سيرة اليمني.. من سِمعه أبو عقل خفيفي ساب خلجاته وطار عريان
هل مات محمد اليمني؟
يا لها من بداية للكتابة عن شخص!
هل وصل تجاهل هذه الشخصية، التي يمكن تصنيفها بين أهم رواة «السيرة الهلالية» في مصر، إلى هذا الحد؟ حد الكتابة عنه، فتجد نفسك تسأل: هل لا زال حيًا أم توفاه الله؟!
قبل كتابة هذه السطور بأسابيع، كان ينساب إلى أذناي صوت شجي، أعقب عزف للربابة مُعتاد سماعه في مقدمات «مقاطع» سيرة بني هلال. انتهى عزف الربابة، وانطلق صوت «الشاعر»، فلا عرفت متى الربابة سكتت، ولا متى بدأ «صاحبنا» الغناء، فصوته مثل «ربابة» عتقها الزمان بشموسه ولياليه، فخرجت الكلمات من فمه ألحانًا، وغنت الربابة من الشعر قوافي وبحور، ودفعتني للبحث عن صاحب هذا الصوت.
أصلي وأسلم على من أقام الدين
بدأت رحلة البحث عن محمد اليمني، وما فعله زمانه به، فلم أجد سوى مجموعة من المقاطع على «يوتيوب» و«تيك توك» و«فيسبوك»، لأحداث من «السيرة الهلالية» وغيرها، وأخرى لحفلات أحياها في مؤسسات ثقافية رسمية، وثالثة لحفلات زفاف، أحياها في «الصعيد الجواني»، أيام ما كانت «سيرة الهلايل» لكثيرين «فرحًا» وإعلانًا لبداية حياة.
وكالعادة، إذ ما بحثت وراء «السيرة الهلالية»، والتراث المصري بصفة عامة، والصعيدي «الجنوبي» على وجه التحديد، ستجد في انتظارك الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، الذي استضاف «اليمني» في أكثر من حلقة خاصة من البرنامج الشهير «الفن الشعبي» على التلفزيون المصري، وكان وقتها لا زال يحمل صفة «راوي جديد» للسيرة الهلالية.
شرح «اليمني» ما يمكن أن نطلق عليه «السيناريو» الذي يلتزم به عند رواية «السيرة» الهلالية فقال إنها دائمًا ما تبدأ بالصلاة على النبي، مُرجعًا ذلك إلى أن «سيدنا النبي مُفضَل على العالمين»، و«أحلى منه ما فيش»، قبل أن يسترسل ويقول: «لما نبتدي بالصلاة على النبي، يبقى القلب موهوب للقول»، وكأنها مرحلة إعداد نفسي، شق للصدر وتهيئة له لاستقبال ما هو قادم.
«أصلي وأسلم على من أقام الدين/ مدحتُ النبي العضم بطل صلايا (صللان أي ألم)/ النبي لما نده وقال يا بلال يا زين/ يا أبو بكر قيموا الصلايا».
بعدها مباشرة، يبدأ الشاعر مرحلة «ذم الدنيا»، عجائبها ومصائبها ومثالبها، ما تفعله بخالي القلب مرتاح البال، كيف تظلمه وتأتي عليه، يوجه إليها لومه بشكل مباشر، أو يتصورها طبيبًا ويوجه الحديث إليه بشكل خاص.
(أنا بليت يا طبيب وفيا ألم من جوه الحشا خلصان/ اسألك يا الله من هذا الألم خلصان/ كشف عليا الطبيب وقالي يا عليل دواك خلصان/ اسمع كلامي أنا اللي مألفه موجود/ كلام حاصل يا ناس مع كل زول موجود/ اللي قال الكلام وسط المجال موجود / ده الطب موجود ولكن الأجل خلصان!».
يواصل شكواه ونحيبه ولومه لـ«الدَنية»، ولمن تخلوا عنه وسط الطريق: (أنا مين في همي بكى معاي/ إذا بكيت أوعوا تلوموني/ شوفوا الأهل لما كانوا معاي/ ساعة البلاوي فاتوني...... سيب العبد خليك مع الله/ على اللي اتبلى ما تلوماشي/ اللي ليه ذنب عاد يلاقاه/ اللي يعمله المولى ماشي».
«مدح التهامي شغلني/ كمديون يسد المطالب/ ناس حزينة وناس تغني/ مغلوب يضحك لغالب/ آه يا دنيا أهو زاد عجبكي/ عشنا وشفنا العجايب/ خليتي الأصيل هيبكي/ مسكين عدم الحبايب».
يفسر «الحجاجي» هذه البداية، التي قد تستمر لربع ساعة متواصلة قبل البدء في رواية السيرة، أو حتى للتعليق على مواقف معينة داخل السيرة ذاتها، فيقول إنها محاولة من الشاعر لجمع المستمعين حوله، لأن «السيرة الهلالية» سيرة كل العرب، «حاوية» كما يطلق عليها رواتها، أي أنها تحكي عن العرب من المحيط إلى الخليج، حلقاتها متعددة، حتى أن روايتها كاملة قد تستغرق أكثر من عام كامل، من راوي يحفظها جيدًا. ويضيف أستاذ الأدب الشعبي: «هي تشمل حياة الناس، والحياة لا تخلو من مرارة، وما أكثر مرارات الحياة».
هنا ينتهي «اليمني» من مقدمته: «بعد المديح في النبي الزين/ تيجي العواقب سلامة/ كلامي على ناس زنين/ زعيمهم يسمى الهلالي سلامة»، لتدور بعدها بكرة «فيلم ملحمي»، وتجد نفسك، دون أي إرادة منك، وسط «أبوزيد» و«دياب بن غانم» و«الزناتي خليفة»، و«السلطان حسن» وحكاويهم، وتتأمل في جمال «الجازية» و«واطفة»، فلا تعرف إن كنت عدت إلى زمن «الهلايل»، أم أحضره «اليمني» إليك صوتًا وصورة.
الأنف بلحة من الشام
ما يميز محمد اليمني عن كل رواة «السيرة الهلالية» الآخرين، أنه مبتكر بطريقة غير مسبوقة، فهو لم يكتفِ برواية السيرة بالطريقة المعتادة فحسب، ولا اعتمد على أحداثها المعروفة ووقف، بل أعاد توظيفها وتقديمها في أشكال أخرى، جذبت إليه المستمعين من كل حدب وصوب.
مثلًا التقط قصة مكتوبة بعنوان «أبوزيد الهلالي واليهودي»، وقدمها في أكثر من 10 أجزاء، تجد فيها «أبوزيد الهلالي سلامة»، و«دياب بن غانم»، و«العبد قمصان»، و«السلطان حسن» و«القاضي بدير»، لكنها ليست في أحداث السيرة المعروفة، سواء في مصر أو تونس أو الجزائر وغيرها من الدول التي روت السيرة بطريقتها.
فعل الأمر ذاته مع قصة أخرى بعنوان: «سبيكة وأبو الحلقان»، يقال أن كاتبها يدعى أبو الوفا المرسي.
كذلك في قصة ثالثة عن «ناصر ولد هولة» بأجزائها العديدة، ورابعة عن «زواج الجازية وأبوزيد».
وبذلك يمكن اعتبار محمد اليمني «شاعرًا»، أكبر من مجرد مطرب أو حكاء للسيرة، ليس شاعرًا على مستوى «الكلمة»، لأن أغلب الجمل التي يقولها، إن لم يكن كلها، مُكررة، وسبق أن استخدمها رواة للسيرة غيره بنفس النمط، مثل «هموم البلا مش خفيفة» أو «اللي فتح بابًا يسيده» أو «اللي اتبلى ما تلوماشي»، لكن «شعره» أو قل «فنه» هو قدرته على تطويع شخصيات مشهورة في قصص من وحي خياله، بما يشبه «دراما اليونيفيرس».
أما صوت محمد اليمني فـ«معتق» كما يطلق عليه أهل الجنوب في مصر، يُناسب تمامًا السيرة الهلالية وملاحمها، وطريقة أداءه تتضمن سردًا تصويريًا يتفرد به دونًا عن أي شاعر آخر... باختصار معه ستشاهد السيرة بأذنيك.
كما أن خفة دمه و«الكاريزما» الطاغية التي يمتلكها تسحر القلوب والعقول والآذان، وتعليقاته الكوميدية على الأحداث التي يرويها أو تمهيده لها، طبيعية دون أي تصنع أو تكلف، تضيف على ما يغنيه جمالًا وجذبًا للمستمع.
المدهش أيضًا في رواية «اليمني» للسيرة الهلالية، هو التعامل مع «العدو» أو «الطرف المكروه» في القصة باعتباره إنسانًا، ليس شريرًا على الدوام، لذا تجده مثلًا يستفيض في فخر «اليهودي» بنفسه، وفي التعبير عن حزن أهله عليه عندما يموت.
هذا اعتبار هام في بناء الدراما، التي يحذر المتخصصون فيها كُتابها من التورط في كراهية شخصياتهم، وهو ما استجاب له «اليمني»، سواء عن وعي أو بفطرة خالصة.
وفي قصة «أبوزيد واليهودي» قدم «اليمني» ما يمكن أن نضعه ضمن أجمل ما وُصفت به المرأة العربية، بل المرأة بصفة عامة، حين وصف «واطفة بنت دياب» فقال عنها بعد أن «حطت الكحل في العين وانجلت جلية نضيفة»: «والله جميلة وكاملة زين/ على النبي صلي يا غفلان / لبست عاد قمصين/ على دول لبست فستان / لابسة من اللي ده طبيب/ كل بدلة وليها ألوان/ طَلقت مِسكة وطيب/ من يقف مع القمصان/ من شافها العليل يطيب/ لو كان سنتين عيان/ فيهم توب عين الحمامة/ على الجسد يلبد ما يبان/ وتوب أبيض وخفيف/ عليه غلايين النار/ من شافه أبو عقل خّفيف/ ساب خلجاته وطار عريان».
يُكمل: «عليها الشعر أصفر/ تقول سلب جمال/ فيها الجبين واسع/ حبيبي هلال شعبان/ عليها جوز عيون/ تحلف تقول عيون غزلان/ فيها الأنف طيب/ حبيبي بلحة من الشام/ فيها الفم ضيق/ النبي خاتم سلمان/ أسنانها شوية شوية/ صف لولي مع مرجان/ عليها الرقبة طويلة/ توب فضة الصايغ نعسان/ فيها الصدر واسع/ تقول بلاط حمام/ لو دخلت الجنينة/ تشوف الخوخ مع الرمان (هنا أتاه صوت واحد من الجمهور (ياااا وعدي)/ البطن سبع طيات/ النبي عجين خمران/ عليها السرة عريضة/ تقول قعرة فنجان!».
هذا الوصف قدمه «اليمني» في قصة «أبوزيد واليهودي»، عندما قرر «دياب ابن غانم» اصطحاب ابنته «واطفة» معه إلى «الديوان»، حتى يشاهدها أهل النجع معه وفي مقدمتهم «أبوزيد» فيعفيه عن الذهاب للقتال.
كما أن هذا الوصف قريب مما ورد في سفر «نشيد الإنشاد» بالكتاب المقدس، الذي وصف «بنت الكريم» بأنها «صنعة صناع»، و«سرُتها كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج»، و«بطنها صبرة حنطة مسيجة بالسوسن»!
لكن في تسجيل آخر قدمه لي واحد ممن استعانوا بـ«اليمني» لإحياء حفل زفاف لابنه، نجد اليمني يطوع المشهد ذاته في قصة أخرى، تقوم حبكتها على أن «دياب» اغتاب «أبوزيد» وقال عنه ما ليس فيه، ولما وصل الحديث «الهلالي سلامة» قرر استدعاء أهل النجع كلهم، فعرف «ابن غانم» أنه المقصود، فطلب من ابنته «واطفة» ارتداء «اللي على الحبل» والذهاب معه إلى «الديوان»، حتى يشاهدها «أبوزيد» فـ«يتلوم» ويعفيه من العقاب.... هذا هو الابتكار الذي تحدثنا عنه قبل قليل.
قصير بخانس
هنا قرية «قصير بخانس» التابعة لمركز «أبي تشت» بمحافظة قنا (جنوب مصر)، حيث ولد محمد اليمني. وإذا كان «اليمني» قد ترك هذه القرية وأقام في «نجع حمادي»، إلا أن سلساله الفني امتد بها دون سواها، وكأن جذوره تأبي مغادرة مكان الميلاد.
هناك يوجد «الريس جمال اليمني»، ابن شقيق «اليمني الكبير»، والذي كان أحد أعضاء فرقته كعازف للربابة، ثم اتجه إلى طريق عمه في غناء «السيرة الهلالية» وغيرها من أنماط الفن الشعبي المختلفة، وله ذكريات عديدة معه، اختص بها «الدستور».
يقول «الريس جمال» إن عمه محمد اليمني بدأ مسيرته الفنية كهاوِ، لم يرث الغناء من الوالد أو الجد، لكنه عشقه من «أبيه الروحي»، جابر أبو حسين، الذي كان يستمع إليه، وسار في طريقه، خاصة مع خامة صوته المميزة، باعتراف كل من حوله.
ويكشف أن أول «شريط» أصدره «المرحوم اليمني» كان بعنوان «أحمد المظلوم»، والذي يحكي عن حادثة شهيرة وقعت بين أسيوط والمنيا، وكان هذا في الثمانينات من القرن الماضي.
ويضيف: «سجل عدة قصص مع شخص يدعى محمد الهادي، كان يمتلك شركة إنتاج فني في منطقة المهندسين، ولما توفي انتقلت الشركة إلى أبو حمزة للإنتاج الفني، وهو اسم القناة التي تنشر العديد من تسجيلات اليمني على يوتيوب، كلها باتفاق رسمي وعقود مكتوبة مع العائلة».
ويواصل: «سافر عدة دول خارج مصر لتقديم فنه، من بينها ليبيا والمغرب وفرنسا، إلى جانب حفلاته بمختلف محافظات الجمهورية»، متابعًا: «في رمضان من كل عام، كان يقدم حفلات تابعة لهيئة قصور الثقافة، بالتنسيق مع نادية الشبوري (رئيس إقليم شمال الصعيد آنذاك)، وبعدها طلعت مهران (الرئيس الأسبق لإقليم وسط وجنوب الصعيد)، ثم الشاعر مسعود شومان (رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية بهيئة قصور الثقافة)»، مشددًا على أنه «كان لازم محمد اليمني يبقى حاضر في الحفلات دي».
ويشير إلى أن أجره في الحفلات والأفراح كان بين 1000 إلى 3000 جنيه، وهذا «أغلى أجر لشاعر سيرة هلالية وقتها»، مضيفًا: «لو الشاعر وقتها كان بياخد 1000 جنيه، محمد اليمني ممكن ياخد 5000».
ويشدد على أن محمد اليمني «امتلك خفة دم كبيرة، كان فكاهيًا جدًا، ويحرص على اختيار القصة التي يرويها، وفقًا للمناسبة والجمهور، لدرجة أن الجمهور كان يطلب منه أداء قصص معينة، في فرح ما، فيرفض، لأنه يرى أن هذه القصة لا تناسب هذا الفرح».
ويتابع: « لم يكن كل القصص التي يرويها موجودة في السيرة الهلالية، لكنه كان يقول قصص شبيهة لها»، موضحًا أنه «كان بياخد من هنا وهنا ويعمل قصة في خياله، زي (ناصر ولد هولة)، و(سبيكة وأبو الحلقان)، و(أبوزيد الهلالي واليهودي)، و(عاصف الجبار)».
ويتذكر مواقف طريفة جمعت «اليمني» بأعضاء فرقته فيقول: «في بعض الحفلات، كان يبدأ في وصف بنات الهلايل، فيمسك يد واحد منا وكأنه تلك التي يتحدث عنها، كنوع من الاندماج مع القصة التي بيحكيها».
ويرى «الريس جمال» أن عمه لم يأخذ التكريم الذي يستحقه، مضيفًا: «خد شهرة في الصعيد والمحافظات، والعديد من الجوائز وشهادات التقدير في قصور الثقافة، وعمل شرايط كتير، لكن مقارنة بفنه المتفرد، لم يحصل على ما يستحقه من شهرة».
وينوه إلى أن أبناء «اليمني» في نجع حمادي، ولم يتجه أي منهم لإكمال مسيرة الوالد، قبل أن يقرر هو السير في طريقه، من خلال فرقة خاصة، تجمع بين تقديم «السيرة الهلالية»، والمواويل والغناء الشعبي.
الخروج عن السياق
محمد كساب، من رواة «السيرة الهلالية» الحاليين، قال إن محمد اليمني تميز بطريقة غناء مختلفة عن الجميع، واصفًا سرده للحكاية بأنه «في غاية الجمال»، علاوة على اهتمامه بالموسيقى المصاحبة لغنائه، واختياره الألحان البسيطة التي يعيش معها المستمع في حالة شجن أو فرح، وفقًا لطبيعة ما يرويه.
وأضاف «كساب» أن محمد اليمني شاعر متمكن، له صوت خاص، وأداء متفرد في رواية القصة، مع «حتت فكاهية ما بتطلعش غير منه»، وتجعل المستمع ينجذب إلى ما يقوله، ولديه رغبة كبيرة في معرفة ما سينتهي إليه الموقف الذي يحكيه.
وبَين أن رواية «السيرة الهلالية» تنقسيم إلى قسمين، لهجة صعيدية مُطعمة بالعربية الفصحى، يمثلها جابر أبو حسين، واللهجة الصعيدية التلقائية، ويمثلها محمد اليمني والسيد الضوي».
ووصف المنشد الشاب محمد اليمني وعلي جرمون بأنهما أكثر رواة السيرة ابتكارًا، عبر خلق قصة من الخيال لجذب المستمع. ورغم أن هذه قد تكون ميزة، يرى «كساب» أنها من بين الأسباب التي جعلت «اليمني» لا يأخذ حظه من الشهرة، إلا بين خاصة الخاصة من متابعي «السيرة الهلالية»
وشرح هذه النقطة بقوله: «الكُتاب الذين جمعوا السيرة الهلالية، مثل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، يفضلون عدم الخروج عن السياق، يرغبون في سماع السيرة بالترتيب، وبقصصها الواقعية المعروفة، من بداية ميلاد أبو زيد إلى وفاته، وهو ما لم يلتزم به محمد اليمني وعلي جرمون، ولذا لم يأخذا حظهما من الشهرة».
وأضاف: «الارتجال اللي كان عند اليمني هو اللي آخره، لكن لو دخل في السيرة بسياقها المعروف، كان طلع في البرامج التلفزيونية والإذاعية، وكُتبت عنه كتب، وذكر في أجزاء الأبنودي عن السيرة، مثل جابر أبو حسين والسيد الضوي»، معتبرًا أن «اليمني» وغيره من رواة السيرة يستحقون وصفهم بـ«الأساطير»، لأنه «ممكن يرتجل 3 أو 4 ساعات على المسرح بالربابة، دون كسر إيقاع أو لحن».
صوت «معتق»
مِسك الختام مع الدكتور محمد حسن عبد الحافظ، أستاذ الأدب الشعبي المساعد بأكاديمية الفنون، خبير التراث الثقافي في معهد الشارقة للتراث، والذي قال إن محمد اليمني تميز بـ«غلاظة» الصوت وعمقه، تمامًا مثل جابر أبو حسين، بشكل لم يضاهيه فيه أي شاعر آخر.
وأضاف د. «عبد الحافظ»، الذي يعتبر من أهم وأشهر جامعي التراث، أن جمهور «اليمني» مخضرم، وأميل إلى استعادة جابر أبو حسين، الذي يعتبر العباءة التي خرجت من تحتها كل المدارس والأداءات التالية، معتبرًا أن محمد اليمني أخذ من جابر أبو حسين «عتاقة» الصوت، بينما أخذ آخرون القدرة على مواصلة رواية السيرة من الميلاد إلى الموت، وهو ما لم يتوافر في «اليمني».
واتفق أستاذ الأدب الشعبي مع سابقيه حول امتلاك «اليمني» حس ساخر محبب، وقدرة على إبراز مشاهد كوميدية، بشكل جميل ومفاجئ، حتى وسط الأحداث وسخونتها، مشيرًا إلى أنه كان «رجلًا ساخرًا ودمه خفيف وابن نكتة بدرجة عالية جدًا، في الحقيقة بعيدًا عن الميكروفون».
وواصل «عبد الحافظ»، وكان في طريقه من «أبي تيج» بأسيوط إلى «نجع حمادي» في قنا، ضمن سفرياته لجمع التراث: «هذا الحس الكوميدي كان اليمني يقدمه بطريقة جميلة ومحببة للجمهور، والأهم أنه غير مصطنع كالبعض، فكما قلت سابقًا، خفة الدم كانت ملكة لديه، دون أي اصطناع.. كان ابن نكتة حقيقي، وأداؤه للنكتة لا يضاهى، لا تجده بهذا التمكن مع أي شاعر آخر».
وأكمل: «لقد عشت مع كل شعراء السيرة الهلالية، شاهدت كيف يتكلمون ويتصرفون في حياتهم العادية، وأؤكد أن محمد اليمني كان أكثرهم ظرافة وخفة دم وقدرة على الإضحاك»، وفي نفس الوقت، كان «يراعي السياق الذي يؤدي فيه، من حيث المكان والمناسبة والجمهور».
وروى موقفًا جمعه بـ«اليمني» يعكس قدرته على ارتجال مواويل، تعبر عن حدث ما تعرض له قبل صعوده إلى المسرح، قائلًا: «كان هناك صراع بين الشعراء بطبيعة الحال كأي مهنة، وهيئة قصور الثقافة كانت تستعين بهم لإحياء ليالي رمضانية في أسيوط، ومحمد اليمني كان شخصية قوية، وعنده القدرة على الضغط، وكان يرغب في إحياء كل هذه الليالي بمفرده، على مدار أسبوعين وأكثر».
وأضاف: «حشد اليمني كل القوى الممكنة لتحقيق رغبته، بما فيها الجمهور والمسؤولين. أما أنا فكان رأيي هو ضرورة وجود تنوع، فقلت اليمني 10 أيام، وعز الدين نصر الدين، الذي كان الأصغر ولم يستوى عوده بعد وقتها، 5 أيام، لكن هذا ضايق اليمني بشدة، لذا في الليلة الأخيرة قبل مغادرته، (نتعني) موال عن موقفي هذ، مفاده (أنت بتتدخل في الموضوع ليه؟)»