الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمود عرفات يكتب: طائر المساء

طائر المساء
طائر المساء

أجلس بالمقهى والنهار يستأذن فى الانصراف. أضع ساقًا على ساق، وجسدى مسترخٍ فى مقعد البامبو المريح. أمسك فنجان القهوة بإصبعين؛ الفنجان أقرب إلى فمى، وعينى فى اتجاه الباب الزجاجى الذى فُتح ببطء لتخرج منه سيدة تضخ عطرًا، وتسبقها هالة من ضياء. لا أذكر ماذا فعلت بالفنجان؟ ولا أدرى إن كنت رشفت القهوة أم رشفت من موجة الهواء المعطر التى هاجمتنى. المقهى يزدحم بالجالسين؛ بعضهم يثرثرون والآخرون يحدثون أنفسهم دون أن تتحرك شفاههم. ما الذى جعلنى أتأكد أنها جاءت من أجلى؟ لماذا أنا؟ ولماذا قمت من مكانى عندما اقتربت؟ وهل رأى الجالسون والسائرون هالة الضياء وغشيتهم موجة العطر المسكرة؟ وهل ميزوا الألوان المتداخلة فى هالة الضياء المدهش؛ البرتقالى الشفقى والأزرق السماوى الموشى بالأبيض الثلجى؟

اقتربتْ كأنها تقصدنى، ولما أصبحت على بُعد خطوتين انحرفت يسارًا، ثم واصلت كأنها تدعونى لأتبعها، فأسرعتُ خلفها. دخلت إلى محل الملابس الذى سبقتنى إليه. اقتربت منها وتأملتها عن قرب، يا رب هذا جمال أخافه، فكيف ألمس هذا الجسد المرمرى؟ بل كيف أحتمل الوهج الذى يشع منه؟.. وهجٌ دافئ معطرٌ موحٍ متواطئ يتمسح بى فى نعومة قطة. جسدٌ لا يمكن احتماله مستورًا بالثياب، فكيف إذا تكشَّف؟.. يحتال فيملأ فضاء الرؤية دون تقحُّم، العينان تكفيانى، فما بالُ هاتين الشفتين الظالمتين تضرمان النار فى شغاف قلبى. لماذا تهرب عينى من جمال العينين لتقع على جمال أشدّ؟ 

حاولت أن أفر من سطوة الجذب المُعجِز للعينين فسقطت نظراتى على فضاء تزينه قدمان صغيرتان مرمريتان شاهقتا البياض؛ لا تستطيعان الاختباء فى حذاء فضى.. وكأن قوة قاهرة سحبت نظراتى لأعلى ببطء. رأيت ساقين من رخام وردى يشعان حرارة كأنهما مخروطتان بيد فنان بارع. أبصرت ما جعلنى كالواقف أمام فرقة مدججة بالسلاح، تسد علىّ الطريق، فلا أستطيع الهرب، ولا أقدر على التقدم. 

انسابت دموع الفرح من عينى فلم أقدر على منعها. رأيتنى أقف أعزلَ دون غطاء يحمينى من طائر الجمال الذى حط على كتفىّ وبين عينىّ وفى عمق قلبى المترع بالرعشة. أنقذتنى ابتسامة مباغتة انطلقت من عينيها فأضاءت الكون، وأدفأت قلبى. أمعنت النظر محاولًا التثبت، فرأيت بقايا الابتسامة الكونية تلون شفتيها وخدها، وهى تستدير وتمضى متباطئة فى رقة. لم أعرف كيف سرت وراءها مسحورًا؟ قطعت بضع خطوات سريعة وواسعة فحاذيتها، واتتنى شجاعة كاسحة كأنى صاحب حق قديم فسألتها: 

- أين كنتِ طوال العمر الذى مضى؟

- دعنى أسألك.. لم تأخرت كل هذه السنين؟

قبل أن أجيب رأيتها تقذف بحذائها الفضى من قدميها. سحبتنى من يدى وصعدت إلى المسرح الخالى وراحت ترقص على أنغام متداخلة تأتى من بعيد. أصغيت فإذا هى خليط من دقات لدربكة مصرية، وموسيقى سودانية، وفالس غربى. وجدت نفسى أجاريها فى الرقص. كأن أصابعها نقلت براعتها فى الرقص إلى جسدى.. فاشتعلتُ حماسًا وأنا أدور معها وأصابعنا متشابكة. كلما تغيرت النغمة تبدلت خطواتنا لتوافقها. تصببنا عرقًا فجلسنا على أرضية المسرح الذى امتلأ بجمهور أخذ يصفق بحرارة. أخجلتنا الحفاوة، فقمنا نرد التحية بانحناءات متتالية. قبل أن يغادر الجمهور أمسكت بيدى جيدًا. راقبتها وهى تصعد لأعلى. وجدتنى بجوارها نسبح فى فضاء المسرح ونراقب الجمهور. تعجبت من الخفة والسلاسة اللتين نتحرك بهما. لم أعرف إلى أين نذهب. نظرت إليها فأشارت إلى القبة فانفتحت ببطء. تسربنا إلى فضاء يزينه قمر فى المحاق، غاظنى أنه منبعج، لكنه كان ينير الشوارع والبنايات بما يكفى لمتابعة المدينة الساكنة. مضينا نستكشف الشوارع والتقاطعات والميادين. حاولت أن أكلمها لكن الهواء صار مصفحًا فاكتفيت بالمراقبة. استخدمت نظراتى وضغطات أصابعى لتعرف الأماكن التى أريد رؤيتها. 

السكون يلف كل شىء. بعد عدة دورات رأيت المدينة تصحو فأخذتنى النشوة. خطر ببالى أن أسبح منفردًا فى الفضاء. حاولت أن أخلص يدى من بين أصابعها، فحذرتنى بنظرة صاعقة، لكنى لم أمتثل. هويت بسرعة فارتعبت. أفقت على الأصوات العالية التى تحيط بى.. لكنى لم أميز كلمة واحدة. أحسست أن قلبى ينقر فى صدرى بقوة. والأسى على فقدانها يغمرنى. حاولت أن أحرك ساقى فلم أستطع. اكتفيت بنظرة واحدة إلى فنجان القهوة الذى ما زال فى يدى.