الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

لعنة «الخبز الحافى».. حصار اعترافات محمد شكرى فى الجامعة الأمريكية

محمد شكري وسامية
محمد شكري وسامية محرز

- صلاح منتصر طالب بمصادرة كتاب المستشرق الفرنسى ماكسيم رودنسون الذى يدرس فى الجامعة الأمريكية

- مفيد شهاب وجه أمرًا إلى رئيس الجامعة الأمريكية بسحب نسخ الكتابين فورًا من مكتبات الجامعة ومنافذ البيع

رواية «الخبز الحافى» لمؤلفها الكاتب المغربى الشهير محمد شكرى، الرواية عبارة عن اعتراف مذهل عن سيرة كاتبها المغربى محمد شكرى الذاتية.

كتب عنها الدكتور عبدالقادر القط فى أهرام 7 يوليو 1999. 

«الخبز الحافى»‏،‏ ومعناها بالعامية المصرية الخبز الحاف سيرة ذاتية لمؤلفها الأديب المغربى محمد شكرى‏،‏ منذ طفولته وصباه حتى بلغ الواحدة والعشرين‏.‏ وقد سماها كاتبها سيرة ذاتية روائية‏،‏ وقد تقترب السيرة من الفن الروائى إذا قامت على انتقاء واعٍ للمواقف ورسم فنى للشخصيات‏،‏ وأسلوب أدبى يتلون حسب طبيعة المواقف والشخصيات‏.‏                 

على أن السيرة الذاتية سواء أكانت قريبة من الفن الروائى أو بعيدة عنه‏،‏ ليست مجرد تسجيل لما جرى لصاحبها من أحداث‏،‏ التافه منها والمكرر والمتشابه‏،‏ بل هى اختيار لما كان له أثر فى بناء شخصيته أو تكوين فكره أو توجيه عواطفه‏،‏ أو ما كان فيه تعبير عن طبيعة العصر أو صورة الحياة فى مواطن الشخصية‏،‏ أو تقديم لبعض المواقف الاجتماعية أو النماذج البشرية‏.           

عاش صاحب هذه السيرة متنقلًا بين تطوان وطنجة ووهران منذ أن كان صبيًا صغيرًا حتى بلغ الواحدة والعشرين‏،‏ واحترف كل ما أتاحت له الظروف من عمل‏،‏ فكان عاملًا فى مصنع للطوب وآخر للفخار‏،‏ وكان صبيًا فى مقهى وماسح أحذية وبائع صحف وحمالًا ومساعدًا فى نقل المهربات‏.‏ وهى كلها أعمال تفرض على صاحبها تجارب إنسانية متنوعة يلتقى فيها نماذج بشرية عديدة ومواقف دالة أو طريفة‏،‏ وقد تقدح فى نفسه شرر وعى اجتماعى باكر تمتزج فيه المعاناة الشخصية بالملاحظة التى تفرضها عليه ممارسته الشقية للحياة».           ‏

قبل أن تقرر الجامعة على طلابها دراسة رواية الخبز الحافى، نشبت أزمة فى الجامعة الأمريكية فى مطلع العام الدراسى الجديد ١٩٩٨، بسبب كتاب يتم تدريسه من تأليف المستشرق الفرنسى ماكسيم رودنسون يتحدث عن حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

المدرس الفرنسى باحث يعيش فى مصر منذ تسع سنوات، يعد لرسالة دكتوراه من السوربون بفرنسا بعنوان «الحركات الإسلامية الوطنية»، يعمل بالتدريس فى كلية الألسن جامعة القاهرة بالإضافة إلى الجامعة الأمريكية، يتمتع باحترام المثقفين المصريين وعدد من المصريين الذين عاشوا فى باريس قبل ١٩٨٥، وهو أحد نشطاء جمعيات مناهضة العنصرية ضد العرب، وكان ينظم كل عام احتفالية فى جامعة السوربون بيوم الأرض الفلسطينى، وفى ١٠ مايو ١٩٩٨ تقدمت مجموعة من خريجى الجامعة الأمريكية لإدارة الجامعة بشكوى ضد المدرس الفرنسى الذى يدرس مادة تاريخ العرب يتهمونه فيها بالإساءة الى الإسلام. 

غلاف الرواية

واتهموه فى البلاغ بتقرير كتابين، الأول كتاب حياة محمد للكاتب مكسيم رودنسون، والثانى كتاب تاريخ العرب تأليف الأمريكيين ديفيس وجرين، والأخير هو الكتاب الرئيسى فى مادة تاريخ المجتمع العربى التى تدرس فى الجامعة الأمريكية..

فى ١٣ مايو ١٩٩٨ كتب الصحفى المعروف «صلاح منتصر» فى عموده اليومى فى جريدة الأهرام «مجرد رأى» مطالبًا بمصادرة كتاب المستشرق الفرنسى ماكسيم رودنسون الذى يدرس فى الجامعة الأمريكية. وقال صلاح منتصر إن رسالة وصلته من ولى أمر طالبة فى الجامعة الأمريكية ترى أن الكتاب يسىء لشخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم.

بدا فى الأفق أن هناك حملة من الصحف المصرية ستواجه الجامعة الأمريكية. يقودها بعض المتدينين وأصحاب الفكر اليسارى، باعتبار أن الجامعة الأمريكية تمثل الفكر الإمبريالى، ومؤلف الكتاب يهودى يمثل الصهيونية العالمية، والمدرس فرنسى يمثل ما يدعيه مثقفو الغرب بفكرة صدام الحضارات، ومما زاد فى تأجج الحملة أن أحد الكتب يتحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. 

وعلى الفور تحركت الحكومة ممثلة فى وزير التعليم العالى الدكتور مفيد شهاب، الذى وجه أمرًا إلى رئيس الجامعة الأمريكية بسحب نسخ الكتابين فورًا من مكتبات الجامعة ومنافذ البيع.

وفى ١٤ مايو ١٩٩٨ نشر رئيس الجامعة الأمريكية اعتذارًا رسميًا عن هذا الخطأ، وأشار فى الاعتذار إلى أنه قام بمجرد علمه بسحب نسخ الكتابين فورًا من مكتبات الجامعة ومنافذ البيع، وألغى التعاقد مع مدرس الكتاب الفرنسى الجنسية.

هدأت الضجة قليلًا، ولكن بعض الصحف المصرية العقلانية التى تحترم مكانة المؤسسة العلمية، وبديهيات التخصص العلمى والقراءة النقدية والانفتاح على الرأى الآخر، دافعت عن الكتاب الأول، ومؤلفه ومدرسه، وعابت الجامعة الأمريكية موقفها المتخاذل.

كما اعترض عدد من أساتذة الجامعة الأمريكية، على قرارات رئيس الجامعة متهمين رئيسها بأنه تخلى عن النظام التعليمى العريق للجامعة، الذى يقوم على التعليم الحر والتحليل النقدى.

وقامت عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة الأمريكية بإعداد بيان تنتقد فيه رئيس الجامعة وترد على تدخلات الحكومة المصرية المباشر فى مناهج التعليم الجامعى بشكل عام. 

فى نفس الوقت، أُصيب المدرس الفرنسى ماكسيم رودنسون بحالة ذعر واختفى عن الأنظار فى مكان ما، لأن أحدًا أخبره بأن المتطرفين يبحثون عنه ليقتلوه. 

فى نفس العام الدراسى ١٩٩٨ الذى حدثت فيه قضية الفرنسى رودنسون، كانت الدكتورة سامية محرز، الأستاذة بالجامعة الأمريكية، تدرس لطلابها فى قسم اللغة العربية رواية «الخبز الحافى» للكاتب المغربى المعروف محمد شكرى، وعلى غرار ما حدث فى قضية كتاب رودنسون، تقدم بعض أولياء أمور طلاب قسم اللغة العربية بالجامعة الأمريكية بشكوى باللغة الإنجليزية على شكل رسالة مكتوبة الى رئيس الجامعة وسلموها إلى طبيب يعمل فى العيادة الخارجية بالجامعة، قام الطبيب بدوره بتوصيل شكوى أولياء الأمور إلى رئيس الجامعة. 

هدد أولياء الأمور فى رسالتهم بفضح الجامعة الأمريكية على صفحات الصحف والجرائد ومكاتب المسئولين، كما اتهم أولياء أمور الطلبة فى رسالتهم المدرسة بأنها تتحرش جنسيًا بأبنائهم المراهقين عن طريق رواية الخبز الحافى «سيئة السمعة» التى تدور أحداثها فى الحوارى، وقالوا إن أولادهم وبناتهم يخجلون من تدريس تلك الرواية، وطالبوا بمنع تدريس رواية الخبز الحافى المخلة بالآداب من قائمة الكتب التى تدرسها الجامعة. وحددوا صفحات معينة من الرواية.

خطاب أولياء الأمور دون توقيعات، أى بمثابة شكوى مجهولة، والجامعة الأمريكية شأنها شأن الهيئات ذات المراكز الخاصة لا يجوز لها أن تتعامل مع الشكاوى أو الخطابات التى يرسلها أصحابها دون توقيعات، لخوف أصحابها من الظهور العلنى. تعاملت الجامعة مع رسالة أولياء الأمور بجدية.

وعلى الفور تم تحويل الدكتورة سامية محرز للتحقيق أمام لجنة من إدارة الجامعة، بعد توزيع ترجمة إنجليزية للصفحات التى ذكرها أولياء الأمور ليتمكن أعضاء اللجنة الأجانب من قراءتها، وبعد ساعتين من التداول تم استبعاد الرواية، وطرحت أمام الطلاب خيارات أخرى بديلة لاستكمال مشروعهم النقدى، وأوصت اللجنة بعدم تدريس كتاب «الخبز الحافى» مرة أخري. 

الدكتورة سامية محرز تقوم بتدريس الأدب العربى فى الجامعة الأمريكية منذ ١٩٩١ وسبق أن درست رواية «الخبز الحافى» مرتين، ولم تحدث مشكلة فى المرتين السابقتين، وكانت قد قررت تدريس عدد من الروايات منها «موسم الهجرة للشمال» للروائى السودانى الطيب صالح، ورواية «مسك الغزال» للكاتبة اللبنانية حنان الشيخ، ورواية «أصوات» للمصرى سليمان فياض. وكلها أعمال توظف الجنس وعلاقاته على المستوى الرمزى والمضمون. كما تناولت رواية «موسم الهجرة للشمال» إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب من خلال علاقات جنسية، وبعضها يتناول فكرة الاغتراب والبحث عن هوية، وكلها تدخل فى إطار الحداثة الذى يميز الكتابات الجديدة للروائيين العرب. 

على مدى ستة أشهر أصبحت مشكلة رواية «الخبز الحافى» خارج أسوار الجامعة، وبدأت تتحول إلى قضية رأى عام، تتداولها الصحف العربية والأجنبية كمادة لتبادل وجهات النظر، شارك فيها العديد من المثقفين العرب والأجانب.

كانت أهم تلك الكتابات ما كتب فى جريدة «الوفد» المصرية المعارضة بتاريخ ١١ يناير ١٩٩٩ بتوقيع رئيس قسم اللغة العربية فى الجامعة الأمريكية تبنى فيه وجهة نظر الجامعة الأمريكية وموقفها من سامية محرز، وموقف الجامعة من كتاب رودنسون، وقال إن الجامعة أصابت عندما طردت الأستاذ الفرنسى الذى درس الكتاب للطلاب، واعتبر أن هناك خطأ فرديًا ارتكبته الدكتورة سامية محرز، وأنها تستحق العقاب.

لم تنته المشكلة عند هذا الحد، حيث فوجئ وزير التعليم العالى الدكتور مفيد شهاب باستجواب فى مجلس الشعب، وفى معرض رد الوزير على الاستجواب طالب بمعاقبة المدرسة وعزلها من التدريس فى الجامعة.

وكحل وسط عرضت الجامعة على الدكتورة سامية محرز أن تحصل على إجازة من الجامعة حنى تستقر الأمور.

تصاعدت الأزمة، وبدأ أنها تقترب شيئًا فشئيًا من التحول إلى قضية شبيهة بقضية الدكتور نصر حامد أبوزيد، الذى قضى بالتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، وغادر مصر نهائيًا إلى الخارج حتى توفى هناك.

قالت الأستاذة سامية محرز إنها عندما أطلعها رئيس الجامعة على الخطاب، فوجئت بأنه يحتوى على جمل بأكملها تمثل تمثيلًا حرفيًا بعض المعارك التى كانت دائرة بالفعل داخل أروقة قسم الدراسات العربية بالجامعة، وأيقنت أن أولياء الأمور وبعض الزملاء قد اتفقوا فى مصالحهم مع الإرهابيين.

وأعلنت المعلمة عن أنها لو عوقبت أو منعت من التدريس فإنها ستقاضى رئيس الجامعة الأمريكية لتعدية على الحرية الأكاديمية المفترضة فى الجامعة. 

تراجع وزير التعليم العالى عن مطالبه، وكانت القضية قد وصلت إلى جامعات العالم وتلقت المعلمة عروضًا للعمل فى جامعات أوروبا. 

كما قام عدد من أساتذة الجامعات بمساندة الدكتورة سامية محرز، وقاموا بنشر نداءات على الإنترنت للتنديد بموقف الجامعة الأمريكية التى خضعت للابتزاز ومرغت حريتها الأكاديمية فى الوحل. كما انهالت على الجامعة الأمريكية رسائل تتضامن مع الدكتورة فى موقفها.

ربما كان أهم ما فى الأمر أن الجامعة الأمريكية دعت المفكر والأكاديمى الفلسطينى إدوار سعيد الذى يدرس فى جامعات أمريكا لتمنحه درجة الدكتوراه الفخرية فى فبراير ١٩٩٩ وانتهز الرجل الفرصة وفى خطبة التكريم دافع عن حرية التعبير والحرية الأكاديمية ولقن الجامعة الأمريكية درسًا فى ضرورة مراعاة حرية البحث العلمى والحرية الأكاديمية.