حكمة فرج فودة
فى العام 1992 صدر للكاتب الدكتور فرج فودة كتابه «الإرهاب» عن الهيئة المصرية للكتاب، وهو الكتاب الذى أهداه إلى روح العميد العظيم الدكتور طه حسين، وفند خلاله الأسس والمنطلقات الأساسية لأفكار الجماعات الإرهابية، ونعتقد أننا الآن فى أمس الحاجة إلى استعادة بعض ما جاء فى هذا الكتاب، لنكون دائمًا منتبهين إلى ما تقوم به هذه الجماعات ولا تريد أن تكف عنه.
مَن منا يتذكر من قطع أطراف ابن المقفع وأجبره على أكلها بعد شيها، لأنه تجرأ على إزجاء النصح للحاكم فى كتابه «رسالة الصحابة»؟.. تقريبا لا أحد، بينما تنتقل كتب ابن المقفع كليلة ودمنة والأدب الكبير والأدب الصغير من الأجداد إلى الأحفاد وأحفاد الأحفاد، ويرتفع ذكره بقدر صدقه مع نفسه ومع الناس، ولو تفرغ لكتابة عرائض المديح وقصائد الثناء لاندثر ذكره فيمن اندثروا، وما زاده عذابه فى النهاية إلا ارتفاعًا فى المكانة وخلودًا فى الذكر.
كان ترتيب اسمى الثالث فى قوائم الاغتيال التى ضبطت لدى تنظيم «الناجون من النار» كما أسموا أنفسهم، أو «الساعون إلى النار» كما أسميهم، ولو لم يحدث ذلك لشعرت بأسى شديد، فالشجاعة تقاس بعداء الجبناء، والسمو يقاس بعداء الوضعاء، والرصاص هو التعبير العنيف عن منتهى الضعف، وعندما سألونى عن تعليقى، أبديت منتهى الحزن والأسى على أن ترتيبى تأخر إلى المركز الثالث، ووعدت أن أبذل قصارى الجهد حتى أحتل الموقع الجدير بى.. فى المقدمة.
أن يفقد الواحد منا حياته وهو يدافع عن وحدة الوطن، أشرف كثيرًا من أن يعيش فى وطن ممزق، وأن يضحى بالسنوات الباقية من عمره أشرف كثيرًا من أن يقضيها تحت حكم من يفضلون ركوب الناقة على ركوب السيارة لأن الثانية «لتركبوها»، بينما الأولى «لتركبوها وزينة»، كما يذكر أحد أمراء الجماعات فى أسيوط، أو من يذهبون فرادى وجماعات لقضاء الحاجة فى الخلاء وفى يد كل منهم حجر وبوصلة، الحجر للاستنجاء والبوصلة لضبط المؤخرة عكس اتجاه القبلة، كما يفعل أعضاء الجماعة الإسلامية فى المنيا.
لا يعيش الإرهاب ولا ينمو إلا فى ظل الديماجوجية، وإلا عندما تفقد العين القدرة على التمييز بين الإرهاب والشرعية، وإلا عندما يتنادى البعض بأن هناك إرهابًا مشروعًا، وإرهابًا غير مشروع، وإرهابًا مستحبًا وإرهابًا غير مستحب، وهو ما يحدث فى مصر للأسف الشديد، فقاتل السادات- لأن البعض يكره السادات- شهيد، وقاتل رجال الشرطة فى أسيوط إرهابى، بينما هذا من ذاك.
للإرهاب أنياب ومخالب، تتمثل فى إطلاق الشائعات الكاذبة والمدروسة، التى تمثل ستار الدخان الذى يحمى الإرهابيين، سواء فى إقدامهم على الفعل، أو فى هروبهم بعده بأقل قدر من الخسائر، وبأكبر قدر من تجميد وتحييد الاستنكار الشعبى، ولست أدرى تحت أى مبرر دينى تبرر الجماعات الإسلانية هذا الأسلوب، ولست أدرى كيف لم ينتبه أحد إلى أنها أصبحت سمة أساسية للعمليات الإرهابية، وكيف لم تصل درجة التنبه إلى دراسة كيفية مواجهة هذه الشائعات إعلاميًا وسياسيًا وأمنيًا.
الشائعات هى المدخل الآمن لتنفيذ العملية الإرهابية، ولو قدر للمتطرفين أن ينشئوا مدرسة للإرهاب، لكان الدرس الأول فيها: لا تتسرع بإطلاق الرصاص، وابدأ أولًا بإطلاق الشائعات، اتهم الضحية بتمزيق المصحف أو بدهسه بالأقدام، أو بأنه شتم سيدنا الحسين، أو أنه يتباهى بالكفر والإلحاد، أو بأنه شتم الدين الإسلامى، وسوف تنتشر الشائعة كالنار فى الهشيم، وبعدها لك أن تقدم آمنًا مطمئنًا على إطلاق النار، وسوف تجد طريقك ممهدًا، وإرهابك مؤيدًا، فأنت أمام الرأى العام مدافع عن الإسلام، ومنتقم ممن داس المصحف بالأقدام أو شتم سيدنا الحسين.
جهاز الإرهاب لا يقتصر فقط على حملة السلاح ومصوبى الطلقات، بل يشمل فيما يشمل بعض الخبراء فى إعداد الشائعات، وبعض القادرين على تمريرها، وأن الشائعات شأنها شأن كثير من السلع الاستهلاكية، بعضها صناعة محلية، حين يتعلق الأمر بتصفية حسابات فردية، وبعضها مستورد، تصنعه أجهزة متخصصة، حين يتعلق الأمر بتهديد الأمن القومى الداخلى والخارجى لمصر، وإهمال هذا الجانب يفقد تحليلنا ظاهرة الإرهاب جانبًا من جوانبها الأساسية، والخلاصة أن الشائعات المدروسة قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من عملية الإرهاب المتكاملة، وأن مواجهة هذه الشائعات يجب أن تتوازى مع مواجهة الطلقات.
هناك مقولة شائعة تحتاج إلى مراجعة وهى من كثرة ما شاعت، كادت تصبح من المسلمات، والمقولة تذكر أن الإرهاب السياسى الدينى كان نتيجة مباشرة للتعذيب فى سجون عبدالناصر، والمحتجون بذلك يدللون عليه بأن فكرة تنظيم التكفير والهجرة اختمرت فى ذهن شكرى مصطفى تحت جلدات السياط، وأن كتاب سيد قطب الصغير الشهير «معالم فى الطريق» الذى وضع الأساس النظرى لفكر أغلب الجماعات الإسلامية، قد كتب أغلبه فى هذه السجون، والحجة للوهلة الأولى قد تبدو وجيهة، لكن محاولة التعامل معها بالمناقشة والتحليل قد تثبت العكس، وقد تقود إلى نتيجة مختلفة، فلو جاز لنا أن نسلم بما سبق، فكيف يمكن لنا أن نبرر حوادث الإرهاب السياسى الدينى فى نهاية الأربعينيات، وهى حوادث شديدة العنف متوالية الحدوث متصاعدة التأثير.
بدأ الإرهاب السياسى الدينى مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين، حيث كانت البيعة تتم على المصحف والمسدس، وقد ذكر ذلك المرشد العام محمد حامد أبوالنصر فى مذكراته، بل أشار إلى أن حسن البنا قد لمعت عيناه وسعد سعادة بالغة حين أخرج أبوالنصر مسدسه، مؤكدًا أن المسدس هو الحل، والمراجع لاعترافات عبدالمجيد حسن قاتل النقراشى ينزعج أشد الانزعاج لما سرده عن دروس الوعظ فى التنظيم السرى، وكيف درس لهم الفقهاء أن الاغتيال السياسى سنة، وأن دليلهم على ذلك قتل كعب بن الأشرف والشاعرة العصماء والشاعر أبوعفك، وحاشا لله أن يكون ذلك صحيحًا، وأن من يحتج عليهم بآية «ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق»، كان الرد عليه أن هذا وأيم الله هو الحق، ومن لا يصدق عليه أن يرجع الى اعترافات عبدالمجيد وإلى حيثيات الحكم عليه فى قضية قتل النقراشى.
تنامى ظاهرة التطرف العنيف المتسربل زورًا بشعارات الدين والمهدد للنظام العام للمجتمع على أيدى الملتحين، يرجع إلى تهاون الدولة فى مواجهتهم، وليس إلى العنف فى المواجهة، وتخاذلها فى التصدى لهم، وليس إلى التجاوز فى التصدى، والشواهد على ذلك قائمة وجلية، ودونكم وضع اليد على حدائق القاهرة وبناء المساجد فيها، رغم أنف السلطة والقانون والنظام والجمال، ودونكم أيضًا صب أعمدة الخرسانة فى ترع الرى الرئيسية وبناء المساجد عليها، وكلا الأمرين ليس من الإسلام فى شىء، فالإسلام ليس ضد الإسلام، والجمال من الإسلام، والتخطيط من الإسلام، ومنفعة المواطنين من الإسلام، وليس من الإسلام فى شىء أن تحرم المواطنين من متعة راحة النظر، وانشراح الصدر والترويح عن المرضى بالمنتزه المحيط بضريح النقراشى، والمواجه لمستشفى دار الشفاء، الذى تحول إلى مسجد خرسانى ضخم، بينما القاهرة بحمد الله ملأى بالمساجد ومعظم العمائر الجديدة تحول دورها الأرضى إلى مساجد سعيًا للإعفاء من ضريبة العوائد، ولو كنا فى احتياج إلى مزيد، فأهلًا بها ونعمت، ولنلجأ للدولة، ولنتبع الأساليب القانونية ونحترم التخطيط العمرانى ولنلتزم بحقوق الإنسان، لأنها إسلام فى إسلام.