حتى شيخ النقاد ضبط متلبسًا بالسرقة!
مسلسل اتهام الأدباء والعلماء بالسرقات ليس جديدًا منذ شكسبير بل هناك من أنكر وجوده أصلًا، وطال الاتهام داروين صاحب نظرية التطور، وكذلك أينشتين صاحب النسبية، فكلاهما قد سطا على جهد غيره، وعندنا اتهم طه حسين ود. محمد حسين هيكل ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم، ولكنها اتهامات سقطت لأنها بلا دليل، أما الواقعة التى سأحكيها الآن، فهى شهادة د. عادل النادى أحد أهم الإعلاميين بالبرنامج الثقافى لأكثر من ربع قرن، وهى ضمن شهادات إذاعية ضمنتها كتابى الذى لم ينشر بعد عن تاريخ الإذاعة المصرية، وهكذا حدثنى د. عادل النادى:
«نهاية عام ١٩٨٠ تم تعيينى فى الإذاعة، بينما الناقد الكبير د. محمد مندور توفى ١٩٦٥، وهو ما يعنى أننى لم أحظ بمقابلته، وإن كنت قد تتلمذت على كتبه وأنا طالب بأكاديمية الفنون، وكانت ابنته المذيعة ليلى مندور مديرة لى فى بداية عملى الإذاعى، وفى إحدى حلقات برنامج «مع النقاد» تمت مناقشة أعمال الشاعر على الجارم بحضور ابنه الطبيب أحمد على الجارم، وسألت ضيفى الحلقة د. الطاهر مكى الأستاذ بكلية دار العلوم، والشاعر عبداللطيف عبدالحليم الشهير بأبوهمام، سؤالًا غريبًا: هل سرق د. محمد مندور كتابه «نماذج بشرية» من كتاب «فن النقد» للكاتب الفرنسى جان كالفيه، كما يقول ناقد مغربى؟ وجاءت الإجابة الأغرب الصادمة: أن ذلك كلام قد تم تداوله بالفعل وإن لم يقم دليل عليه، وانقلبت الدنيا فوق رأسى بعد إذاعة تلك الحلقة، وتم عقابى بالخصم من مرتبى، وكان مدير «البرنامج الثقافى» الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، أما رئيس الإذاعة فكان الشاعر فاروق شوشة الذى سألته عن سبب هذه العقوبة، فبررها بأننى أهنت رمزًا ثقافيًا، وما هكذا تعودنا منك وعلى أن أصلح الأمر بحلقة تكريم عن د. مندور. وتناولت كتابًا لفؤاد قنديل عن «مندور ناقدًا» استضفت فيه د. جابر عصفور، ود. أحمد درويش، وقد سألتهما قبل التسجيل عن حقيقة سرقة د. مندور، ففاجآنى بتأكيدها، ولكنهما لا يستطيعان التصريح بذلك لأنهما بذلك يحطمان رمزًا ثقافيًا!، وقد دافع عنى فى «الأهرام» د. الطاهر مكى، وأبوهمام، بينما هاجمتنى الشاعرة ملك عبدالعزيز زوجة مندور، على صفحات مجلة «الإذاعة والتليفزيون» وقالت إن مندور كان يمليها كتابه بحجرة النوم وهو يقطعها جيئة وذهابًا، فرددت عليها: وما أدرانا أنه كان يقطع الحجرة جيئة وذهابًا وهو يمليها بنات أفكاره وليس الكتاب المترجم؟!.
وقد عاتبنى أستاذى د. فخرى قسطندى أستاذ ورئيس قسم الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، وقال لى إننى أخطأت لاتهامى شخصًا بغير دليل. ورغم أن الرجل كان مسيحيًا إلا أنه كان يبدأ درسه «بسم الله الرحمن الرحيم»، وقد نصحنى إن أردت أن أكون عظيمًا أن أقرأ القرآن مرتلًا ثم أقرأه مجودًا- وضرب لى مثلًا بأم كلثوم وعبدالوهاب- وأنهما لم يصبحا عظيمين فى مجالهما إلا لأنهما كانا يقرآن القرآن- ووعدنى حتى أبرئ نفسى من اتهام د. مندور بلا دليل، أن يحضر لى الدليل حين يسافر إلى إنجلترا، فقد كان أستاذًا هناك بإحدى جامعاتها، ولما لم يجده، سافر إلى فرنسا ليعثر على كتاب المؤلف الفرنسى الذى قدمته لزميلة لنا تجيد الفرنسية اسمها إيناس الغيرينى، لتقارنه بكتاب مندور، وتقدم لى تقريرًا بملاحظاتها، وعادت لى بعد ثلاثة أيام، وكأن صاعقة أصابتها وهى تقول: يا مصيبتى يا مندور، يا مصيبتى يا مندور. فقد ترجم مندور الكتاب الفرنسى نصًا وحرفًا بكل فصوله بدون تصرف، وزاده فصلين من عنده، ونسبه إلى نفسه، وضرب فاروق شوشة بيديه على رأسه قائلًا: يا خبر أسود، ليه تعمل فينا كده يا دكتور مندور؟!- ولكن رغم تقديمى لدليل براءتى، فإن العقوبة بالخصم لم ترفع، كما ظلت ليلى مندور تخاصمنى حتى رحيلها، رغم علاقتى العائلية بها، وحاولت أن أشرح لها أن لا ذنب لها فيما فعله أبوها، ولكنها قاطعتنى، وقالت لى: «لا ذنب لى، ولكن يكفى أنك فضحت والدى وشهرت به- مع أننى لم أكن أقصد إلا الحقيقة الأدبية، فهى غايتى ومطلبى».
ومن العجيب أن د. مندور رغم أنه من تلاميذ طه حسين الذى كان يأمل فيها خيرًا، إلا أنه صدم فيه كما يقول لسكرتيره د. محمد الدسوقى فى كتابه «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره»: «أوفدته فى بعثة إلى باريس ومكث فيها اثنتى عشرة سنة، ولم يتمكن طوال هذه المدة إلا من الحصول على درجة الليسانس فى اليونانى، بسبب عبثه ولهوه وعدم إخلاصه للعمل»، ومن ثم يرى طه حسين- عكس كثيرين- «أن الدكتور مندور ليس ذا بال فى الثقافة، وليس له دور فكرى هام فى حياتنا الثقافية»- ولكن طه حسين لا ينكر للدكتور مندور فضائله الشخصية حين يقول عنه: «والذى أحمده للدكتور مندور وفاؤه وحسن تقديره لأساتذته وأدبه معهم فى الجدل والنقاش».
ولأن د. مندور كان ينتمى للتيار اليسارى، فقد حظى برعايته. ويلاحظ أن بعض من نعتبرهم «رموزًا» لعب اليسار المصرى دورًا فى تنجيمهم لانتمائهم إليه حتى لو لم يكونوا أصحاب موهبة حقيقية، فقد كان التيار اليسارى مسيطرًا على الصحافة والإعلام طوال فترة عهد عبدالناصر، وقد حاولوا الحط من قدر نجيب محفوظ ومهاجمته نقدًا غير موضوعى، لأنه لا ينتمى إليهم، ولكن موهبته كانت قد تجاوزتهم، وكانوا يحتفون بكل من يهاجم الرئيس السادات، ومنهم أحمد فؤاد نجم الذى لو كان مقتنعًا بموهبته فعلًا ما سطا على إبداع لفؤاد حداد ونسبه لنفسه.