السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فى مواجهة أعداء الحياة

طه حسين: كيف رخصت حياة المصريين على الإخوان؟

طه حسين
طه حسين

نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أقطار الأرض، وإذا كل واحد منّا كان آمنًا أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التى لا يسلطها الإنسان على الإنسان وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة. 

إنا كنا غافلين حقًا، خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذى لا يحب العنف ولا يألفه ولا يحب أن يبلغ أرضه فضلًا عن أن يستقر فيها.

ولِمَ لا؟.. ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبّها الجيش وفى يده من وسائل البأس والبطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء، ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفسًا ولا يسفك دمًا ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتى من الأمر ما لا سبيل إلى إصلاحه غدًا أو بعد غدٍ. 

كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سماتها، مشرقة إشراق شمسها، تسعى فى طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئنًا ناشرًا للخصب والنعيم من حوله، تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين، ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غبارًا ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن. 

كذلك عرفنا مصر فى عصورها المختلفة، وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فأخرج الطاغية، ولكنه أخرجه موفورًا يحيا كما يحب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ فى نفسه قليلًا ولا كثيرًا. 

واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين فى يوم من أيام الصفو هذه التى تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حبًا ودعة وأمنًا وسلامًا. 

ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقًا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم فى الوطن ولإخوانهم فى الدين ولإخوانهم فى الحياة التى يقدسها الدين كما لا يقدس شيئًا آخر غيرها من أمور الناس. 

ما هذه الأسلحة؟ وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذى يمكن؟ وما هذه الخطط التى تدبر؟ وما هذا الكيد الذى يكاد؟ لم كل هذا الشر؟ ولم كل هذا النكر؟ ولم رخصت حياة المصريين على المصريين، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين، وكما رخصت حياة الإفريقيين والآسيويين على الإنجليز؟ 

يقال إن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذى لم يحرّم شيئًا كما حرّم القتل، ولم يأمر بشىء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينهَ عن شىء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ولم يرغب فى شىء كما رغب فى العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شىء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغى.

هيهات، إن الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين وإنما يعصم دماء المسلمين متى شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الإثم وأبشع الجرم، وإنما هى العدوى المنكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التى تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء بغير الحق، ويستحب فيها الموت لأيسر الأمر. 

جاء بعضها من أعماق التاريخ، من أولئك الذين قال فيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شىء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم فى الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون. 

أنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير فى نفوس الأخيار حزنًا ولوعة، وفى نفوس غيرهم ميلًا إلى الشر ورغبة فيه وتهالكًا عليه. 

لم يأت هذا الشر الذى تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها فى نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح وأطهر من ذلك، وإنما جاء من هذه العدوى. 

والخير كل الخير هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التى تجتاح الشعوب بين حين وحين، وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التى تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعًا، فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذى يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيقربها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فسادًا وجورًا؟