الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عيد كامل يكتب: أحلام بائع النعناع

بائع النعناع
بائع النعناع

جلس مستمتعًا بغروب الشمس، يعجبه هذا المنظر والشمس تودع الأرض بقبلة وتسقط فى البحر البعيد، استرجع أحداث يومه، حمد الله أنه سار كما خطط له، قام وزوجته قبل الفجر مزاجه رائق إثر حلم جميل، أعدت له كوب شاى بينما هو يتوضأ، شرب منه سريعًا، تمنى أن يصلى خلف الشيخ باسط، له صوت جميل، ينتقى مقاطع قصيرة ومؤثرة، وصل إلى المسجد، تقدم الشيخ، استمتع بصوته، سلم عليه، ثم اتجه إلى حقله الصغير خلف منزله، المنزل والحقل لا يتجاوزان القيراطين، يزرعه نعناعًا بنوعيه البلدى والحُلو للسوق، وقليل من الطماطم والجرجير والخيار لأسرته، يحصد النعناع فجر الخميس، يربطه على حماره الهادى، يتجه إلى السوق، ابتسم لمجرد أنه رأى الحاج فتحى تاجر الجديان فى طريقه، تبادلا معًا الحديث والضحك، صديق طفولته، تجارته جعلته أكثر ثراءً، ولكنه ما زالت لديه القدرة على السخرية من كل شىء، ولو من نفسه، وعندما يسخر منه لا يغضب، بل يضحك من قلبه.

تفرقا فى مدخل السوق، ذهب لمكانه المحدد له، وجد مُتسعًا، سأل عن بائعة الخضرة، فقيل له أصابتها نزلة برد منعتها من النزول اليوم، حمد الله لأنه لا يحب لسانها السليط.

ربط حماره، وضع له بعض الحشائش، حل غبيطه، لملم جلبابه، جلس على الأرض وبدأ يتلقى الزبائن، ثلاثون عامًا وهو يجلس نفس الجلسة، ثلاثون عامًا وهو يرى الأطفال يكبرون ويصيرون آباء، والفقراء يصبحون أغنياء والأغنياء فقراء، ومن يثبت فى مكانه مثله لا يتقدم ولا يتأخر، ملكوت وله صاحب وحده لا شريك له، يرى الشخص من بعيد فيجهز له طلبه، هذا الأب يأخذ بجنيه بلدى وبجنيه حلو، هذه الأرملة تأخذ بخمسة جنيهات، تضع منه على قبر زوجها، وهذا صاحب مقهى يأخذ بعشرة جنيهات، يعرفهم ويعرف أسماءهم وقصصهم، يداعبهم ويداعبونه.

فى الضحى ومع ازدياد الضجيج حوله، حن إلى كوب شاى كما يحبه تمامًا، تقيل سكر خفيف بالنعناع.

وجد توحة المُنحنى الظهر يلف فى السوق، لم يعد ينزل الشغل كثيرًا، تولى أبناؤه العمل مكانه، ولكنه يحن إلى العمل فى السوق وسط أصدقائه القدامى، يتبادل معهم الأخبار، ويأتى لكل منهم بطلبه دون سؤال، ليس مثل أبنائه الذين لا بد أن تطلب منهم بإلحاح، وبعد ذلك لا يكون الطلب مضبوطًا كما تطلبه، قال له:

■ كوباية الشاى من إيديك بالدنيا وما فيها.

■ ده عشان أنت راجل طيب.

اعتدل مزاجه، وعاد للبيع من جديد، تبقى معه ما قيمته بعشرة جنيهات نعناع بلدى، وقرر العودة بها، لمح صاحب مقهى يأتى من بعيد، قال لنفسه:

- سوف يفاصل فيها..

فاصل فيها، أخذها بثمانية جنيهات، خير.

قام، نفض ملابسه، لم غبيطه الفارغ، سلم على من حوله، ركب حماره، واشترى من أطراف السوق بطاطس وأرز من بائعين يعرفهم، ونصف كيلو لحمة، وجد القطعية جيدة كما يرجوها.

قبل وصوله بعدة أمتار نزل من على حماره، أخذت منه زوجته لجام الحمار، صلى الظهر ونام حالما تعد زوجته الغداء، قام على أذان العصر، ذهب ليصلى فى المسجد، وفى عودته أحضر خيارًا وربطة جرجير، جلس مُتربعًا ليتناول وجبة الخميس المُنتظرة.

خَبْطٌ على الباب أثار فزعه، واستعاذت زوجته من الشيطان، دخل ابنه متجهم الوجه، سأله:

- مالك زى أمشير ليه؟

- الراجل اللى عايز يفتح محل بقالة عملتله النقاشة طول النهار، بيقولى الحساب كام، قلتله مية وخمسين يقولى كتير كفاية مية وعشرين.

- عنده حق كفاية مية وعشرين وربنا يبارك فيها.

ابنه دائم الشكوى من الغلاء، وهو يطالبه بالصبر، يرجو السفر ليبنى عمارة على منزله، أو يبيع نصف البيت ويبنى بالنصف الآخر.

قطع تأمله حضورها تحمل كوبين من الشاى وتجلس بجواره، منذ زواجهما لم يختلفا أبدًا، عرف كلاهما طباع الآخر، وأصبحت العلاقة تتم بشكل آلى، تعلم هوايته فى تأمل غروب الشمس، يلتقط ورقة نعناع ويضعها فى كوبه.

يفكر لو أن كل أيامه مثل هذا اليوم، لو أن ابنه يرضى مثله بالحياة ويتزوج ابنة خالته التى تشبه أمه، ويحيان معًا فى صلاح بال.