د. هالـة فؤاد: العقل لدى «التنويريين العرب» تحول إلى «إله» فأصبحوا أصوليين أيضًا!
- البرامج الثقافية تُذاع فى أوقات غير مناسبة ومستوى «النيل الثقافية» سيئ جدًا
- كل مفكر عربى يتقوقع على أفكاره ويتصور أنه قال الكلمة الفيصل
- علينا أن نقرأ التراث بعين متفحصة تنتمى لزمنه دون لىّ عُنق الحقائق
- المجتمع مأزوم لأنه ما زال يتعامل مع الثقافة كنوع من الرفاهية
منذ أن تخرجت فى كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، قبل عقود وحتى يومنا هذا، وهى توجه كل تركيزها إلى دراسة الفكر الصوفى والنصوص التراثية الفلسفية، كما عملت بشكل خاص على نصوص الفيلسوف الإسلامى أبوحيان التوحيدى، وعلى غيرها من السرديات الصوفية الكبرى.
وتجلى ذلك التوجه فى إصداراتها الشهيرة مثل «التوحيدى: رحلة الوعى من الغفلة إلى الانتباه» و«المثقف بين السلطة والعامة.. نموذج القرن الرابع الهجرى- أبوحيان التوحيدى»، وغيرهما من المؤلفات المهمة.
إنها الدكتورة هالة فؤاد، أستاذة الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وأرملة وزير الثقافة التنويرى الراحل، الدكتور جابر عصفور.
وخلال حوارها مع «حرف»، تحدثت الدكتورة هالة عن رؤيتها الفلسفية للعديد من القضايا المجتمعية والفكرية، كما قدمت ما يمكن وصفه بروشتة لإصلاح العقل العربى وتخليصه من الكثير من الأزمات.
■ لديكِ اهتمام كبير بالفكر الصوفى والنصوص التراثية الفلسفية وعملتِ بشكل خاص على نصوص «التوحيدى» والسرديات الصوفية.. كيف نستعيد تلك النصوص كمنهج وخارطة طريق فى مجتمعاتنا العربية الآن؟
- لا أتفق مع هذا الطرح، وأرى أن التراث كان لحظة فى التاريخ علينا أن نقرأها جيدًا عبر مناهج متعددة، سواء بينية أو متخصصة، من خلال مجموعات عمل كبيرة؛ لأن التراث مساحة واسعة وتم تركه للمستشرقين وتلاميذهم وحان الوقت لاسترداد هذا التراث، وتوجد مساحات كثيرة فى التراث لم تُدرس بعد، فالدراسات الغربية حول «الفارابى» و«ابن سينا» وغيرهما هى دراسات من وجهة النظر الغربية ومن خلال مناهج غربية.
ولهذا علينا أن نقدم قراءات جديدة وفهمًا جديدًا لتراثنا الإسلامى وأسئلة منهجية جديدة، مثل قراءة الفلسفة الإسلامية من زاوية الفكر النسوى، وقراءة النصوص الصوفية من زاوية النقد الثقافى، خاصةً أن الأدوات الآن أكثر اتساعًا، والأهم عندما نطبق ذلك لا يجب أن يكون حاضرًا فى أذهاننا توظيف هذا التراث من أجل استعادة أمجاد الماضى، فالماضى لا يُستعاد.
والأهم فهم الماضى جيدًا لاستشراف المستقبل، وهذا هو المأزق الذى وقع فيه أغلب جيل التنوير، فلديهم عبارة قديمة يتم تكرارها دائمًا وأعادها للمشهد أمين الخولى وهى «الفهم تملك المفهوم»، ولا أتفق مع هذه الفكرة لأن الهيمنة على النصوص وامتلاكها هو ما يجعل المفاهيم ضيقة وفى اتجاه واحد، والأهم هو الفهم دون تملك أو هيمنة، فالفهم عملية مفتوحة.
وأتصور أن موقفنا من التراث يجب أن يكون مفتوحًا ومرنًا وليس الهدف منه استعادة التراث، وعلينا أن نقرأ التراث بعين متفحصة تنتمى لهذا الزمن دون أن نلوى عُنق الحقائق التراثية، وأن نفهم التراث لأنه ينطوى على ما هو مُعلن وما يمكن أن نطلق عليه اللا وعى الجمعى.
هذا المجتمع لديه لا وعى مسكون بهواجس كثيرة جدًا، ويحتاج إلى «غربلة»، ونحتاج لتحليل «نفسى فرويدى» للشخصية العربية والإسلامية، وعملية فك وتحليل للخريطة القديمة، فكى نتمكن من بناء حضارة لا بد أن يكون لدينا خلفية واسعة، وعملية إعادة بناء الإنسان تبدأ بفهم التراث والماضى، فمثلًا المجتمعات العربية مجتمعات أبوية، ولا يمكن حل هذه المشكلة إلا بفهم مدى تجذر هذا التركيب فى بنيوية العقل العربى الإسلامى، بدايةً من تصوره لله وانتهاء بالنبوة والبشر.
■ برأيكِ هل المجتمعات العربية فى حالة عداء مع الفلسفة تحديدًا؟
- العداء ليس مع الفلسفة تحديدًا، وإنما حدثت تحولات لأن مفهوم التنوير الذى بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر فى المجتمع العربى تعرض لنوع من التشوهات، سواء فى عصر التنويريين الكبار «المرحلة الليبرالية» أو ما بعدها.
ومأزق التنوير العربى أن التنويريين يرددون عبارات مثل الأنظمة الفاشية، والجماهير الجاهلة، والأصوليات الإسلامية والدينية، ولم يحاولوا، إلا قلة منهم مثل جورج طرابيشى، أن يفهموا التنوير نفسه، بمعنى تطبيقه على أنفسهم ووعيهم، وبأن ينقدوا هذا الوعى وهذه الأفكار، ويبحثوا فى أسباب نجاح التنوير فى فترة نتج عنها تحرير المرأة وإنشاء جامعة القاهرة.
ويُرجِع التنويريون أسباب ذلك إلى نظام «عبدالناصر»، ولا يبحثون عن أسبابه لديهم، والحقيقة أن من أسس ثقافة عصر «عبدالناصر» هم التنويريون الليبراليون الذين انتموا للأربعينيات والثلاثينيات مثل نجيب محفوظ وطه حسين وغيرهما، ولذلك على الإطار التنويرى فى العالم العربى الآن مراجعة نفسه مرة أخرى، فسبب تقدم أوروبا فى الفلسفة هو وجود حالة نقد ذاتى دائم، بمعنى أن كل مذهب فلسفى ينقد ما سبقه من مذاهب.
أما فى المجتمع العربى فتوجد حالة ثبات وتقوقع، بمعنى أن كل مفكر يتقوقع على أفكاره وآرائه ويتصور أنه قال الكلمة الفيصل، والعقل نفسه تحول إلى «إله»، فكما توجد أصولية إسلامية لدينا أيضًا أصولية عقلانية وأصولية ماركسية، فالأصولية ليست بالضرورة مرتبطة بالدين فقط، والتمترس حول فكرة معينة ورفض أى اقتراب منها هو نوع من الأصولية أيضًا، كما تنعدم حالة الحوار فى المجتمعات العربية.
■ هل يمكن القول إن التيار العلمانى أو التنويرى يعانى من أصولية؟
- نعم بشكل أو بآخر، لأنه يقوم بعملية تأليه للعقل، أى العقل المنضبط الذى لا يقبل أى مساحات هامشية أو إمكانات لا معقولة، لأن اللا معقول أصبح مرتبطًا بالخرافة، فى حين أنه توجد أمور أخرى لا ترتبط بالخرافة مثل ما صنعه العالم الفرنسى «بشلارا»، عندما تحول من العلم الطبيعى إلى الكتابة عن شاعرية أحلام اليقظة والتحليل النفسى للنار، فهذا ليس خرافة إنما خيال مفتوح يتعامل مع عقل مفتوح.
■ هل التكوين المنهجى للتنويريين العرب مؤدلج؟ وهل هذا التيار يعانى أزمة حقيقية كما يقال؟
- التيار التنويرى ليس التيار الوحيد المأزوم ولكن المجتمع ككل يعانى من أزمة، لأنه مجتمع ما زال يتعامل مع الثقافة باعتبارها نوعًا من الرفاهية والترفيه، ولم يُدرك بعد أن الثقافة هى مفتاح التحول، وإذا لم يتم تغيير ثقافة المجتمع فكل ما يتم بناؤه سينهار، وثبت ذلك بالفعل عندما انهارت كل الأنظمة الاشتراكية والبعثية أمام الإسلام السياسى فى لحظة، لأن الثقافة لم تتغلغل فى أفراد المجتمع.
ومسألة الثقافة لا تقتصر على قراءة الكتب فقط وإنما على سبيل المثال فى مناهج التعليم، فدائمًا ما كنت أطالب بأن يدرس طالب العلمى فى مرحلة الثانوية العامة التاريخ والفلسفة والجغرافيا مثل طالب الأدبى، لأنه يجب أن يعرف تاريخ بلده، وفى الجغرافيا مثلًا يجب تلخيص كتاب «شخصية مصر» وتدريسه للطلاب حتى لا يتم طمس الهوية الثقافية.
■ سيطرت سطوة فكرية تعتمد على الخرافات والأساطير على عقول المصريين لعقود بدلًا من دعم التفكير العلمى والعقلانى.. ما السبب وراء ذلك؟ وما آليات مواجهته؟
- لا يوجد حل إلا تكريس الثقافة، بمعنى أن تتم استعادة البرامج الثقافية التى تم إهمالها، مثل برنامج فن الباليه، وصوت الموسيقى لرتيبة الحفناوى، وبرامج الأطفال التى تتناول الحكايات والسرد وغيرها.
لقد تم تحويل الثقافة إلى ترفيه، وتتم إذاعة البرامج الثقافية فى أوقات غير مناسبة، ومستوى الأداء فى قناة مثل «النيل الثقافية» سيئ جدًا على مستوى المذيعين والضيوف والإمكانات، ويتم ترديد كلام فى غاية العجب.
■ هل توجد أبعاد فلسفية للتطرف؟ وهل العنف هو الذى يصنع التاريخ؟
- أؤمن بأن العنف يصنع التاريخ للأسف، وكل المجرمين تاريخيًا غيروا خريطة العالم، بدايةً من الإسكندر المقدونى وانتهاءً بـ«هتلر»، واستمرت هذه الشخصيات ملتبسة لا تستطيع أن تكرههم ولا تستطيع أن تحبهم، فمثلًا «نابليون» عندما تقرأ سيرته تجد أنه غازٍ مستعمر لكنه فى نفس الوقت نفذ أعمالًا أخرى إيجابية، لكن ما لا شك فيه هو كم الدم الذى أسيل من أجل تغيير التاريخ وصناعته، حتى المرض، فالطاعون مثلًا غير خريطة أوروبا فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر، فالمشكلة أن اللجوء للسلام فى حالة مثل «غاندى» يُغير ولكن ليس بنفس القوة.
وفى العالم المقبل لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هى السيد الأوحد، لكن كى يتحقق ذلك كان لا بد أن تكون البداية من الحرب الباردة، ثم تدمير الاتحاد السوفيتى الذى لعبت أمريكا دورًا غير قليل لتحقيقه، ثم الكوارث اللاحقة فى أفغانستان والعراق، والقصة مستمرة، فلم يتغير التاريخ إلا بالدم.
وأبعاد التطرف تمت صياغتها أيديولوجيًا، فبالنظر إلى منطقة آسيا نجد أنها مهيأة جدًا للعنف الدينى، منذ بداية الخلافات المذهبية مثل الإسماعيلية والإثنى عشرية، والعنف لا ينتهى بين المذاهب والطوائف والجماعات التى تؤسس للعنف أيديولوجيًا، والقراءات أو الممارسات للديانات أيضًا انطوت بشكل أو بآخر على شىء من العنف، سواء فى القراءات التفسيرية المتطرفة أو بعض الممارسات التى خلطت بين الدين والسياسة.
■ عند الانتقال من البيئات الاتصالية التقليدية إلى بيئات اتصالية حديثة تتبلور مفاهيم وقيم جديدة.. وهو ما تحدثه تقنيات الذكاء الاصطناعى.. ونحن نقف على أعتاب الثورة الصناعية الخامسة.. ما المطلوب فلسفيًا لكى نستطيع أن نتعامل مع الآلة والتقنيات دون تأثيرات مجتمعية سلبية؟
- وسائل التواصل الاجتماعى سلاح ذو حدين، وللأسف تُستخدم حاليًا بشكل أوصلنا فى النهاية لدرجة من التشوه والمسخ على مستويات عديدة، وأصبحت هناك نماذج لا قيمة لها وجهلة فى صدارة المشهد، بالإضافة لطبيعة المجتمع، حيث إننا مجتمع أمى ثقافيًا، ووسائل التواصل أدت إلى تحويل الثقافة إلى آلات وأجهزة، حتى فى عملية الترجمة، بمعنى أنه تم سحب البساط من الإنسان، وهذا يؤدى لفقد الثقافة طابعها الإنسانى، وهو أهم ما يميزها.
■ ما الذى استفاده جابر عصفور منكِ وما الذى استفدتيه منه؟
- جابر عصفور لم يكن مجرد زوج أو حتى حبيب، لكنه كان فى المقام الأول أستاذًا، لم أتعلم المنهجية إلا على يده؛ لأنه كان لديه تصور لمسألة الناقد الأدبى، واستمده من طه حسين وأستاذته سهير القلماوى وعبدالعزيز الأهوانى وشكرى عياد، وهو تيار فى قسم اللغة العربية كان يؤمن بأن النقد الأدبى لا بد أن يكون مكونًا فلسفيًا، وأن أى ناقد أدبى على غير معرفة بالفلسفة هو ناقد ضعيف، وهذا على عكس ما يؤمن به التيار الكلاسيكى فى قسم اللغة العربية، وعلى رأسه شوقى ضيف وهو تيار منغلق.
■ ماذا عن مؤلفاتكِ الجديدة؟
- أعكف حاليًا على كتاب جديد يمكن القول إنه خلاصة خبرة ٣٠ عامًا من الدراسة، عن التصوف كرؤية جمالية للعالم.
■ مؤخرًا أعلنتِ عن إهداء مؤلفات الدكتور جابر عصفور إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية.. ما تفاصيل ذلك؟
- أهديت جزءًا من مكتبة جابر عصفور للجمعية التاريخية، وهى كتب خاصة بالتاريخ، ومنها أوراق «ناصر ومراسلاته»، و«تاريخ ابن عساكر» عن دمشق، وتاريخ «ابن الأثير»، وجزءًا آخر لمكتبة جامعة القاهرة بنحو 5000 كتاب، وسيوضع جزء منها فى قاعة خاصة بالمكتبات المُهداة، يتضمن كتبه وسيرته الذاتية، وتتضمن الكتب المهداة بشكل عام الأمهات والنصوص الأصلية فى البلاغة والنحو والشعر الجاهلى، بنحو 25000 عنوان، ويمكن القول إن ما جمعه جابر عصفور نحو 50000 كتاب، وحاليًا أوزع الكتب لأنه للأسف لم أجد من يتحمس لتحويل بيت جابر عصفور إلى مركز ثقافى، حتى ابنه تخلى عن هذا الحلم- الوصية- وحاولت كثيرًا لمدة ثلاثة أعوام عبر مخاطبتى لوزارة الثقافة وحكومة الشارقة وعدد من المؤسسات الثقافية العربية، لكن دون جدوى.