الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مغامرة المنهج .. تأملات الفيلسوف الفرنسى إدجار موران فى أزمنة الأزمات

الفيلسوف الفرنسى
الفيلسوف الفرنسى إدجار موران

يمكن النظر إلى كتاب «مغامرة المنهج» للمفكر الفرنسى إدجار موران، والذى صدر بترجمة عربية أنجزها أيمن عبدالهادى عن «المركز القومى للترجمة» باعتباره سيرة كتاب، فهو بصورة ما يؤرخ لخمسة وثلاثين عامًا قضاها أحد أبرز الفلاسفة على قيد الحياة اليوم فى كتابة عمله الموسوعى «المنهج» الذى صدر فى ستة أجزاء، والذى يمثل خلاصة أفكار الفيلسوف المولود فى باريس 1921. من جانب آخر، يمكن اعتبار هذا الكتاب سيرة فكرية يمتزج بها الشأن الذاتى أى مسيرة موران ومراحل حياته المختلفة، من طفولة ومراهقة وشباب وكهولة ثم شيخوخة، مع التحولات الفكرية التى جاءت نتاجًا لتحولات كبرى شهدها القرن العشرون بدءًا من الثلاثينيات وحتى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين. 

البحث عن الحقائق

يصطحب موران القارئ فى رحلة يعود بها بالذاكرة إلى سنوات طفولته الأولى، وتحديدًا حين كان بعمر العاشرة وواجه صدمة وجودية كبرى تمثلت فى وفاة والدته وإخفاء المحيطين له خبر وفاتها، ليجد نفسه فى مواجهة أسئلة صعبة عن الحياة ومعناها، وليقاسى مبكرًا الشعور بالعدمية، يقول: «لم أمتلك حقيقة. كنت أحيا بشعور (عدمى)، استحالة الإيمان بأى شىء بعد كذبة أبى وبعد تقويض حقيقتى الوحيدة (حبى لأمى)». وفى مراهقته، كانت الأسئلة حول المعنى تتكاثر، فكان يسأل بماذا أؤمن، وأى شىء أتمنى، وأى شىء يتوجب علىّ معرفته؟، وهى أسئلة لم يجد لها أجوبة من العائلة، ولكنه وجد بعض العزاء فى ارتباطه بالسينما والأدب منذ طفولته. 

كان من الطبيعى أن تقود الأسئلة موران إلى محاولة الفهم والاستيعاب لذاته وللعالم، ومن هنا جاء اختياره لدراسة الفلسفة بالمرحلة الجامعية، يقول عن ذلك: لم أكن أفكر فى مهنة بعينها، كنت أرغب فى معرفة حقيقة العالم البشرى فيما كان هذا العالم المأزوم يخوض الحرب.

الفيلسوف الفرنسى إدجار موران مغامرة المنهج

أراد موران أن يفهم هذا العالم المضطرب الذى شهد تراجيديا تاريخية فى ثلاثينيات القرن الماضى ممثلة فى أزمة اقتصادية عالمية، ووصول النازية للحكم، والحرب الأهلية فى إسبانيا. كل تلك الاضطرابات دفعته للتفكير فى أزمة الرأسمالية وأزمة الديمقراطية. 

خلال تلك الفترة المضطربة من القرن العشرين والتى امتدت إلى الحرب العالمية الثانية، رصد موران تغيراته الفكرية وكيف قادته الأحداث التاريخية إلى التحول من الاقتناع بالشيوعية والماركسية إلى نقدهما، وهو ما ظهر فى كتابه «عن طبيعة الاتحاد السوفيتى» يقول موران إن التجربة التاريخية قادته إلى فهم أن أساس مشكلة الشيوعية السوفيتية يكمن فى تركيز السلطة الكاملة فى الحزب، والتى تهيمن على الحقيقة والعلم والتاريخ، وفى كتابه «نقد ذاتى» عاود مراجعة الشيوعية والماركسية، غير أن الأهمية الجوهرية للكتاب بالنسبة لموران كانت فى تمهيده لكتابه «المنهج»، إذ أنه طرح السؤال الأساسى الخاص بالحقيقة والخطأ والوهم، ومنه توصل إلى أن مصدر الأخطاء والأوهام يكمن فى إخفاء الحقائق التى تزعجنا وفى التخفيف منها. 

هزات تاريخية قوية 

يرصد موران كيفية تفاعله مع الهزات التاريخية القوية التى شهدها عقد الخمسينيات مثل حرب الجزائر والحرب الإسرائيلية المصرية وحرب السويس والثورة المجرية، فيقول: «تفاعلت بطريقتى مع هذه الأحداث التى زعزعت بل قوضت على نحو غاية فى القوة الدعائم التى كنت أستند إليها فى تصوراتى عن العالم، وأوجدت تساؤلات جديدة وشكوكًا جديدة فشكّلت وعيًا لى». 

الصفحة الثالثة والعشرون من العدد الثالث والعشرين لحرف

ويمزج موران مرة أخرى بين الشأنين الخاص والعام حين يشير إلى توافق هذه الهزات التاريخية مع أزمة وجودية قلبت حياته الشخصية وهى دخوله فى غيبوبة عام ١٩٦١، فيقول: «بمجرد إفاقتى منها استطعت وأنا فى جناحى فى المستشفى أن أدون على ورقة حاجتى لتفحص حياتى ولإعادة مساءلة نفسى، فكتبت عن المسائل الأساسية التى تستحوذ علىّ». 

يجمل موران المحاور الأساسية التى شكّلت كتاباته وبحوثه فى أربعة محاور هى: العالم الفيزيائى أى التفكير فى جدلية النظام/ الفوضى فى عالم لم يعد ذا نظام محدد تمامًا، والعالم الحى ويقصد به قناعته بضرورة عدم الفصل بين الجانب البيولوجى للإنسان وجانبه الثقافى، ثم المعارف العابرة للتخصصات ويشير بها إلى حثه على تبنى فكر عابر للتخصصات، وأخيرًا تأكيده على أهمية المعرفة المعقدة التى تتقن الربط بين العناصر المختلفة. 

المغامرة المعرفية

يقدم كتاب موران ما يمكن اعتباره عصارة مؤلفاته، فهو يستعيد من جهة دوافعه لكتابة كل عمل ومن جهة أخرى أبرز ما تضمنته من أفكار، فيوضح أن كتابه «نقد ذاتى» كان اختبارًا ذاتيًا لفهم الدوافع التى قادته إلى الاعتقاد فى الشيوعية ثم إلى التحول عنها بعد ذلك، أما كتابه «المنهج» فقد انطلق من قناعة بأن المعرفة الذاتية للإنسان بوصفه ذاتًا فاعلة تتطلب ليس فقط معرفة التعقيد البشرى، ولكن تقتضى المعرفة الفردية بالتعقيد على المستوى الشخصى. 

ويبين موران أنه فى أثناء كتابته لـ«المنهج» ألّف كتاب «شياطينى»، ليفهم ما يقود تصوراته وفكره. يقول عن هذا الكتاب: الشياطين عبارة عن وحدات فكرية داخل شخصيتنا وخارجة عنها فى الوقت ذاته، نخضع لها من دون أن ندرك ذلك وشعرت بالحاجة لمعرفة حقائقى وأخطائى.

كما يتحدث موران عن كتابه «الطريق.. من أجل مستقبل الإنسانية» الذى نشره فى عام ٢٠١١، موضحًا أنه كتاب يتصدى لتعقيد عمليات العولمة متعددة المستويات، أى الاستجابات بين العالمى والمحلى، وتعدد التأثيرات المتناقضة للعولمة المرتبطة بالعمليات السياسية والاقتصادية والسكانية والدينية والنفسية والعلمية والتقنية، ففيه يوضح أن العولمة هى أفضل وأسوأ ما يمكن أن يحدث للبشرية؛ أفضل لأنه لأول مرة أصبح البشر يتقاسمون مصيرًا واحدًا فى مواجهة مشاكل حيوية، والأسوأ لأنها ربما تؤدى إلى سلسلة من الكوارث. 

النزعة الإنسانية الجديدة

يفصل موران رأيه بالنزعة الإنسانية والحاجة إلى أخرى جديدة كما تعرّض لها فى أعماله بهذا الكتاب، فيلفت إلى أن ثمة ثلاثة مصادر للأخلاق، الأول من الفرد الذى يتعين عليه الاستجابة لمبادئ الأخلاق لأجل كرامته، والثانى يتصل بأخلاق المجتمع أى الحقوق والواجبات، وأخيرًا الواجبات تجاه الإنسانية فى عصر العولمة، مشددًا على أهمية أن يكون الفهم الإنسانى أكثر يقظة وأن يُلم بالواقع. 

ويوضح أن الجزء الرابع من كتاب «المنهج» ركز على أن الأذهان البشرية تسبح فى مجال من الأفكار المكونة من أيديولوجيات، ومعتقدات وأساطير، وأن النزعة الإنسانية عليها الاعتراف بالحاجة إلى الإيمان والاعتقاد والأمل وعدم تجاهل العاملين الدينى والأسطورى.

وينوه موران بأن النزعة الأنانية للتوجه الفردى المعاصر قد تسببت فى تجاهل الأنا للنحن والتهافت على تحقيق المنفعة، وأن تفكيك الكائن البشرى إلى جانب أحادى مثل الإنسان الاقتصادى العاقل يختزل تعقيده الفكرى إلى عقلانية زائفة تتجاهل حقائقه الوجدانية والوجودية، ومن هنا جاء الجزء الخامس من كتاب «المنهج» بعنوان «إنسانية الإنسان» لمحاولة فهم تشابك العاقل والمجنون، الصانع والخيالى، الاقتصادى والمحب للعب، الأنا والنحن فى تصور متعدد الأبعاد عن الإنسان بهدف القطيعة مع الرؤى الاختزالية للإنسان، ومن ثم يشدد موران على أهمية تأسيس نزعة إنسانية جديدة كوكبية تعتمد على مبادئ التضامن والمسئولية بعد أن صارت الإنسانية بالوقت الراهن مهددة بمخاطر مميتة مثل الأسلحة النووية، والحروب الأهلية، والتدهور البيئى، والاضطرابات الاقتصادية. 

بصفة عامة، يمكن اعتبار الكتاب إطلالة على أبرز التحولات التى شهدها العالم فى مراحل فاصلة، وتأملات يقدمها أحد أهم الفلاسفة اليوم بشأن هذه التحولات وما يحتاجه العالم للتعديل من مساره كى يتجنب الكثير من الكوارث المهلكة، فضلًا عن تناول مكثف للمحاور الرئيسية فى مؤلفات موران المختلفة ومنها «الإنسان والموت»، و«السينما أو الإنسان الخيالى»، و«نقد ذاتى»، و«شياطينى»، وبالطبع كتابه الموسوعى «المنهج».