الجمعة 22 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

علا عبدالمنعم تكتب: كريستال

كريستال
كريستال

كمن يخاف اللقاء بمن يحب بعد طول فراق، فتحت دولاب أنتيكاتها القديمة بحرص شديد مصحوبًا بهدوء ليس من شيمها، تناولتنى من داخله بحذر فضحته ارتعاشة يدها ونشيج مكتوم صاحبه تساقط در عينيها؛ كأس قديم من الكريستال لا شقيق لى، سنوات طويلة مرت وأنا حبيس هذا الدولاب العتيق، أرى المحيطين يتحركون من خلف جدار زجاجى صلب يمنع عنى الهواء والأتربة، لكنى أبدًا لم أسمع لهم صوتًا يكسر صمت المكان. 

خطواتهم الصاخبة وأنفاسهم المتواترة كثيرًا ما كانت تشعرنى بالأنس والسعادة، تمنيت يومًا لو صرخت فيهم مطالبًا إياهم بالحديث، أو حتى بالشجار المصحوب بكلمات السباب المتبادلة بين البشر الذين يتناهى صوتهم إلى مسامعى من الخارج فى أوقات فتح الدولاب قبل أن يغلق الخواء من جديد. 

اختلف الأمر فى هذه المرة؛ لم تنظف صاحبتى البيت كله قبل أن تصل لدولابى، فلم أسمع ارتطامات منفضة السجاجيد أو أزيز المكنسة الكهربائية، وكذلك لم تصل للزجاج الذى يحفظنى زخات المنظف السائل المنطلق مضغوطًا من عبوته. 

كانت المسكينة تنتحب بصوت عال وقد اتشحت بالسواد، تحسستنى بحزن بالغ ممزوج بجزع مؤلم، أخرجت من داخلى تلك الورقة المطوية التى كثيرًا ما أخرجتها وقرأتها ثم أعادتها، تلمست تعرجات وانحناءات سطحى الخارجى، اقتربت بأنفها منى؛ تشممتنى وكأنها تستنشقنى حتى ظننت أنها ستبتلعنى داخل أنفها، حَرَّكَت شفتيها بكلمة لا صوت لها لكنى أجزم أنها قالت حبيبى، ارتججت من داخلى حتى تمنيت لو احتضنتها فى تلك اللحظة، دقائق مرت قبل أن تتمالك نفسها وتتماسك من جديد، تشممتنى مرة أخرى قبل أن تهم بإعادتى إلى محبسى، أرغب فى الصراخ رافضًا ذلك السجن الأبدى الذى أودعونى فيه رُغما عنى، لكنى فجأة انزلقت من يدها لأتهاوى على الأرض مُحَطَّما إلى آلاف البلورات المتناهية الدقة والصغر، تناثرتُ على مساحة كبيرة، انطلقت صرختها تشق صمت المكان حتى إننى فى تلك الحالة المتشظية قد نسيت ماهية الصمت القديم لتحيطنى أناتها الخالية من الكلمات من كل جانب؛ غير آبهة لألم اختراق البلورات لقدميها سارت، وقد انبثق الدم منها حتى استحال الرخام الأبيض أحمر فى محاولة يائسة للملمة أشلائى المبعثرة، تضغط على ما نجحت فى جمعه، وكأنها تود لو توحد معها وسار فى أوردتها فتقطَّر من يديها دموع حمراء ساخنة. 

تجمَّع سكان البيت فى محاولة لتهدئة روعها؛ بحديث لعبت فيه الأصابع والشفاه لغة البطولة، لكن كل محاولاتهم كُللت بالفشل، لم تستطع أن تنقذ منى سوى ساقٍ محطمة، حملت المتبقى منى بكل لوعة وأسى وقد تلوثت بالدماء، ووضعتنى مرة أخرى بالدولاب مصحوبًا بالخطاب المخضب بالدم، وأغلقته بحرص شديد وكأنها تخشى إزعاج ميت فى مقبرته، نظرت لى عبر الزجاج بعين باكية، بينما يديها المدممة تمسح دموعها المالحة بلا اكتراث.