الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ع المطبخ.. كيف أنقذ روتين الحياة المنزلية فرجينيا وولف من الانتحار؟

فرجينيا وولف
فرجينيا وولف

- الحياة فى منزل ريفى أنقذت الكاتبة البريطانية من الاكتئاب والاعتزال

- الطبخ والتسوق ومطاردة الفراشات جددت الشغف لدى الروائية الشهيرة

فى أبريل الماضى، صدر كتاب: «ساعات ريفية: حياة الريف لفرجينيا وولف وسيلفيا تاونسند وارنر وروزاموند ليمان»، عن دار النشر الرائدة «بنجوين»، لمؤلفته الكاتبة البريطانية هارييت بيكر، والتى رسخت فيه قيمة الحياة الروتينية العادية، التى يمكن أن تنتج عنها أعمال أدبية خالدة، رغم بساطة هذه الحياة.

وتحكى «بيكر» فى حوالى 365 صفحة قصة 3 نساء مختلفات: الكاتبة فرجينيا وولف، التى تعد من أيقونات الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوى فى بريطانيا خلال القرن العشرين، وسيلفيا تاونسند وارنر، الشاعرة والمترجمة والروائية البريطانية، روزاموند ليمان، الكاتبة الروائية والمسرحية والمترجمة، واللاتى انتقلن فى فترة ما من حياتهن إلى الريف، ليترك بصمته على إبداعاتهن وإنتاجهن الأدبى.

العزلة 

تؤكد هارييت بيكر فى كتاب «ساعات ريفية» قيمة اللحظات الهادئة والحياة الروتينية الريفية، التى يمكن أن يتوقف فيها المرء لمراقبة فراشة على حافة النافذة، أو تدوين وصفة طعام، أو استخراج البطاطس من التربة، أو الجرى وراء ماعز صغيرة ضلت طريقها إلى حديقة المنزل، أو التأمل فى المناظر الطبيعية.

وتُبين «بيكر» كيف مهدت هذه التفاصيل اليومية للمبدعات الثلاث بطلات كتابها، أن تجد كل منهن طريقها إلى النقاهة والتعافى، وقبل كل شىء إلى الحرية الشخصية والازدهار الإبداعى، بعد فترات طويلة من «الركود الأدبى».

وتشير إلى أن الساعات الريفية لكل من «وولف» و«وارنر» و«ليمان» كانت هادئة تأملية، مليئة بسلسلة صغيرة من الأحداث، فى المطبخ والحديقة، وأثناء التنزه فى الريف الإنجليزى، حيث عملن على جمع هذه الأحداث وتخزينها فى عقولهن، لاستخدامها لاحقًا فى تجاربهن الأدبية التالية، بعدما ساعدهن الريف على إيجاد سحر جديد فى الطقوس اليومية.

ويناسب كتاب «ساعات ريفية» الحاضر أيضًا، فلا يمكن لأحد أن ينهى قراءته دون أن يستنتج أن أهم شىء بالنسبة لأى كاتب هو العزلة، وهو ما عبرت عنه فرجينيا وولف بقولها: «أرغب فى المشى بمفردى والتصالح مع عقلى»، وهو يشبه إلى حد كبير ما جاء فى رواية «غرفة تخص المرء وحده»، التى نشرتها «وولف» عام ١٩٢٩، وقالت فيها: «لكى تكتب النساء يحتجن إلى دخل مادى خاص وغرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة».

التعافى 

كشفت هارييت بيكر عن تفاصيل ما كتبته عن فرجينيا وولف فى «ساعات ريفية»، من خلال مقال نشرته صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، حمل عنوان: «كيف مهدت يوميات فرجينيا وولف الطريق لإبداعاتها الأدبية؟».

وذكرت «بيكر» أن «وولف» احتفظت بدفتر صغير دونت فيه جزءًا من ملاحظات الطبيعة الريفية، وآخر لوصفات الطعام وطلبات المطبخ، فى إطار توثيق حياتها اليومية فى منزل «أشهام» بمقاطعة «ساسكس» جنوب إنجلترا.

وأضافت: «عندما وصلت فرجينيا إلى أشهام، الذى انتقلت إليه بعد زواجها من ليونارد وولف عام ١٩١٢، للتعافى من نوبة اكتئاب، قبل أن ينتقلا إلى منزل مونك فى ١٩١٩، جمعت قوائم كثيرة مكتوبة بخط يديها عن ملاءات الأسرة وأغطية الوسائد ومناشف الحمام، وغيرها من الأمور المنزلية».

وأكدت أن دفتر يوميات «وولف» فى «أشهام» ليس سجلًا عاديًا، بل يخبرنا عن كيفية تحول عقل الأديبة الإنجليزية فى هذه الفترة من حياتها «١٩١٢-١٩١٩»، فترة التعافى المطول من المرض العقلى والحرب فى بلادها، إلى الأمور المنزلية. فمن خلال تحويل انتباهها إلى هذه الأمور، استطاعت الخروج من المرض إلى الحياة اليومية.

وواصلت: «القوائم التى وردت فى يوميات وولف، خلال معيشتها فى منزل أشهام الريفى تبدو حميمية للغاية، ورغم أنها تبدو كتراكم للتفاصيل المادية، توفر أيضًا مفتاحًا لتلك السنوات والتجارب الأدبية التى نتجت عنها».

وروت ما حدث مع «وولف» فى هذه الفترة، التى ألفت فيها رواية واحدة بعنوان: «رحلة الخروج»، التى كتبت مسودتها الأولية عام ١٩١٢، لكنها لم تر النور إلا فى عام ١٩١٥، مشيرة إلى أنه منذ زواجها من ليونارد وولف عام ١٩١٢، كانت مريضة، وبعد سلسلة من الانهيارات ومحاولات الانتحار، أحضرها إلى «أشهام»، وهو منزل كبير يقع فى مقاطعة ساسكس.

وأضافت: «كان تعافيها بطيئًا فى البداية، وبدءًا من عام ١٩١٥ سُمح لها بالمشى وكتابة صفحة كل يوم، مع تشجيعها على شرب أكواب من الحليب، وأشرف زوجها ليونارد على هذا الروتين، الذى وصفته وولف لصديقة بأنه يتلخص فى (المشى فى السرير والنوم!)».

وبحلول صيف ١٩١٧، كانت «وولف» فى المرحلة الأخيرة من تعافيها، وكانت ممرضتها قد غادرت منذ فترة طويلة، وانتقلت بسهولة بين «أشهام» فى «ساسكس»، و«هوجارث» فى ريتشموند بالعاصمة لندن. وفى ٣ أغسطس من هذا العام، استأنفت «وولف» تدوين مذكراتها فى «أشهام»، بعد توقف دام عامين.

دونت «وولف» ملاحظاتها عن الطقس والحشرات والطيور التى شاهدتها أثناء سيرها، وحتى حصتها الغذائية اليومية من الفطر أو التوت، وما تناولته على العشاء، والأنشطة المنزلية. كما كتبت عن أسعار السلع، وأعمال البستنة وما يحدث فى الحقول، وكيف كان يحصد السجناء الألمان القمح، وغيرها من الأحداث اليومية.

ووفقًا لـ«بيكر»، نادرًا ما استخدمت «وولف» لفظ «أنا»، خلال تدوين يومياتها فى دفترها الصغير، ومع ذلك فإن من يقرأها سيشعر أنه يشاهدها وهى تمشى وتتنزه، أو تحيك بعض الملابس فى الشرفة، مرتدية قبعة ريفية مصنوعة من القش.

خلال هذه الفترة، أصبحت عملية إعداد القوائم وحفظ المذكرات جزءًا من ممارسات «وولف»، المتمثلة فى الاهتمام بالأشياء الصغيرة وتدوين تجربتها، بشكل مقتضب وبدون زخارف.

هذه المذكرات أو اليوميات البسيطة بدت غير ذات أهمية بالنسبة لكُتاب السيرة الذاتية، مقارنة بالأمور الأهم فى مذكراتها ورواياتها الطويلة اللاحقة، لأنها لا تكشف شيئًا عن أفكارها أو طموحاتها الأدبية، أو مخاوفها بعد نشر روايتها الأولى الصعبة، وكيف كانت الأعوام من ١٩١٢ إلى ١٩١٩ سنوات ركود أدبى لـ«وولف»، تضاءلت فيها إنتاجاتها بسبب المرض والحرب العالمية الأولى.

لكن من وجهة نظر «بيكر»، فإن المرء يصنع قوائم ويوميات، مثل التى دونتها «وولف» فى «أشهام» ليهدئ نفسه ويحافظ على ثباته فى اللحظة التى تهدده فيها الحياة بالإرهاق والتعب، وكأنها رسالة إلى الذات المستقبلية، بعد سنوات من الآن، لتأسيس منزل فى مكان غير مألوف، للتعافى ومحاولة المضى قدمًا.

الشفاء

من خلال ملاحظاتها للأشياء الصغيرة والبسيطة فى منزلها الريفى «أشهام»، لم تتوقف فيرجينيا وولف عن المحاولة، حتى تمكنت من استعادة قدرتها على الكتابة بالفعل، بعد ٧ سنوات من كتابة روايتها الأولى عام ١٩١٢.

وكتابة يوميات حياتها المنزلية، كانت محاولة من «وولف» للحصول على نسخة أكثر حرية من الحياة، وهو ما ظهر فى تعليماتها لضيوفها، خلال مشاركتهم لها فى الأمسيات التى كانت تقيمها فى منزل «أشهام»، وجعلها على أعتاب أسلوب جديد فى كتاباتها اللاحقة، فقد كانت مستعدة للتخلى عن التقاليد الروائية من أجل كتابة أكثر مرونة.

وفى يوليو ١٩١٨، بدأت «وولف» تستعيد عافيتها الأدبية من جديد، عن طريق كتابة قصة قصيرة تحت عنوان «حدائق كيو»، وهى قصة صاخبة تبرز عالم الزهور، وحياة الحشرات المزدحمة، مستعينة بنقوش ورسومات شقيقتها الرسامة «بيل»، التى تصور امرأتين ترتديان قبعات ذات خلفية مورقة بالزهور، وذيل فراشة ويرقة.

وعلى الرغم من أن أحداث «حدائق كيو» تدور فى لندن، صورت «وولف» فيها مشاهد من طبيعة «أشهام» والحياة المنزلية هناك، من بينها مشى الحلزون بين المساحات الخضراء الشاسعة، وأحاديث النساء العابرة عن السكر والدقيق والخضروات.

وترى «بيكر» أن قصة «حدائق كيو» كانت محاولة لإظهار الحياة كلها، سواء البشرية أو الحيوانية، وواحدة من عدة «أشياء صغيرة» كتبتها «وولف» خلال تلك الفترة، واصفة إياها بأنها نص رشيق يشعر القارئ فيه بالتغيير الجذرى فى أسلوب وولف، والذى وضعها فى طريقها إلى روايات طويلة معروفة، مثل «غرفة يعقوب» فى ١٩٢٢، و«السيدة دالواى» فى ١٩٢٥.

وتؤكد أن «سنوات وولف فى منزل أشهام كانت سنوات من المتعة الروتينية، المكونة من المراقبة والملاحظة، والتجارب الإبداعية والتجديد»، مضيفة: «من خلال دفتر يومياتها فى أشهام، تستطيع أن ترى كاتبة تحاول الحفاظ على رباطة جأشها، وربط نفسها بالعالم المادى، سطرًا بعد سطر».

وتختتم «بيكر» مقالها عن «وولف» وكتابها «ساعات ريفية» قائلة إنها سمحت لنفسها برؤية فرجينيا وولف وهى تجلس على الأرض لتحصى أغطية المنزل، مشيرة إلى أن السيرة الذاتية تدور فى كثير من الأحيان حول الانتصارات العامة، لكنها يمكن أن تكون أيضًا حول الانتصارات الهادئة والخاصة، وهو ما يبدو أن وولف طبقته فى منزل «أشهام»، وهى تنخل وتفرز وتدون تلك التفاصيل فى دفتر ملاحظاتها، لتهدئ نفسها المريضة هامسة: «أنا أدير منزلى. أنا سيدة بيتى. إذًا أنا بخير».