الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حنان العطار تكتب: احتمال نجاة

حقيبة سفر كبيرة
حقيبة سفر كبيرة

فى ساعة متأخرة من الليل، تستقل سيارة أجرة حاملة حقيبة سفر كبيرة، أصرت على أن تضعها بجوارها فى المقعد الخلفى، بين حين وآخر تقربها إليها وتتحسسها لتتأكد من أنها شحنتها بكل ما أرادت اصطحابه معها: معاطفها الثقيلة، دفاتر يومياتها، ألبوم صور، دواوين شاعرها المفضل، أدوية كثيرة.

عند الوصول نزلت متعثّرة بحمل الحقيبة، جعلت تارة تسحبها وراءها فلا تقوى، بل يغلبها الثقل فتستدير للخلف وتقف مقطوعة الأنفاس، تارة أخرى تدفعها أمامها فتتألم ذراعاها وتتعثر قدماها.

حاولت حتى شباك حجز التذاكر، وواصلت حتى مقعد فى صالة الانتظار، تترقب كشريد فى منتصف جسر يتصارع عليه الاتجاهان، فى الخلف حنين وندوب، وأمامها مجهول لا يفقد احتمال النجاة.

تضع سماعة الأذن، تغمض عينيها، تتقافز اللقطات واللوحات: صغيرة تلهو، تدور خفيفة بتنورتها الدائرية فتمسك بها نيران الموقد، تصرخ الأم وهى تنقذها: «بسبعة ألسنة، ونجمها عالى، واخدة العين».

يافعة تحاصرها الأعين حين ينحسر ذيل تنورتها عند الصعود والهبوط، أو يتسع قطر ابتسامتها، ويزداد تورد خديها. 

متحمسة ترسم درب الأحلام، ساذجة تحسبها قريبة، وغبية تكرر الأخطاء، وحيدة رغم الزحام، عندهم صغائرها كبائر، وبراءتها افتعال، طموحها جموح، حضورها يزعج وغيابها تقصير، عبثًا تصنع أبطالها من ورق، تعود دومًا خالية اليد، لكنها تسلك كل الأنفاق لنهايتها علّها تبصر نورًا. 

تأخذها من أفكارها الضجة حولها وتداخل المشاهد، زحام وضوضاء، وداع واستقبال، لهفة وانتظار، أطفال يفلتون الأيادى وأحبة يتمسكون بها، قهوة وشاى، زجاجات مياه مملوءة وفارغة، حقائب متراصة فى كل جانب، وجوه طبيعية، فيعود إليها شىء تفتقده من عادية الحياة.

انتبهت لأغنية تسمعها: «يا بهية خبرينى مالهم بيكى اللايمين.. ما حد عدى ولا مرة هدى وشاف عينيها إلا ومال.. قالوا عن بهية ويا ما قالوا.. واللى فى عينيها ملقاش مودة ظلم البنية وراح وقال».

وجدت نفسها تتمايل مع اللحن وتردد الكلمات مبتسمة حتى تملكتها رغبة فى أن ترقص، لكن كيف؟ هل ستطلب من بعض المحيطين مشاركتها فى رقصة على هذه النغمات الشعبية؟ أم يرقصون معًا رقصة زوربا ربما فى مد الأذرع وحساب الخطوات تلتقط أنفاسها المختنقة، أو أنها تحولها إلى رقصة غجرية تدب الأرض بأرجلها المثقلة مع التفاتات وانحناءات تلهمها بهجة وحيوية، لكنها فكرت لو تشاركت مع الجميع رقصة التنورة وظلت تدور وتنظر لأعلى، تخف وتعلو فتتحرر مما يثقلها.

نظرت إلى ملابسها فتأكدت أنها ترتدى بنطالًا واسعًا يسهل لها ما أرادت ويمنع عنها الحرج، لكن أوقف سيل خططها نداء عن موعد قيام رحلتها، فأعادت التأكيد على رباط حذائها الرياضى، وأمسكت تذكرة سفرها، وعلّقت حقيبة يدها ومضت مسرعة.

نظرت وراءها للحظة فاكتشفت أنها تركت حقيبتها الضخمة، فلم تكترث ومضت.