سيف المتدينين.. عن الرقابة والإبداع وأشياء أخرى
مع بداية التسعينيات بدأت الجماعات الإسلامية التحرش بالكتّاب، كما بدأ بعض رجال الدين ينتقدون ما يكتبه الأدباء ويتعقبونه بالنقد الشديد، وينسبون إليه الخروج عن الدين. وقد أثارت بعض النصوص التى كتبها بعض الكتاب والروائيين غضب بعض المتدينين.
ومن أشهر قضايا تدخل رجال الدين فى حرية التعبير ما حدث فى رواية «أولاد حارتنا» للكاتب نجيب محفوظ. كتب نجيب رواية «أولاد حارتنا» عام 1959، ونشرت مسلسلة فى جريدة الأهرام أيام محمد حسنين هيكل. وفجأة تم إيقاف النشر بدون سبب.
وقد اتصل الأستاذ حسن صبرى الخولى الممثل الشخصى للرئيس جمال عبدالناصر واستأذن الكاتب نجيب محفوظ فى عدم نشر الرواية. وبالفعل وافق نجيب محفوظ على ذلك. لاحظ الرقى التعامل مع الكاتب نجيب محفوظ.
لأجل هذا لم تنشر الروية فى مصر لعدم موافقة نجيب محفوظ على خرق الوعد الذى قطعه على نفسه عندما اتصل به ممثل الرئيس جمال عبدالناصر. ولكنها بعد نشرت فى دار الآداب ببيروت لصحبها الكاتب اللبنانى المعروف سهيل إدريس، ومنها تمت ترجمتها للإنجليزية، وأعجب بها الناقد المعروف روجر آلان، وهو الذى قام بترشيح صاحبها للجنة جائزة نوبل.
وفى عام ١٩٩٤ اعترف الشيخ الغزالى فى ندوة بمجلة روزااليوسف بأنه كتب تقريرًا سريًا وأرسله إلى الزعيم جمال عبدالناصر.
تولى بعض رجال الدين المسلمين مهاجمة الرواية بعد الشيخ الغزالى، ومنهم الشيخ عبدالحميد كشك.
غير أن الفتوى الشهيرة التى أفتى بها الشيخ عمر عبدالرحمن عندما أعلن لمريديه الذين أبلغوه عن الكاتب الهندى الإنجليزى الجنسية والإقامة سلمان رشدى الذى أهان الإسلام بروايته «آيات شيطانية»: «لو أننا قتلنا نجيب محفوظ من ٣٠ سنة مكنش طلع سليمان رشدى».
وبعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ قامت جريدتا المساء التابعة للدولة والأهالى الصادرة عن حزب التجمع، بنشر الرواية كاملة على صفحاتها، بعد أن طالب عدد من المثقفين فى بيان أصدروه بضرورة نشر الرواية فى مصر. الأمر الذى دعا عددًا آخر من الكتاب بإيعاذ من نجيب محفوظ إلى إصدار بيان مضاد يعارض فيه نشر الرواية.
ويعتقد عدد كبير من النقاد أن رواية نجيب «أولاد حارتنا» من أعظم ما كتبه نجيب محفوظ، وأنها كانت ضمن حيثيات منحه جائزة نوبل العالمية.
يقول نجيب محفوظ فى تحقيقات النيابة العامة التى أجريت معه بعد محاولة اغتياله: إن رواية «أولاد حارتنا» كانت بداية اتصالى بالصحافة، وأنه لا يمكن أن تكون هناك رواية فيها مجازفة فكرية أو اجتراء على الذات الإلهية، وهى مثل كتاب «كليلة ودمنة»، تخلق عالمًا متطورًا، لتوحى بعالم وراءه فنحن بين الحيوانات عايشين فى غابة، ولكن نعرف ويعرف القارئ العادى إن إحنا نقصد نقد البشرية، ونظم الحكم والعلاقات بين الأفراد وحكمة الحكماء وسفاهة السفهاء، ولكن ما دام التزامنا إن إحنا نكون فى الغابة فلازم يكون أبطالنا حيوانات، ولا نحاسبهم، ونحن نعاملهم معاملة الحيوانات، لإننا بعامل الرموز له بالحيوان، وعلى نفس النمط أنا مشيت فى «أولاد حارتنا» بأعرض فيها المصريين فى حارة وأسلوب حياتهم الظالم بكل ما فيه، ثم يجىء ناس اللى أنا رمزت لهم برمز الرسل وغيره ليدافعوا عن الحارة وعشان وصية الجبلاوى تنفذ عشان يخش هذا الرمز فى الحارة فى صراع مع الأشرار التى فيها اللى ينهبوا الوقت، ويظلموا العباد، وفى النهاية ينتصر الحق رامزًا لانتصار دين من الأديان، وبالعكس الرواية بتصور أن الدين لعب دورًا فى تطوير البشرية والدفاع عن أبنائها باسم المبادئ الإلهية، وفى ذات القصة يجىء واحد اسمه عرفة، معجبانى بنفسه، وادعى إن هو اللى يقدر يصلح الحارة مش الجبلاوى ولا غيره، وادعى كمان إن الجبلاوى مات وراح لحاله، وإذا به يقع تحت سيطرة ناظر الوقف، وكل ما تم عمله مسخرة فى الناظر وليس خدمة الحارة، ولذلك فهو بنفسه قال يجب إحياء الجبلاوى، وموت الجبلاوى وإحياؤه رمز للكفر والعودة إلى الإيمان بإحياء الجبلاوى، وأنا عايز أقول إن الرواية دى، من وجهة نظرى أنا ككاتب، أول تبشير بضرورة التحام العلم بالإيمان، والرواية تقول بصريح العبارة إن الدين أنقذ البشرية من المظالم، وإن العلم قادر أيضًا على أن يرتقى بها ويحسن حالتها، ولكن بشرط ألا يحيد عن مبادئ الدين، وهناك دليل آخر على أن هذه الرواية لا تتضمن ارتدادًا أو كفرًا أو طعنًا فى الأنبياء والرسل.
وعندما كتب الكاتب الروائى محمد عبدالسلام العمرى قصة «بعد صلاة الجمعة» عام ١٩٩١. كان الحوار حولها هادئًا أيضًا.
فى ١٩ يوليو ١٩٩١ نشر الكاتب محمد عبدالسلام العمرى قصة قصيرة فى جريدة الأهرام بعنوان «بعد الصلاة الجمعة» يحكى فيها عن تنفيذ حد القصاص على شخص فى إحدى الدول العربية.
ولم يحدث لكاتب عربى أن عالج هذا الموضوع بالذات فى كتاباته، ربما لأنه يتصل بحد من حدود الشريعة الإسلامية.
القصة جيدة بكل المقاييس الفنية ولكنها من النوع الكابوسى.
غير أنها تصيب قارئها بنوع من الرجفة أو الهزة العنيفة، وتجعله لفترة طويلة غير قادر على التخلص من كابوسيتها.
صور محمد عبدالسلام العمرى عملية تنفيذ حد قص رأس المحكوم عليه بالقصاص باستخدام السيف.
شاهدت أنا صورة لعملية قطع الرأس فى أرشيف أخبار اليوم، وكان المصور حاذقًا إلى الدرجة التى التقط فيها صورة الرأس وهى تتطوح بعيدًا عن الجسد الذى كان لا يزال منتصبًا قبل أن ينهار.
غير أن تلك الصورة الفوتوغرافية لم تحدث فى الأثر الذى أحدثته قراءة قصة محمد عبدالسلام العمرى، وقد أضاف الكاتب إلى مشهد القص تحليلًا لنفسية السياف الذى يقوم بعملية القص ذاتها، وقال إنه كان ساديًا وهو يرى منظر الدماء، وأنه لأجل هذا كانت لديه مزرعة للدواجن يقوم بقص رءوس دجاجها للتدريب على قص رءوس البشر بعد ذلك، عن طريق رص عدد منها ويقطع رقابها بالسيف بضربة واحدة.
وفى ٣٠ يوليو ١٩٩١ كتب الشيخ محمد الغزالى فى جريدة الشعب أن الكاتب الذى كتب وصفًا لساحة القصاص فى مكة المكرمة، وأطلق العنان لخياله كى يثير الأحزان على الشاب النحيل الذى قتل عدلًا، حشد الصور الكئيبة ما يثير العطف على الضحية، هذا الكاتب كان يكذب فى كل حرف خطه، وكان يفتعل حكايات مبتورة لا صلة لها بالواقع أبدًا. ووصف الشيخ الغزالى الكاتب بأنه سخيف، محامى الباطل، خياله المريض، وأحمق، كان يكذب. كما وصف هذا النوع من الكتابات بأنه الفن المؤنث المولول.
والحق أن الشيخ الغزالى لم يطالب بإهدار دم الكاتب ولا معاقبته، كما فعل الشيخ عمر عبدالرحمن.
فقد كتب الرجل تعليقه على القصة من منطلق فكرة النقد الفنى فقط ولم يتجاوزها.
وفى نفس اليوم ٣٠ يوليو ١٩٩١، وفى جريدة الأهرام، فى بريد الأهرام كتب اللواء أحمد العرنوسى، عضو اتحاد الكتاب: «إن الكاتب صور السياف فى صورة رجل ضخم الجثة، متبلد الحس، فاسد الذوق. وقال إننا نصور عشماوى عندنا فى مصر بأنه إنسان. وما الفرق بين عشماوى هنا وعشماوى هناك».
وفى ٢٠ سبتمبر ١٩٩١ كتب إبراهيم داود فى صحيفة الوطن العربى أن الشيخ الغزالى قد جعل من العمرى هدفًا للسلفيين الذين يستبيحون لأنفسهم كل شىء.
وفى أكتوبر ١٩٩١ نشرت مجلة «أدب ونقد» المعروفة بمناصرة حرية الفكر ملفًا بعنوان «لا تصادروا على الفن باسم الدين». الملف يضم مقالات للدكاترة محمد عصفور، ومحمد أحمد خلف الله وفرج فودة، والأساتذة كامل الزهيرى، وفهمى هويدى، ورجاء النقاش، وخليل عبدالكريم، وبيومى قنديل، ومحمد عبدالسلام العمرى.
كل تلك الكتابات والحوار على صفحات المجلات الأدبية والجرائد جعل قضية محمد عبدالسلام العمرى وما صاحبها فى ذلك الوقت نموذجًا للحوار العفيف بين الجانبين: المتدينون من جانب، وأصحاب الفكر الليبرالى من جانب آخر.
ولم يطالب أحد بتكفير الكاتب محمد عبدالسلام العمرى، أو سجنه، أو التفريق بينه وبين زوجته.
غير أن هذا النموذج من الحوار لم يستمر طويلًا، وسرعان ما بدأ الاحتجاج العنيف.
وهو ما حدث مع رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السورى حيدر حيدر فيما بعد.