سميح النقاش يتحدث لأول مرة عن والده: حب إيه؟
لم أتحدث أبدًا عن أبى.. ولم أفكر فى يوم من الأيام أن أعبر عن مشاعرى تجاه رحيله.. حاولت أن أمنع نفسى من التفكير فى الأمر.. حتى يوم وفاته لم أفكر فى الأمر.. ربما فقط للحظات قليلة لم أتمالك فيها نفسى ساعة رحيله... فمهما كان فهم الانسان للحياة أو إيمانه بالله وتقبله للقدر.. فللموت رهبة.. ولفقد الأحبة رهبة أكبر.. كنت أريد أن يمر الأمر «عادى».. كنت أريد أن «أغيظ» الموت وأن أقول له لن نحزن ولن نبكى ولن تستطيع أيها الضيف الثقيل أن تؤذى مشاعرنا.. أو ربما.. كنت فقط أنفذ تعاليم أبى.
فقد قال لى قبل رحيله بأيام قليله «لما أموت أبقوا صلوا عليا فى أى جامع قريب.. بلاش تغلبوا نفسكم وتعملوا شغلانة.. عادى».
تذكرت حينها نجيب محفوظ فى الفيلم التسجيلى عن حياته الذى تم إنتاجه فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى، وكان من إخراج المخرجة الكبيرة رحمها الله «سميحة الغنيمى» عندما قال «أقمت حياتى فى الدنيا على أساس الحب.. حب العمل وحب الناس وحب الحياة وأخيرا حب الموت».
واندهشت.. إذ كيف لإنسان أن يدخل فى علاقة مع الموت وأن تكون هذه العلاقة مبنية على أساس الحب.. فما أعقد هذه العلاقة وما أتعس هذا الحب.
ومرت الأيام وأنا أحاول أن أفهم كلام الأستاذ نجيب عن هذا الحب الغريب من نوعه «حب الموت».
فى رحلته الأخيرة لألمانيا قبل وفاته بأيام قليلة كانت أمى تبعث لنا ببعض صور رجاء وهو يقرأ وكنت أشاهد تلك الصور وأتعجب.. فكيف لهذا الرجل أن يقرأ وهو فى أيامه الأخيرة تلك.. فماذا يجنى من ثمار القراءة الآن.. فجميعنا يعلم وهو أولنا وبمصارحة الأطباء لنا- أن الأيام معدودة.. فقد قال لى قبل سفره الأخير بأيام «أبقوا خلوا بالكم بقى من نفسكم شويه عشان أنا رجل فى طريقى الى الموت».
وكان هذا المشهد من أكبر دروس الحياة.. فليست النتيجة هى ما يبحث عنه الإنسان فى هذه الدنيا.. بل إنها تلك اللحظة التى يمارس فيها ما يحب بصدق دون انتظار لأى شىء.
ومرت بذهنى فى تلك اللحظة لمحات سريعة من حياة رجاء وهو يكتب وهو يقرأ وهو يضحك.. لمحات من هنا ومواقف من هناك ثم رأيته فى تلك الحالة التى كان يستعد فيها لذلك الموت «العادى» كما سماه هو.. فقفز فى ذهنى على الفور كلام الأستاذ نجيب وقلت لنفسى.. ها انت الآن قد فهمت.. هذا هو معنى كلام الأستاذ نجيب.. ها هو ذا شخص آخر قد فعل نفس الشىء.. أقام حياته على الحب.. حب العمل وحب الناس وحب الحياة، ثم أخيرًا حب الموت حتى أصبح «عاديًا» كما قال لى.. وتذكرت كلام تشيكوف الذى قرأته فى أول صفحة من كتاب رجاء النقاش عن أبى القاسم الشابى وكانت هذه هى أولى كلمات الكتاب.
«إذا كان فى وسعك أن تحب، ففى وسعك أن تفعل أى شىء».
منذ السنين الأولى من حياتى التى كان فى استطاعتى فيها بالكاد أن أميز موقعى من هذا العالم وأن أعرف أن لى أسمًا وأن لى أبًا وأمًا وأختًا وأن أقول بعض الكلمات التى تعبر عن هذا الموقف المربك والمحير فى ذلك الوقت.. منذ هذا الوقت البعيد وتلك السن الصغيرة وإلى ما قبل تاريخ وفاة رجاء النقاش فى ٨ فبراير ٢٠٠٨ بأيام قليلة لا أتذكر يوم واحد لرجاء بلا عمل- إلا يوم واحد فقط سوف أذكره بعد قليل- فأنا لم أنفصل عن أبى وأمى.. حتى بعد الزواج.. فقد كنا جيرانًا فى بيت العائلة.. وكانت الزيارة يومية.. ولذلك كنت أراه تقريبًا بشكل يومى.. فيما عدا أيام العمل الطويل او السفر.
كان العمل هو حياته.. أو هو البناء الأساسى لحياته.. وقد أعترف لى ذات يوم وهو فى مكتبه وبين كتبه وقال «أنا الحقيقة ماعنديش أى متعة أخرى فى الحياة إلا القراية والكتابة» ثم قال «بس يا أخى الواحد عاوز عمرين تانى فوق عمره عشان يعرف يقرأ الكتب اللى هو عاوز يقراها «فضحكت وبدى على الخجل.. وأحس هو بورطتى.. فلم أقرأ فى حياتى ما قرأه هو فى شهرين.. فأراد على الفور تغيير الموضوع، وقال ضاحكًا «مش عاوز تعملى قهوة».
فضحكنا معًا.. وذهبت لعمل القهوة.
وكان يوم وفاة «فلة» هو اليوم الذى أشهد أنه قضاه دون عمل.. لا قراءة ولا كتابة.. فقد سافرنا لدفنها حيث كنا نملك بيتا فى الإسكندرية فى منطقة أبويوسف.. بيتا تحيطه حديقة وكان هو المكان الوحيد الذى فكر فيه أبى أن يدفن فلة.. وكان يومًا شاقا جدًا وقد بكى فيه رجاء بلا انقطاع تقريبًا حزنًا على الأستاذة «فلة».
أما الأستاذة «فلة» فهى الكلبة التى كانت تعيش معنا فى منزلنا بالدقى.. وكانت علاقة أبى بفلة علاقة غير عادية.. كان يعاملها كأحد أفراد الأسرة وكان يسأل عنها أثناء اليوم ليطمئن أنها أكلت وشربت وأن أحدًا لم يمسها بسوء وعندما ماتت فلة حزن أبى بصورة لم أره عليها من قبل ولا من بعد.
كان رجلًا رقيق المشاعر جدًا.. وكان لرقته تلك.. يرى بقلبه الجانب الحزين من الحياة.. كان يراه بوضوح.. وكان يحاول أن يعالج نفسه من هذا الحزن الذى رأه فى كل جوانب الحياة بالعمل. فقد قال فى مقدمة كتابة تأملات فى الإنسان.. «وأود أن يسمح لى القراء هنا باعتراف خاص٬ هذا الاعتراف هو أننى أحب هذا الكتاب أكثر من أى كتاب آخر لى. وذلك ببساطة لأننى كنت أحاول أثناء كتابته أن أعالج نفسى من الحزن والضيق بالحياة، كنت أحاول أن أنتصر على عوامل الهزيمة الروحية التى أوشكت يومًا أن تسد أمامى كل الطرق وأن تسلب منى أى حماس للحياة أو ابتهاج».
وفى اعتقادى أن رجاء منذ ذلك اليوم عرف وسيلته لمحاربة الحزن.. فكانت الكتابة والقراءة والعمل الدائم دون انتظار أى نتيجة.. هى الحل السحرى الذى تمكن عن طريقه أن يحل مشاكله وأن يحارب الحزن فى قلبه.. فى كل الأوقات وفى كل الظروف.
ولم يتوقف يومًا من الأيام عن العمل.. حتى آخر يوم.. قبل أن يغيب عن الوعى.. وكان هكذا يقول لى دائمًا «العمل فيه حل لكل مشاكل الإنسان.. المادى منها والمعنوى».
وبرغم أن العمل هو حب رجاء النقاش الأول وكان هو الأساس الذى بنى عليه حياته كلها.. إلا أن حبه للناس وللحياة كان يمثل عمودًا آخر من هذا البناء.. فلم تكن الحياة مجرد قراءة وكتابة.. ولكن كانت هناك حياة أخرى متمثلة فى الأسرة وفى الحياة العامة بين الناس والأصدقاء، فلقد كان منزلنا فى حى الدقى لا ينقطع عنه الناس والزيارات والجلسات والسهرات من مثقفين وفنانين وشعراء.. فكان بيتًا مليئًا بحب الناس وحب الحياة.. وكان هو وبرغم طبيعته الخجولة لديه حضور متوهج، مبهج شديد الجاذبية.. كان كالممثل الموهوب.. إذا خطت قدماه خشبة المسرح وبدأ فى إلقاء حواره نسى طبيعته وعاش فى تلك اللحظة التى يمثل فيها دوره فقط. فلا تستطيع إلا أن تنصت إليه بانتباه ولا تمر ثوان حتى تجد نفسك أسيرًا لكلامه وإلقائه وتتمنى ألا ينتهى المشهد.. هكذا كان رجاء فى حديثه وهكذا كان فى جلساته وهكذا كان فى إلقائه للشعر وما أكثر ما كان يلقى الشعر.
كان شديد الحب لنا نحن أسرته الصغيرة زوجته وأبناءه.
أما علاقته بأمى فكانت شديدة الثراء فى كل جوانب الحياة فقد كانت الدكتورة هانية نموذجًا حى وعملى لتعبير شريكة الحياة - فكل من يعرف رجاء يعرف كيف كانت هانية جزءًا أساسيًا من حياته.. كانت حاضرة فى كل لحظة وكل مناسبة.. شاركته كل مشاعر الفرح والحزن والتأمل.. شاركته أيضًا هموم الحياة ولحظات البهجة.. شاركته الثقافة والفكر. فكان دائم الرجوع لها فى كل شىء.. كيف يتفق وكيف يختلف وكيف يقاوم.. كان أخذ رأيها فيما يكتب فقد كانت هانية كاتبة من طراز رفيع- كما كان يقول لها دائمًا- ولكن شاء لها القدر أن تمتهن هى طب الأطفال.. وهو الكتابة.
يوم أن ماتت أمى نادتنى فى الليل، وكانت قد شعرت ببعض التعب، فذهبت لها ووقفت على باب حجرتها فقالت لى: «مالك يا حبيبى»
فأجبت: «أبدًا مفيش يا أمى.. قلقان عليك بس»
فقالت لى: «ماتخفش من الموت يا حبيبى.. تعالى».
فاقتربت منها وجلست بجانبها وقبلت يدها وقلت لها إنى أحبها وبعدها بساعات قليلة.. ماتت أمى.
وتعجبت للمرة الثانية بعد أن رأيت أبى فى المرة الأولى وهو يواجه الموت.. كيف لها أن تواسينى وهى فى هذه الحالة التى هى فيها، فأنا من يجب أن يواسيها.
فتذكرت مرة أخرى الأستاذ نجيب.. وفهمت.. إنه الحب.
فقد شاركت هانية رجاء الحب بنفس القدر ونفس المعانى.
حب العمل وحب الناس وحب الحياة، وأخيرًا حب الموت.
رحم الله رجاء وهانية ونجيب.