الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الكاتب الكبير أنور الهوارى يفتح الملفات المسكوت عنها بكتابه الجديد «حرب الإبادة»

غزة
غزة

- المقاومة الفلسطينية انخلع عنها وانفصل أى دعم عربى أو إسلامى

- استئصال روح المقاومة لم يتحقق.. إبادة الفلسطينى الأخير لم ولن تتحقق

عام ٢٠١٠م عندما كتب أستاذ الدراسات الإفريقية الكبير الدكتور السيد فليفل كتابه: «التاريخ الاجتماعى والاقتصادى لجنوب إفريقيا»، كان ذا بصيرة تاريخية نافذة وحكيمة، حينما ربط بين جنوب إفريقيا وفلسطين، وبين جمال عبدالناصر ونيلسون مانديلا، يقول الإهداء: «إلى إنسان إفريقيا فى الجنوب، وقد حرر نفسه من ربقة الظلم، وحرر ظالميه من التردى فى الظلم، وحرر الإنسان من سقطة العنصرية. وإلى جمال عبدالناصر، أدرك وهدة العنصرية فى الجنوب، كما أدرك صلتها برفيقتها الصهيونية فى فلسطين المحتلة، فمد يده إلى نيلسون مانديلا ورفاقه، ولا تزال مقاومة العنصرية فى الميدان، سواء فى جنوب إفريقيا وفلسطين». انتهى الاقتباس.

وفى عام ١٩٦٤م عندما أصدر الدكتور جمال حمدان كتابه: «الاستعمار والتحرير فى العالم العربى» وهو يختلف عن كتابه: «استراتيجية الاستعمار والتحرير» الذى صدر فى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، الكتاب الأول صدر ومصر- بفضل وعيها الاستثنائى لمخاطر الاستعمار الجديد- تتمتع بوزن إقليمى لم يحدث من قبل وبتأثير دولى كذلك لم يحدث من قبل.

أنور الهواري

فى هذا السياق صدر الكتاب بروح وثّابة متفائلة متحفزة، ترى الاستعمار فى لحظة زوال، لكنها على يقين أن هذا الاستعمار الذى يشهد لحظة غروب تحل روحه وتتناسخ فى استعمار جديد هو إسرائيل.

يقول الدكتور حمدان: «الاستعمار يعبر خط الزوال، ويدخل مرحلة الشفق، ولعلها الآن مرحلة الغسق، إلى أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل»، ثم يتحدث عن الهدف من الكتاب وهو أن «نرسم صورة جديدة مشرقة لموجات التحرر، مراحلها ومحركاتها، اتجاهاتها ومثلها، نقاط قوتها ومواطن ضعفها، كيف دفن الوليد الجديد- يقصد حركات التحرر الوطنى- جثة الاستعمار العجوز».

ثم يقول عن إسرائيل إنها «آخر أشباح الاستعمار بل وتناسخ أرواحه، فما العميل الغادر إسرائيل إلا محاولة لتحل روح الاستعمار الطريد- يقصد الاستعمار القديم- فى جسم هذا الاستعمار الصهيونى الشريد، ولكن لنا من الآن، أن نبشر هذا وذاك- يقصد الاستعمارين القديم والجديد- بالنسخ لا بالتناسخ». انتهى الاقتباس.

أردتُ مما سبق الوصول لهذين المعنيين:

أولًا: إن إسرائيل هى خلاصة الاستعمار ومستقبله وأداته للسيطرة على الشرق الأوسط، هى استعمار متجدد مستمر، لا يقبل الغرب المساس به، ناهيك عن هزيمته أو إفنائه، والعكس من ذلك يقبله ضميره، فضمير الغرب يقبل هزيمة وإبادة وإفناء أى مقاومة تمثل خطرًا حقيقيًا على أمن إسرائيل.

ثانيًا: مقاومة الاستعمار لن يقوم بها ولا يتحمس لها من يخضع طوع إرادته للاستعمار، والعكس صحيح، مقاومة الاستعمار تستدعى الالتفات جهة كل الشعوب الحية التى ذاقت مرارة الاستعمار وتصبر على مشقة الاستقلال ولديها ضمير حر ولم تفقد إنسانيتها تحت ضغط الهيمنة الغربية.

الاستعمار والرأسمالية توأمان، لهذا وقفت الشركات العظمى عابرة القارات مع الصهيونية، فيما وقفت الضمائر الحية من الشعوب المثقفة مع المقاومة الفلسطينية.

إبادة الفلسطينى الأخير

منذ خواتيم القرن الخامس عشر، والغرب- لمدة خمسة قرون- لم يتوقف عن إبادة من يرى لزوم إبادته، بدءًا من شعوب الأمريكتين وأستراليا وإفريقيا وآسيا، ثم وصولًا إلى آخر حصون المقاومة الفلسطينية شتاء ٢٠٢٣- ٢٠٢٤م، فبعد مائة وستين يومًا من حرب صهيونية متواصلة على غزة، مدعومة بالسلاح والدبلوماسية والإعلام الغربى، تم إضعاف تأثير قوى المقاومة– وبالذات فى شمال القطاع– فضلًا عن استشهاد عدة آلاف يقال إنهم ثلاثة عشر ألفًا من المقاتلين المدربين من جملة ثلاثين ألفًا هم حصيلة الشهداء فى خمسة أشهر من مقاتلين ومدنيين.

وإذا تمكّن العدوّ من الوصول إلى رفح فى الجنوب، وإذا تركه العالم يفعل ما فعله فى شمال القطاع، تكون الحرب قد وصلت إلى غايتها التى أرادها العدو والتى تواطأ معه عليها العالم كله، وسكتت عنها حكومات العرب والمسلمين إلا فى استثناءات لا تكاد تؤثر على مسار العدوان فى قليل أو كثير، بينما تقف غزة نفسها، بأهلها الذين يزيد عددهم على مليونين، شاهدةً على استعداد النظام الدولى بقيادة أمريكا للتسامح مع إسرائيل ثم التعاطف مع إسرائيل، ثم تزويد إسرائيل بالسلاح والمشورة العسكرية والدعم الدبلوماسى والتغطية.

تضحيات ودروس

المقاومة قدمت الاثنين معًا: قدمت البطولات والتضحيات التى جددت الأمل فى أنفس مناصريها فى العالم كله، كما قدمت الدرس الأعمق، وهو كشف الغطاء عن عنصرية إسرائيل وأمريكا والغرب، العنصرية التى تمنح الحق للحضارة البيضاء فى إزالة من سواها إذا اعترض طريقها.

البروفيسور إيان لوو Ian Law الباحث فى دراسات العنصرية والإبادة الجماعية ومؤسس ورئيس مركز دراسات العرقية والعنصرية فى جامعة ليدز Leeds University فى المملكة المتحدة، فى ص ٢٥٩ من الترجمة العربية لكتابه: «العنصرية والتعصب العرقى Racism and Ethnicity»، يقول: «العنصرية ضد الفلسطينيين هى أكثر حالات العنصرية قمعًا وإخضاعًا وإهانةً ودمويةً». وهو يرى أن تأسيس إسرائيل- بصورة فعلية- بدأ على الأرض فور انسحاب العثمانيين من الشام، وانتهاء حكمهم له، مع هزيمتهم أواخر الحرب العالمية الأولى فى شتاء ١٩١٧م.

النظام الدولى المعاصر من تأسيس عصبة الأمم ١٠ يناير ١٩٢٠م حتى تأسيس الأمم المتحدة أكتوبر ١٩٤٥م حتى تواطؤ العالم على إبادة المقاومة ٢٠٢٤م، أكثر قليلًا من مائة عام تمثل النقيضين: تمثل ذروة الهيمنة الغربية- أوروبا ثم أمريكا- على مقادير العالم، كما تمثل خلو العالم- لأول مرة– من أى تمثيل سياسى للمسلمين كأمة واحدة منذ تأسيس دولة المدينة فى العام الهجرى الأول ٦٢٢ م.

تقريبًا مائة عام خالية من أى شكل للوحدة بين المسلمين، مع انزواء الخلافة العثمانية عن التاريخ، بعد صراع دامَ قرنَين كاملين مع الأمراض وأسباب السقوط. عصبة الأمم ١٩٢٠م كانت عنوانًا على حقيقتين: الانتصار النهائى والحاسم للغرب على الإسلام، نظام دولى بلا إسلام، نظام دولى أوروبى، سقط آخر أشكال التمثيل الإسلامى، وسقطت معه فى الوقت ذاته وفى الحرب ذاتها إمبراطورية النمسا والمجر التى كانت حائط الصد الذى يقاوم التوغل العثمانى فى أوروبا، تم تفكيك الإمبراطوريتين معًا، كل منهما إلى عدة دول، مع فارق أن تاريخ الغرب بقى موصولًا دون انقطاع، تحل أمة مكان أمة، مع الإبقاء على التوجهات الكبرى لروح وجوهر وصميم وعقل وميراث أوروبا الحديثة.

صدام تاريخى

لقد تشكلت أوروبا الحديثة مع طلائع الحروب الصليبية عند خواتيم القرن الحادى عشر، تشكلت- فى صميم شخصيتها- على مدى قرنين من الزمان من ١٠٩٧م حتى ١٢٩١م، تاريخ متواصل خرجت فيه أوروبا- لأول مرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية ٤٧٦م- من قمقمها الذى تعفّنت فى قهره القرون الطوال، خرجت وما زالت فى خروج دائم وانتشار قائم حتى هذه اللحظة.

درْس قرنين من الحروب الصليبية هو: أوروبا يلزمها- كضرورة حياة وبقاء- أن تخرج من قوقعتها، ثم تنتشر إلى أبعد مكان فى الكون، هذا هو نصف الدرس. أما نصفه الثانى فهو أن أوروبا يلزمها- كى تبقى- أن تكون قلعة حرب ومصنع سلاح وقوة استنزاف لطاقات غيرها وثرواتهم ودفعهم نحو الاستسلام لقيادتها.

هذا الدرس الأوروبى أعاد تأكيد نفسه ثلاث مرات: الأولى فى قرنين من الكشف الجغرافى، والكشف الجغرافى هو الاسم المخادع للسطو المباغت على مقدرات الشعوب. والثانية فى قرنين من الاستعمار الذى أذل أعرق شعوب الأرض، ثم الثالثة فى القرن العشرين حيث تأكد مستجدان: تسلم أمريكا دفة القيادة العالمية، وتأسيس إسرائيل.

مثلما تاريخ أوروبا الحديثة يبدأ من الحروب الصليبية، فكذلك تاريخ منطقتنا– الشرق الأوسط– يبدأ بالحروب الصليبية، فالصدام التاريخى الذى بدأ قبل أقل من ألف عام ما زال يتجدد تحت أشكال مختلفة، لكن الجوهر قائم لا يتغير، وهو تأكيد هيمنة الغرب وتفوقه، وبالتالى تأكيد هوان الشرق الإسلامى وضعفه.

كانت الحروب الصليبية- رغم اندحارها- أول هزيمة بالمعنى التاريخى العميق لعالم الإسلام، هزيمة تُنهى قرون التفوق، وتبدأ قرون الصراع، ثم تحسم الصراع لصالح الغرب على حساب الشرق، كانت أول هزيمة على طريق طويل من الصراع، كما كانت أول انتصار يمنح الغرب الثقة فى نفسه، فى ذروة هذا الطريق تواجهنا ثلاث حقائق:

١- المسلمون بلا تمثيل يوحّدهم أو يجمعهم أو يعبر عن أى لون من ألوان التناصر فيما بينهم، حتى لو كان مجرد إطعام الطعام وإغاثة الضعيف، لم يبقَ لضعفاء المسلمين غير الدعاء فى الصلوات يسرفون فيه ويزيدون منه ويأملون من ورائه النصر الذى لم يعدّوا له عدته فى قليل أو كثير.

٢- تجسيد قوة الغرب وتفوق غير مسبوق فى إمبراطورية أمريكية جمعت عنف كل ما سبقها من إمبراطوريات التاريخ تحت رداء الحضارة والديمقراطية والقيم العالمية.

ترجمة ألف عام من صليبية الغرب فيما استجد من تأسيس دولةٍ صهيونيةٍ- تحت اسم إسرائيل- مسموحٍ لها قبل أن تكون دولة ثم بعد أن صارت دولة أن تمارس- تحت ضمان الغرب ورعايته وكفالته- أسوأ أشكال الإبادة العنصرية ضد الشعب الفلسطينى.

تاريخ استثنائى

تود إسرائيل، ويود الغرب، وتود أمريكا لو يأتى عليهم يوم يخلو فيه العالم تمامًا من آخر فلسطينى كان على قيد الحياة، وهذا ليس من باب الخيال، إنما هو حقيقة سبق تجريبها، فقد سبق أن احتفل المستعمرون الغربيون بوفاة آخر إنسان من أصحاب البلد الأصليين، فقد قتل المستعمرون الإنجليز آخر إنسان من أهالى جزيرة تسمانيا- فى أستراليا- عام ١٨٦٩. وقد استغرقت عمليات إبادة شعب الجزيرة خمسة وستين عامًا من ١٨٠٤- ١٨٦٩م.

المقاومة الفلسطينية، هى آخر تجسيد لـ«نحن العربَ والمسلمين»، فى مواجهة مزدوجة مع قيادة العالم التى هى أمريكا، ومع ترسانة سلاح الإقليم وهى إسرائيل، وكل منهما تمتاز بحقيقة تاريخية استثنائية وهى أن وجودهما نتاج إبادة أهل البلاد الأصليين، أمريكا نتاج إبادة متواصلة لشعوب الهنود الحمر، وإسرائيل نتاج إبادة متواصلة لقوى الشعب الفلسطينى.

لذا ينبغى إدراك أن الواجب الأول للمقاومة الفلسطينية- كل أشكال المقاومة- ليست هزيمة إسرائيل فى معركة أو حرب مسلحة، فموازين القوة بالغة الاختلال، إسرائيل تنصرها إمبراطورية عسكرية عظمى غير مسبوقة فى التاريخ، ومعها عدة إمبراطوريات أوروبية كانت تحكم العالم حتى منتصف القرن العشرين.

وفى المقابل، فإن المقاومة الفلسطينية انخلع عنها وانفصل أى دعم عربى أو إسلامى له مغزى. السلاح الفلسطينى أعزل فى مواجهة سلاح حضارة الإبادة، لكن الحق الفلسطينى أقوى من خصومه فى ضمائر الشعوب، الطبيعة العنصرية للسلاح الصهيونى- الأمريكى تستهدف إبادة المقاومة لكنها- دون قصد منها بل وغصب عنها- تسببت فى أكبر نصر معنوى وقيمى وأدبى وأخلاقى للمقاومة فى ضمائر شعوب العالم كله.

هذا النصر الأخلاقى هو ما خرجت به المقاومة من حرب المائة والستين يومًا والثلاثين ألف شهيد والتدمير الوحشى الكامل لقطاع غزة، ومرافقه وبنيته التحتية، وكل مظاهر حضارته وثقافته.

وارد جدًا أن تسفر الحرب عن تثبيط الكفاح المسلح عند حدود العدم أو قريبًا منها، لكن الهدف من الحرب لم يتحقق، استئصال روح المقاومة لم يتحقق، إبادة الفلسطينى الأخير لم ولن تتحقق، جوهر الصراع له معنيان متلازمان: الأرض لمن، للمشروع الصهيونى أم لأهل البلاد؟ ثم المعنى الثانى: البقاء لمن؟

والمعنى الثانى أخطر من الأول وأعمق، فالشعب الفلسطينى هو من سيستردّ الأرض، لذا فسلامته وبقاؤه وديمومة تجدده رغم كل محاولات إفنائه هى الأولوية فى هذه المرحلة من الصراع الذى بدأ قبل ألف عام وربما يستمر ألف عام أخرى. النصر هو عدم تمكين حضارة الإبادة الصليبية- الصهيونية من إفناء آخر فلسطينى.

تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ استثنائى فى مقاومة الإفناء والإبادة.