الإثنين 25 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هل أنا كافر؟

من يملك أن يقول إننى ارتددت عن الإسلام، لم يدر بخلدى قط فى يوم من الأيام أن على الإنسان- أى إنسان- أن يكشف عن مكنون قلبه فى شأن علاقته بربه سبحانه وتعالى وخالقه، لم يدر بخلدى ذلك لأن «الإسلام» هو الأصل فى الطبيعة البشرية، ما لم يعلن الإنسان باللسان أو السلوك أنه على دين آخر غير دين الإسلام. 

لكن هؤلاء المتحدثين باسم الله الممزقين لأستار القلوب وخوالى الصدور، مصاصى الدماء وهاتكى الأعراض، لا يعرفون ما هو الإسلام، ومع ذلك لا يكفون عن الحديث عنه والتلفع بعباءته لكى يقتلوا مبادئه السمحة ويلوثوا غاياته الإنسانية النبيلة، إنهم يقولون بأفواههم: نحتكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن قلوبهم تنطوى على عدم فهم للكتاب والسنة، فيتجلى عدم الفهم هذا فى سلوكهم الذى لا يمكن وصفه إلا بأنه بلطجة فكرية وغوغائية سياسية. 

نعود إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فى القرآن يأمر الله نبيه قائلًا: «فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التى فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون»، فى هذا النص يصف الله تعالى الدين الإسلامى بأنه دين الفطرة، أى الدين الذى يولد عليه الناس فى براءتهم الأولى التى لا تتبدل، إنه الدين القيم، بل هو الدين المتجلى فى كل الأديان الأخرى بوصفه الفطرة الكامنة فى الطبيعة الإنسانية. 

هذه الفطرة هى «صبغة الله» وليست صبغة البشر» ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون» فالله الخالق البارئ المصور يصبغ خلقه بهذه الصبغة- الإسلام – فهى من ثم عنصر جوهرى فى الطبيعة البشرية، لكن الإنسان فى الإسلام حر الاختيار، إن شاء ظل على فطرته الأصلية وطبيعته الأساسية، وإن شاء اختار دينًا آخر غير دين الفطرة. 

وحرية الإنسان محكومة بقواعد التنشئة والتربية خاصة فى فترة الطفولة، من هنا جاء شرح النبى عليه الصلاة والسلام لما يمكن أن يصيب فطرة الإنسان من تغير، فقال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء». 

ومعنى قوله عليه السلام أن التحول عن دين الإسلام- الفطرة- يتم من خلال التنشئــــــــــة الاجتــــــــــماعية، أى من خلال الأسرة، فالإنسان يولد مسلمًا ثم تحوله أسرته إلى مسيحى أو يهودى أو مجوسى، والتشبيه الذى يستخدمه الخطاب النبوى واضح الدلالة، فالبهيمة حين تلد، تلد بهيمة تكون مكتملة الأعضاء «وهذا معنى قوله عليه السلام جمعاء»، لكن البشر هم الذين يجدعون هذه البهيمة، أى يقطعون بعض أعضائها ويغيرون خلقتها. 

وقد ولدت والحمد لله مسلمًا على الفطرة، ولم يحولنى أبواى، رحمهما الله، إلى المسيحية أو إلى اليهودية أو إلى المجوسية أو إلى أى دين آخر غير دين الفطرة السمحاء، ونشأت فى أسرة مسلمة، وحفظت القرآن الكريم وأنا ابن ثمانى سنوات، ولم ينقل أحد عنى قولًا أو سلوكًا أو كتابة أننى أنكرت ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فلم أنكر أن الله سبحانه وتعالى واحد وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله، ولم أنكر الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتلك أركان الإسلام الخمسة، التى يعد إنكار ركن منها خروجًا من الدين وارتدادًا عن الإسلام. 

لكن من لا يعرفون الإسلام وإن تشدقوا به سمحوا لأنفسهم أن يخوضوا فى شأن عقيدتى وإيمانى لا لشىء إلا لأنهم لا تعجبهم اجتهاداتى الفكرية والعلمية فى أمور اجتهادية اختلف فيها المسلمون كثيرًا قبل ذلك، التوحيد مثلًا من المبادئ التى اتفق عليها المسلمون، لكن طبيعة هذا التوحيد وتفاصيل تصوره من الأمور التى اختلف فيها المسلمون ولم يكفر أحد فيها أحدًا، لقد اختلفوا حول طبيعة الذات الإلهية، وحول صفاتها، ولم يقل أحد إن اختلافًا كهذا يفضى إلى الكفر ويحكم تصور منها على تصور آخر بالردة. 

وكذلك اختلف الفقهاء فى فهم الأحكام وتأويلها، ولم يحكم فقيه على آخر بالردة، بل إن الخليفة الثانى عمر بن الخطاب اجتهد فى حكم نصيب المؤلفة قلوبهم فى الزكاة المنصوص عليه فى القرآن الكريم فى قوله تعالى «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم»، ومنهم المنصوص عليه، وحين احتجوا عليه بأن الرسول كان يعطيهم وأن أبا بكر الصديق لم يمنعهم، والفهم من ذلك أن هذا حكم منصوص عليه فى القرآن، كان رده واضحًا بان هذا الحكم كان فى حالة ضعف الإسلام وحاجته إلى الأنصار وتآلف القلوب. 

إذا كان اجتهاد عمر هذا اجتهادًا فى حكم قرآنى منصوص عليه ولا يحتمل التأويل، وإذا كان الصحابة لم يردوا عليه اجتهاده ولم يتهموه بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فمعنى ذلك أن الاجتهاد فى فهم الأحكام وربطها بعللها وأسبابها وتنزيلها على الواقع أمر لا يخرج الإنسان عن العقيدة وليس مبررًا للحكم عليه بالردة. 

لكن المتاجرين بالإسلام والمؤلفة جيوبهم وحساباتهم فى البنوك لا عقل لديهم ولا وعى فى ضميرهم ولا وطنية، ولأن تلك الاجتهادات تهدد مصالحهم وتكشف جذور استغلالهم النفعى الدنيوى الدنىء والرخيص للإسلام أقاموا الدنيا مطالبين بإسكات صوت نصر أبو زيد بحرمانه من الأستاذية أولًا، وبمحاولة فصله من الجامعة ثانيًا، ثم بالقتل المادى ثالثًا. 

تلك هى مشكلة المؤلفة جيوبهم مع اجتهادات نصر أبوزيد، فحين عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل لجأوا إلى المحكمة، وما قدم فى أوراق الدعوى ومذكرات الخصوم ليس إلا آراء عبدالصبور شاهين ومحمد بلتاجى وإسماعيل سالم وغيرهم من البشر، وهؤلاء الثلاثة هم الذين دبروا الأمر كله، وحاكوا مؤامراتهم تحت قبة الجامعة للأسف وتحت بصر ومباركة وزير ثقافة سابق، واختفوا خلف أسماء أخرى من أمثالهم المؤلفة جيوبهم. 

وها هو حكم المحكمة قد صدر- واللهم لا تعقيب- لكنه ليس كافيًا فى نظر شيخ الإسلام عبدالصبور شاهين والذى سجل دين الله سبحانه وتعالى فى الشهر العقارى باسمه، راح فى مسجد عمرو بن العاص يصول ويجول حول رائحة الدم التى ينتشى بها أمثاله، ثم تفتق ذهنه عن اتهام جديد بالعمالة للموساد، مسكين هذا الرجل ومساكين أشياعه، وأسال الله له ولقواه العقلية السلامة، نقل عن محمد الحيوان اتهامات أشك كثيرًا أن يكون محمد الحيوان قد كتبها، ثم راح يتحدث عن مؤتمر مدريد، وسمح له جهله أن ينسى أن من بين الأسماء التى تورطت فى الاستجابة لدعوة مؤتمر مدريد اسم فهمى هويدى وصلاح حافظ وعائشة عبدالرحمن وميلاد حنا وليلى تكلا، ولم ينبهه أشياعه إلى أننا أصدرنا بيانات إدانة نشرت فى الأهرام والأهالى وفى كثير من الجرائد العربية وأُرسلت لإدارة المؤتمر. 

لكن المهم أن شاهين حين أدرك أن اتهامات الردة لم ترهبنى، وأن حكم المحكمة قابل للنقض، وأن الاتجاه الذى يمثله بسبيله إلى الانتحار، راح يفتش عن وسيلة قتل جديدة فأضحكنى وأضحك الناس عليه وعلى أمثاله، ويكفى أن يقول دفاعًا عن تورطه مع الريان «لم أكن وحدى المتورط، فقد كان الشيخ الشعراوى كذلك»، ويكاد الشيخ يؤلب الناس على الشعراوى مستنكرًا أنه وحده الذى يتعرض للنقد بتهمة الاحتيال والنصب على عقول المسلمين ليتمكن آخرون من سرقة أموالهم. 

وبعد فإن البيان الذى نشرته روزاليوسف كما نشرته الأهرام وجريدة العربى- بيان تأكيده لإسلامه- لم يكن موجهًا لعبدالصبور شاهين ولا لأشياعه من المؤلفة جيوبهم، لكنه موجه للناس جميعًا، مسلمين ومسيحيين، من مواطن مصرى مسلم وباحث أكاديمى له اجتهاداته، ومن المؤسف- أكرر هذا دائمًا- أن بعض الصحف حين نشرت البيان عرضته بطريقة توحى بأننى أعلن توبتى، وأنا أستنكر هذا بشدة وأدينه وأرفضه، ليس هذا البيان توبة لأننى لست ببساطة مرتدًا مع احترامى للقضاء المصرى.