وحسم، وربما لا يعرف كثيرون أن الشيخ تعرض هو الآخر لحملات تكفير من قِبل بعض الجماعات المتطرفة التى رأت أنه ينكر السنة بعد كتابه المهم «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث».
لكن هذا الود تخدشه مواقف الشيخ الغزالى فى ثلاث قضايا مهمة.
الأولى مذكرته التفصيلية التى كتبها ضد رواية «أولاد حارتنا» التى كتبها وأصبحت فيما بعد مرجعية لمطاردة وتكفير كاتبنا الكبير نجيب محفوظ.
والثانية شهادته التى أدلى بها أمام المحكمة يدين بها الشهيد فرج فودة، وينقذ قتلته الذين اغتالوه بدم بارد، وأعتقد أن الشيخ لم يكن موفقًا على الإطلاق فيما قاله.
والثالثة ما كتبه عن نصر حامد أبوزيد بعد أن تفجرت قضيته واتهامه بالكفر تأسيسًا على أنه يقول إن القرآن منتج بشرى، ولم يكن ذلك صحيحًا بالمرة، وكان يمكن للشيخ الغزالى أن يراجع بنفسه ما كتبه نصر، لكنه استسلم لما كتبه الآخرون عنه، وراح يصفه فى مقالاته التى كان ينشرها وقتها بجريدة «الشعب» بأنه «كويفر» تقليلًا من شأن نصر وإهانة له.
رغم ما تركه لدىّ الشيخ الغزالى من توتر فكرى بسبب مواقفه الثلاثة، إلا أننى وفى مساحة محددة أعتبره واحدًا من المفكرين الكبار الذين هزوا عروش الجمود والتخلف والانحطاط الحضارى.
د. محمد سيد طنطاوى يكتب: 10 حقائق عن الردة والمرتدين فى الإسلام
يمكنك أن تتأكد من ذلك عندما تمسك معى من بين مؤلفاته بثلاثة كتب.
هذه الكتب على أهميتها إلا أنها لا تحظى بالاهتمام الواجب، رغم أنها أثارت الزوابع من حول الشيخ، وجعلته فى مرمى السهام، وإن كان الأهم من ذلك أن ما فيها حاضر فى معركتنا ضد الإرهاب، ومن الواجب علينا وضعها تحت الضوء من جديد.
الكتاب الأول هو «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» وصدر فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، عندما كلفه معهد الفكر الإسلامى بالولايات المتحدة بأن يضع كتابًا ينصف فيه السنة النبوية، ويذود عنها جرأة القاصرين من أصحاب العقول الكليلة.
رحب الغزالى بالتكليف، ولأن ما جاء فى الكتاب كان خارجًا عن المألوف تمامًا، فقد رأى أن يتحمل وحده مسئولية الأحكام التى قررها فيه، وأن يواجه بصدر مفتوح ما يثور من اعتراضات.. وقد كان.. فقد أثار الكتاب من حوله العواصف التى صمد أمامها، وربما كان هذا لأنه خرج من بين صفوف المشتغلين بالدين، يعرف حيلهم وكيف يلاعبهم.
يقدم الغزالى لكتابه هذا بقوله: أنا أكره التعصب المذهبى وأراه قصور فقه، وقد يكون سوء خلق، لكن التقليد المذهبى أقل ضررًا من الاجتهاد الصبيانى فى فهم الأدلة، وبديهى أن تنشأ مشكلات ثقافية واجتماعية من هذا النهج، وأن تسمع حدثًا يقول: مالك لا يعرف حديث الاستفتاح، ولا سنة الاستعاذة، ولا يدرك خطورة البسملة، وهو يخرج من الصلاة دون أن يتم التسليمتين، فهو جاهل بالنسبة النبوية.
وحدث آخر يقول: أبوحنيفة لا يرفع يديه قبل الركوع ولا بعده، ويوصى أتباعه بألا يقرأوا حرفًا من القرآن وراء الإمام، وربما صلى بعد لمس المرأة فهو يصلى بلا وضوء، إنه هو الآخر جاهل بالإسلام.
يمسك الغزالى بهذه الحالة المتردية، ليقول عنها: ينظر المسلمون إلى مسالك هؤلاء الفتية فينكرونها ويلعنونهم، وقد كان علماء الأزهر القدامى أقدر الناس على علاج هذه الفتن، فهم يدرسون الإسلام دراسة تستوعب فكر السلف والخلف والأئمة الأربعة، كما يدرسون ألوان التفسير والحديث وما تتضمن من أقوال وآراء، لكن الأزهر من ثلاثين عامًا- وقت صدور الكتاب- أو تزيد ينحدر من الناحية العلمية والتوجيهية، ولذلك خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف وأعشار المتعلمين يتصدرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها، وانتشر الفقه البدوى والتصور الطفولى للعقائد والشرائع.
د. أحمد صبحى منصور يكتب: الغزالى يرد على الغزالى
ما الذى يريده الغزالى من كتابه هذا؟
لا يتركنا للقراءة قبل الحكم.
بل يقول فى تقديمه: هو جرعة قد تكون مرة للفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية، ثم يحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علمًا بعد قراءة عابرة أو عميقة، ولعل فيه درسًا لشيوخ يحاربون الفقه المذهبى لحساب سلفية مزعومة عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره.
الكتاب الثانى هو «قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة» وصدر فى العام ١٩٩٠، وقد انطلق فيه من واقعة سجلها فى تقديمه لما أراد.
فقد طلب جماعة من المسلمين المقيمين بإنجلترا أن تسمح لهم السلطات بإنشاء مدارس إسلامية خاصة، إلا أن بعضًا من المسئولين هناك عارضوا الطلب، وضاقوا بإنشاء هذه المدارس قائلين: إنها ستقوم على تفرقة عنصرية بين البنين والبنات.
تضع هذه الواقعة يد الشيخ الغزالى على حقيقة لم يستطع إنكارها أو تجاهلها، فالإسلام متهم بإهانة المرأة واستضعافها.
لكنه لا يستسلم لهذه التهمة، يتساءل: هل فى كتاب الله وفى سنة رسوله ما يبعث على التهمة؟ ولا ينتظر إجابة من أحد، بل يقول: القرآن بين أيدينا لم يتغير منه حرف، وهو قاطع أن الإنسانية تطير بجناحين، الرجل والمرأة معًا، وأن انكسار أحد الجناحين يعنى التوقف والهبوط.
ويستدرك الغزالى، فالقضية مهمة بالنسبة له: لا بد أن ننظر إلى السنة، ولنستبعد ما التصق بها من ألوهيات، لأن مصاب الإسلام فى المتحدثين عنه لا فى الأحاديث نفسها.
محمد عصفور المحامى يكتب: الشيخ الغزالى المفترى عليه
يضرب الغزالى بعض الأمثلة على ذلك.
فالنبى يوصى بأن تذهب النساء إلى المساجد «تفلات» أى غير متعطرات ولا متبرجات، ولكن القسطلانى فى شرحه للبخارى يرى أن تذهب النساء إلى المساجد بثياب المطبخ وفيها روائح البقول والأطعمة، وغيره يرى ألا تذهب أبدًا.
لا يمر هذا الجدل دون أن يسأل الغزالى: أى الفريقين شر من صاحبه على الإسلام؟
وفى البخارى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، أجاز أن يسلم الرجال على النساء، وجاء فيه أن الرسول قال لعائشة: هذا جبريل يقرأ عليك السلام، وكان فى صورة رجل، فجاء من يقول: ذاك عند أمن الفتنة، أو ذاك مع النسوة المحارم أو العجائز أو الدميمات.
ويعلق الغزالى على ذلك بقوله: مع ورود سنن بسلام الرجال على النساء أو النساء على الرجال، فقد كان جهد الشراح وقف العمل بها على أى صورة، وكلما امتد الزمان زادت هذه الشروح قوة حتى ألغت الأصل المتبع، وأحلت مكانه التفسير المتشائم المغشوش.
قرر الغزالى فى كتابه أن يرمم ما تهدم من صحيح الإسلام فيما يتعلق بالمرأة، وهو يفعل ذلك لم ينس أن يفضح من يهيلون التراب على هذ الصحيح.
حكى له أحد طلابه حوارًا دار بينه وبين متدين شديد الغلو ينتمى- كما يصف نفسه- إلى الإخوة أهل الحديث.
سأله: أأنت ممن يعلّقون الصور على الجدران، ويوافقون على نشرها بالصحف؟
رد تلميذ الغزالى: نعم.
فرد عليه صاحب الحديث: سيلحقك الوعيد الذى ورد فى الحديث الشريف «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» لأنك تناصرهم.
رد الطالب: رأينا أن الحديث فى صانعى التماثيل لا فيمن يرسمون على الورق.. ثم إننى لا أريد أن أدخل معك فى جدال، وإنما أريد أن أنبهك إلى أن شرائع وشعائر إسلامية كثيرة قد تهدمت فى هذا العصر، والاتفاق على ضرورة بنائها من جديد ليس موضع نزاع، فتعال أنت ومن معك لنتعاون فى إقامة الصرح المنهار، ولنترك الشجار فى الأمور الخلافية.
عاجله صاحب الحديث بقوله: ما نضع أيدينا فى أيديكم، وما نثق فى دينكم، بل أنتم وأعداء الإسلام سواء.
أدرك الغزالى أثر الصدمة على تلميذه، فقال له: إذا كان الرجل مجتهدًا مخطئًا أعماه التعصب فسوف يبصر يومًا ويؤوب إلى الحق، إنما أخاف شيئًا واحدًا، أن يتحول هذا وزملاؤه إلى جند للباطل من حيث لا يشعرون.
ما الذى أتى بحديث الصور والمصورين إلى الحديث عن المرأة؟
إنها قضية واحدة، قضية هؤلاء الذين يرفعون راية السنة ولا سنة لديهم، وهؤلاء لم يجد الغزالى من نصيحة يقدمها إليهم إلا أن يتقوا الله فى أنفسهم وأمتهم، يجب أن يجمعوا ولا يفرقوا، وأن يمهدوا الطريق لعودة الإسلام بدل أن يضعوا أمامه العقبات.
الكتاب الثالث هو «تراثنا الفكرى فى ميزان الشرع والعقل»، وصدر فى العام ١٩٩١.
خطا الغزالى هنا خطوة كبيرة فى كشف عوراتنا، إنه يدين الجميع.
يقول فى تقديمه لطرحه: أمة هى خمس العالم من ناحية التعداد، تبحث عنها فى حقول المعرفة فلا تجدها، فى ساحات الإنتاج فلا تحسها، فى نماذج الخلق الزاكى والتعاون المؤثر والحريات المصونة والعدالة اليانعة فتعود صفر اليدين.
ويسأل الغزالى: بماذا شغلت الأمة نفسها؟
ويجيب: بمباحث نظرية شاحبة، وقضايا جزئية محقورة، وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى، واستغرقه هذا كله، فلم تعط عزائم الدين شيئًا من جهدها الحار، وشعورها الصادق، فكانت الثمرات المرة أن صرنا حضاريًا وخلقيًا واجتماعيًا آخر أهل الأرض فى سلم الارتقاء البشرى.
ما الذى يريده الغزالى من تراثنا الفكرى؟
لا يتركنا نفكر كثيرًا، بل يقول مباشرة: إن هذه محاسبة نفسية لموقفنا فى الحاضر والماضى، ولن يصلح مستقبل إلا إذا دققنا فى هذا الحساب، ووضعنا أيدينا على أسباب العوج، وكل محاولة لاقتحام المستقبل بفكر عصور الانحطاط لن تزيدنا إلا خبالًا.
ويقول- وهذا هو الأهم-: كنت أقرأ أسماء الأسلحة الحديثة فأشعر بهول ما بلغه القوم من قوة، هذه صواريخ جو جو، وجو أرض، وأرض جو، وهذه طائرات قاذفة، وتلك مقاتلة، وهذه سبتية، وهذه مزودة بمدافع للهجوم، وهذه تفلت من شباك الرادار، أما المقذوفات من شتى الأسلحة ففنون وجنون، هذه فخاخ ألغام، قلت: ما أروع ما أعد هؤلاء لنصرة معتقداتهم وقيمهم، فهل أعد المسلمون من هذا فى بلادهم بتفوقهم الصناعى ومهاراتهم الخاصة؟
الإجابة المنطقية تأتى منه: كلا، اللهم إلا ما نشتريه منهم فيبيعون لنا ما يستغنون عنه، ثم يمدوننا بذخائره بين الحين والحين، ما أعرف فشلًا فى نصرة الدين والشرف والأرض والعرض أقبح من هذ الفشل.
ويعود الغزالى ليسأل: بِمَ شغلنا عن مثل هذا الإنتاج؟
ويجيب هو: بالجدل المحموم فى غيبيات نهينا عن التقعر فيها، بتجسير الخلاف الفقهى، وإيفاد الشرر منه، مع علمنا القاطع بأن وجهات النظر كلها مأجورة من الله سبحانه، ولا لوم على مخطئ إن عرف خطأه.
لقد دخل الشيخ محمد الغزالى أرضًا يعرف الخطر الكامن فيها جيدًا، وربما كان هذا ما ساعده على أن يخرج منها سالمًا... المؤسف حقًا أننا لا نزال نعيش فى هذه الأرض الزلقة، كان ما كتبه الغزالى مجرد صرخة سرعان ما تبددت فى الهواء، نفرة اجتهاد نجح أنصار التقليد فى إهالة التراب عليها، وأعتقد أنه من حقه علينا أن نعيد بعض الروح لما سبق وقاله، عل الله يصلح به من يكتب له الهداية.
الغريب بالنسبة لى أن الشيخ الغزالى وبعد هذه الاجتهادات ذهب راضيًا إلى المحكمة ليدين الدكتور فرج فودة، رغم أنه لم يفعل أكثر من الاجتهاد، بل إنه لم يفعل أكثر مما فعله الشيخ الغزالى نفسه فى كتبه الثلاثة، فهل كان الشيخ يدين نفسه أيضًا؟
يحتاج الشيخ الغزالى إلى قراءة جديدة، وأعتقد أن تشريحه نفسيًا أمرًا مهمًا.
لكن ما يشغلنى الآن أنه وأمام شهادته، التى أعتبرها كانت باطلة، كانت هناك شهادات أخرى العقل فيها هو سيد الموقف، كانت الأقرب إلى روح الإسلام، ومن حق فرج فودة أن أوثق هذه الشهادات وأثبتها، حتى لا يعتقد أحد أن المجتهدين صمتوا فى مواجهة الشيخ الغزالى، بل قاموا برد غيبة فرج فودة الذى كان قد استشهد ولا يستطيع أن يرد على الشيخ الغزالى.