رحاب عمر تكتب: فنجان قهوة مُحرّم
قدمتُ كوب الماء المثلج لصديقة والدتى فى «أوضة المسافرين»، ورحت أحييها بأدب جم كما طُلب منِّى، ثم خرجت التزامًا بالتعليمات. دخلت أمى ومعها صينية القهوة النحاسية، وعليها السبرتاية وعدة القهوة.
بعد لحظات نادتنى بصوت عالٍ:
- هاتى الكبريت وتعالى.
جَلست على حافة الكنبة، وعيناى تدققان النظر فى تحركات كفيها، وهى تصب الماء من الدورق الزجاجى فى الكنكة الصفراء الصغيرة، ثم وهى تضع السكر والبن وتقلب، ثم عندما تشعل «السبرتاية» بعود الثقاب، فتتراقص النار فرحة بين الضعف والانطفاء.
تتحرك شفاه أمى وصديقتها لكننى لا أسمع شيئًا مما تقولانه؛ فعيناى معلقتان بالكنكة الصفراء، وبالرائحة التى تملأ المكان، أخذت شهيقًا طويلًا عبقًا برائحة البن، شعرت بالرائحة تتغلغل فى أجزائى حتى وصلت لأطرافى فانتشيت، ثم شهيقًا آخر طويلًا، أظنه لم يمر برئتىّ ولكنى شعرته يطرق بخفة على خلايا دماغى.
تنضج القهوة على مهل، تصبها أمى ببطء، أسمع صوت نزولها فى الفنجان كأنه عزف منفرد لآلة من السماء، لا يعرف أهل الأرض عنها شيئًا.. تبدو ذات لون بنى محمل بالرغوة والثقل، تفوح الرائحة وتنتشر أكثر وأكثر، حتى تملأ الستائر والأركان والمفارش وتتعشق بين خيوط السجادة وأوبارها، ولربما نفذت من الشراعات الخشبية، أو عبرت الجدران وخرجت للشارع، لتخترق بقوة أنوف السائرين.
- ماذا لو صنعت لى أمى فنجانًا من القهوة؟
تذكرتُ موقفها قديمًا، حين استعذبتُ رائحة القهوة. وطلبتُ منها شفطة، وظللت أدُب فى الأرض باكية معاندة، كطفلة لم تتخط السادسة بعد.. حينها تغيرت ملامح وجهها، وبرزت نظرتها الحادة، وارتفع حاجبها لأعلى، وظلت تلوح لى بسبابتها قائلة:
- ممنوع البنات تشرب قهوة، فاهمة؟!!
ثم جذبتنى من ياقة فستانى البرتقالى، حتى إننى اضجرت من أنفاسها الساخنة، وقالت لى بحدة:
- مش هقول تانى!
ترتشفان القهوة من فنجانٍ أبيض، مطبوع عليه حبيبات بن كاملة.. ترفعان الفنجان، تأخذان الشفطة الأولى فأتذوقها أنا، ثم الثانية فأبتلعها أنا، والثالثة فأنتعش بها أنا.. انتبهت فجأة وأمى تردد اسمى بصوت عالٍ:
- نجاة.. بت يا نجاة، ردى على أبلتك يا بت.
- أنت فى سنة كام يا حلوة؟
- رايحة تالتة إعدادى يا أبلة.
- يا ما شاء الله زينة العرايس!
ابتسمت أمى، وهى تقول:
- ربنا يقدم اللى فيه الخير.
- إيه رأيك يا عروسة؟
ابتسمت ونهضت مسرعة ووجهى بالأرض، أحمل الفناجين الفارغة للمطبخ، فسمعت صديقة أمى تمدح فى حيائى وأدبى، وضعت الصينية وتلفت حولى، وظللت ألعق- بسبابتى- البن المتبقى فى قاع الفناجين بنهم حتى أنتهى، وأسرعت بتنظيفها حتى لا تلحظ أمى فعلتى.
حين غادرت أم سامح، سألتنى أمى عن رأيى مرة أخرى، جريت مسرعة أضع الفناجين على الصينية النحاس، وأنا أدب فى الأرض، وأمنى نفسى: قريبًا سأقتنى مثلها.