إبراهيم المطولى يكتب: أبراج الخيال
بينما يُمسك أبى فأسه ويضرب فى الأرض، وجَدّى يجلس فى ظل شجرة التوت يزكى نار الكانون تحت براد الشاى، ويتحسس الشقوق أسفل قدميه، أتسلق أنا النخلة المائلة فى أول الحقل، أعرف أنهم سيظهرون الآن من الناحية التى تخرج منها الشمس. هناك عند تداخل شواشى النخيل بالسُّحب البيضاء يختلفون فى بعض التفاصيل، مثل طريقة ملابسهم أو لون بشرتهم أو نسبة عدد النساء للرجال، ولكنهم لا يتخلفون أبدًا عن مواعيدهم فى صباح أيام الجُمع.
أحتضن النخلة جيدًا بانتظار ظهورهم، وعندما أرى حافلاتهم من بعيد، تبدو صغيرة ثم تبدأ فى التضخم حتى إذا ما اقتربوا أراهم بوضوح أكبر. أنزل، أجرى ناحيتهم، وأطفال آخرون من حقول مجاورة يتركون حش البرسيم والعزق ويُسرعون بنفس الاتجاه.
عندما تصل حافلاتهم إلى محاذاة سور السرايا القديمة تتوقف، يجلسون على مقاعدٍ عالية، ينظرون إلينا من خلال الزجاج، ثم يترجلون على مهل، يلوحون بأيديهم ويبتسمون؛ فنبادلهم الابتسامات. تحيطهم دهشتنا من كل اتجاه، ونتأمل فى فضول ما يلبسون من سراويل قصيرة، وما يحملون من حقائب جلدية ونظارات شمسية، نرى أنفسنا فيها منعكسين صغارًا كأقزام أفلام الكرتون.
يستقرون جميعًا على الأرض، فتتخطانا أبصارهم إلى ما وراءنا من حقول وجنائن. يتأملون عَالَمَنا باندهاش، يُخرجون كَاميراتهم، يصوبونها نحو آبائنا المنحنين على زرعهم، والأجداد الجالسين فى الظل، وبهائمنا التى تبادلهم الدهشة، ربما لأنها لم تعتد بشرًا بهذا الملبس، أو لون البشرة. يكتفون منا.. فيولون وجوههم ناحية باب السرايا، يفتح لهم الحارس العجوز الباب الموصد فى أغلب الأوقات، وحينها تحين لنا لحظات نادرة الحدوث لمشاهدة الداخل؛ مبنى قديم لسرايا جميلة، أبوابها ضخمة ونوافذها تمرر الرجل واقفًا، فوقها تجسمت امرأة بارعة الجمال.. محاطة بورود مختلفة الألوان، وأشجار برتقال ورمان وعنب، وأخرى لا نعرف لها أسماء.
يتولى واحدٌ يشبهنا الكلامَ بلغتهم، وهو يشير إلى أبراج الحَمام فى الداخل، الحَمام الذى لا يمل من الطيران عاليًا وبعيدًا فى السماء، يعود ويحط من جديد على أفرع الأشجار الجافة المغروزة فى بُرْجه الطينى العتيق. الأبراج بالأساس تعود ملكيتها للـرجل الذى كان يمتلك كل العزب قديمًا. وقتها كان للمكان رهبته لدرجة أن لا أحد من الفلاحين كان يستطيع أن يمر من هنا راكبًا حماره، بل ينزل ويسحبه وراءه حتى نهاية السور الطويل. ذهبت الرهبة الآن وبقيت أبراج الحمام. بعدما مات الرجل واستقر أبناؤه فى المدن الكبيرة، ولم يعد للمكان سوى حارس أسمر وهَرِم، لا ينام أبدًا، حيث يفاجِئ المُتلصصين دائمًا من وراء السور.
تأخذ الأبراج جُزْءًا من حكايات أبى مع جيران الحقل فى العَصارى التى بلا آلام فى الظهر، يحكى رجل عمل فى السرايا قديمًا عن الطرق الكثيرة التى تُحضِّر بها الخادمات الحَمام محشوًا ومشويًا ومغطى بطبقة خفيفة من العسل، يؤكد أن له طعمًا لا يمكن لك أن تنساه إن نالك الحظ يومًا وتذوقت. وأما عن جعله الرجال رجالًا، فهذا ما يكتفى بالتلميح إليه أمامنا نحن الأولاد. يحكى آخر أنه قديمًا كانت الخادمات تخرجن لمُقابلة السياح حاملات أكواب ماء مذهبة الحواف، وأطباق فاكهة بيضاء مرصعة بالورد.
كما أن الذين يجلسون على مقربة من السرايا يَمصون أعوادًا لا منتهية من القصب الحلو بصوت مسموع، يحكون عن الثعبان الذى عاش طويلًا فى الأبراج، يقفز ولا يزحف، يبتلع حَمامة كاملة فى كل مرة يجوع فيها، ثم يتكور على ذاته بانتظار أن تتحول فى أحشائِهِ إلى مجرد عصارة، لم يراه أحد إلا قلة، لكن يستدلون على وجوده بجلده الذى يتركه كاملًا وقد انسل منه بعدما أبدلَه بالجديد، فشل صفير الكثير من الحواة فى إخراجه. ولكن أخرجه ذلك «الرفاعى» المتجول، والذى عرف نفسه بأنه قادم من أقصى الصعيد، نادى الثعبان وقرأ «العزيمة»، لكن الثعبان رفض الخروج. فأتى الرجل بمرآة، ووضعها أمام شقه.. فخرج!
وقف الثعبان رافعًا رأسه لأعلى، وفلطح رقبته فى مشهدٍ مُريعٍ، على جسده أثر جُروح عديدة فى محاولات قديمة لقتله. صاح الناس وتراجعوا للوراء، ذكَّرهُ الرجل مرارًا بالميثاق المعقود بين أبناء الطريقة والثعابين، عهد سيدنا «أحمد الرفاعى» وهو العهد ذاته الذى جعل الرجل يَمنع الخفر من قتل الثعبان؛ بحثًا عن الجوهرة التى تحت جلده. سلم الثعبان نفسه له طواعيةً، فأمسكه بحنو بالغ وقال وهو يرفعه عاليًا ويتأمل جسده الذى يتلوى: إنه غريبٌ وليس من هنا. أما عن خروجه وخدعة المرآة، فشرح للناس حوله عندما سألوه موضحًا: حسبها وليفة. وابتسم فلمعت سِنة فضيةٌ فى فمه. وضعه فى كيس قماشى تتلوى داخله ثعابين أخرى وحمله على ظهره ومشى تحيطه هالة من الدهشة والرهبة وتتبعه الأعين حتى غاب عن الأنظار. أما أنا فقد كنت شاهدًا على الكارثة التى مُنيت بها الحمامات، هى عندما أمطرت السماء ثلجًا، نعم ثلجًا بلوريًا وشفافًا- وهو حدث نادر حتى أن البعض أعده من علامات الساعة فكل الحمامات التى كانت خارج البُرْج للعب أو بحثًا عن شىء يؤكل، ماتت فى الطريق وهى تحاول العودة، تحت قذف الثلج القاسى والمستمر. لعدة أيام استمر الفلاحون فى إزالة الحَمام المتشنج والمتيبس على وضعيات مختلفة للموت المُفَاجِئ، من فوق البيوت وفى الحقول.
استعد الغرباء للرحيل، يعودون إلى حافلاتهم، أما نحن فنقف تحت نوافذها الكبيرة، ونكرر بإنجليزية ركيكة.. متوارثة ومنقولة عن بعضنا البعض: «أَعْطِنى تذكارًا» يلقون علينا ما تجود به أيديهم الناعمة؛ فنتقاتل عليه، حتى ليخدش بعضنا وجوه بعض. نلت مرة ممحاة تفوح منها رائحة الفاكهة ونلت معها جرحًا أسفل العين. كانت تبدو طبيعية جدًا، ومُقنعة حتى أننى كنت أحاول تذوقها كلما جُعت وأنا عائدٌ من الغيط. نعود وفى عودتنا نتفرج على ما طالته أيدى الآخرين، بالونات ملونة بكل لون، وأقلام لها حبر يلمع، ووحدات من الشوكولاتة الرائعة.
وعندما جاءت المدارس ذهبت بى أمى وأجلستنى فى الفصل، وأكدت على ألا أذهب قبل أن يسمحوا لى بذلك؛ لذا كنت أفتقد أبراج الحَمام كثيرًا، ولكنى وأنا أقلب صفحات كتابى المدرسى دُهشت حين رأيتها، وبجوار الصورة كلمات قرأها الأستاذ هلال: «أبراج الحَمام إحدى معالم الفيوم السياحية». يملؤنى ذلك الشعور المبهم والجميل بأن هذه الأبراج لى. مؤكد أن أولادًا آخرين فى قرى ومدن أخرى يرون الصور وهم يشعرون بالغيرة. لذلك أى شىء أذهب لعمله بموجب حاجة ذاتى أو استجابة لطلب أبى أو جدى؛ أجعل طريقى منحنيًا بحيث يمر بالأبراج. أتوقف لثوانٍ، أرفع رأسى لأعلى وأفكر... يومًا ما سيكون لى أبراجى الخاصة، التى بنيتها فى خيالى واعتنيت بتفاصيلها.
أتصور فى أوقات أحلامى النهارية السياح وهم آتون، أتكلم معهم بنفس لغتهم، يصوبون إليها آلات تصويرهم ويسجلون لحظات خروج الحَمام من بيوتها الفخارية فى الأبراج، يصعد إلى السماء؛ فيتشكل بكل شكل هندسى.. حينها سأقدم للغرباء كواجب ضيافة أكوابَ الماء فى قاعها أوراق الريحان والنعناع، وفناجين شاى وقهوة. وفى يوم مدرسى كان سيبدو رتيبًا وعاديًا لو لم يدخل أستاذ هلال، فوقفنا احترامًا، أمرنا بالجلوس فجلسنا، أمسك بالكتاب يقلب أوراقه كى يصل للدرس الجديد، مرت صفحة الأبراج وتخطاها ثم عاد إليها قال:
- رأيت منكم من يذهب إلى الأبراج وقت مجىء السياح. صحيح؟
هزات خفيفة للرءوس ثم الصمت. فنحن لا نعرف أيسعده هذا أم يغضبه، كى نحدد الإجابة المناسبة.. أكمل هو:
- يلقون إليكم الأقلام والبالونات وأشياء تافهة أخرى.. تتصارعون عليها لتأخذوها من الأرض. صحيح؟
نفس الهزات والهمهمة التى لا تعنى بالقطع نعم أم لا، فأكمل:
- فى نفس اللحظة التى تتعاركون فيها على تلك التوافه يصورونكم بكاميراتهم وهناك فى بلادهم عندما يعودون يخرجون تلك الصور قائلين لبعضهم: انظروا.. إنهم هناك فقراء وشحاذون. ثم قلب الصفحات وبدأ فى شرح الدرس الجديد. لم أفهم مما يقال شيئًا، كنت فى حزنى وصدمتى الخاصة. لباقى اليوم ولأيام كثيرة قادمة أَمسك شعورًا لا أعرف إن كان هو الحزن أم الغضب بقلبى. فجعلنى لا أفهم شيئًا مما يُقال، ولا أرفع يدى لأجيب عن الأسئلة.
هدمت كما بنيت فى الخيال أبراجى. صرت أتحاشى المرور من هناك، وعندما أمر لا أرفع رأسى، لم أعد أعرف حتى إن كان لا يزال هناك حَمام أم مات الباقى منه فى موجات صقيع تالية.