الجمعة 22 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فاطمة الشريف تكتب: الشارع المطل على بيتها

الشارع المطل على
الشارع المطل على بيتها

أنا والليل وهذا الشارع القديم، قديم جدًا، قِدم حصى الأرض ورمل البحر، عرفتها قبل مولدى، مذ كنت روحًا فى عالم الأرواح، تآلفنا، تحدثنا وتواعدنا، هنا فى نفس المكان، لقاؤنا الأول مجرد نظرة خاطفة، عرف قلبى قلبها، وتعانقت أرواحنا، أما الذى كان غريبًا بيننا، جسدى، فهو لم يمسَّها بعد. أخذتنى أماكن كثيرة، بعضها شاهدتها بالفعل والآخر لم أشاهده حتى الآن، قلبى معلق بتلك الأماكن، مثل «البندقية» فكثيرًا ما ركبنا المراكب، بحيرة صغيرة تمر على بيوت عتيقة، أخذتنى ذات مرة حيث جبال الألب، وتنزهنا فى المتاحف الفنية، أذكر أنها رسمت لى لوحة ما زالت موجودة فى بيتها، أريد استعادة ملامحى من لوحتها، أريد ابتسامتى التى سرقتها، أريد استرجاع إحساسى بالأشياء، كيف أصبحت فارغا إلى هذا الحد؟! 

هذا الليل يهزنى هزة عنيفة، ينام الناس وتستيقظ جميع جوارحى وذكرياتى معها، الليل الأسود والبحر الأسود والسماء السوداء، كل شىء مظلم مثل قلبى، هى التى أضاءت هذا الظلام من قبل والآن تركته أكثر ظلامًا، الليل شبح يزحف نحوى، البيوت تمشى على قدمين، تتبدل الأماكن، النجم يلوح لى ويذهب، فركت عينى، ارتجفت أطرافى، لا أريد المرور من هذا الشارع، رأيت صنبورًا يفتح نفسه، وكوبًا تملأ براد الشاى، والبراد يوقد النار ويغلى ثم يصب الماء الساخن بعدما غرفت الملعقة السكر والشاى فى الكوب، لا بد أنهم يحتفلون بى، تقدمَ كرسى حتى أجلس عليه، الشارع ضيق به ممر يؤدى للبحر، يأتينى صوته، وأمطرت السماء. 

باب بيتها منقوش عليه أزهار ملونة بالأزرق، المطر يسقط عليها فيعيد لها الحياة، تصبح وردة يانعة وتنبت خضرة ويغسل التراب، تمسك يدى وتجرى، تحت سماء تركيا، تجرى وتلعب، تحب السمك المشوى، ألتفت فإذا بالسمك يقفز من البحر، ينظف نفسه من القشور ويلقى بنفسه على الشوَّاية، أحدق، رائحة الشواء تتسلل إلى أنفى بلطف، أشتهيه أكثر، فيدفعه الفحم على طبق منقوش، تتزحزح الطاولة لتصبح أمامى، يقدم الطبق نفسه إلىّ، أنظر بزهو فإذا بطيف يخرج من بلكونة بيتها، كانت تغمز لى، وتأخذ شالها الوردى من على حبل الغسيل، ابتسمت وألقته على وجهى مبللًا بالمطر، يحمل الندى والعطر والشوق، كنت كلما مررت هنا، لم أستطع إكمال الطريق. 

تسيل دموعى وأنا أمر بهذا الشارع، الذى كان فيه بيتها، يعود النبض إلى قلبى، وأستعيد روحى مرة ثانية، أتحسس وجهى، أنزع من شفتى قبلاتها، أزيل آثار يديها من يدى، أرد لعينى نظراتى الهائمة، أسترد كلماتى العاشقة، وأقتل شهوتى للسمك المشوى، أفرغ ذاكرتى من كل الأماكن التى زرناها، وأطرد من أذنى كلماتها، أعطيها شالها الوردى وأمحو الزمان العالق بين ما كان وما لم يكن، وأمشى حرًّا، خفيفا كفراشة، أعبر الشارع المؤدى للبحر، وأتجاوز بيتها.