الأحد 24 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمد عبدالظاهر المطارقى يكتب: قصتان

قصتان
قصتان

الطفل والصندوق

النور الساطع يذبل رويدًا رويدًا، يحاول التشبث به، يسقط فى أتون الماضى، والذكريات القديمة، يجاهد من أجل البقاء يقظًا خلف ذلك الصوت الذى يصدح بالنور، يتهاوى الجسد فى بئر سحيقة.. سحيقة؛ ليستحيل فجأة إلى قطار بلون التراب، يطلق صرخاته الموجعة فى وجه الريح. فى أحشائه كتل من اللحم الحى تزكم الأنفاس، تنزف عرقًا بغيضًا.. أصوات تتشابك، تبدو كدوى النحل.. الباعة الجائلون يشقون طريقهم- بين الأجساد الغرقى- باحترافية فائقة، يطلقون عقيرتهم بالنداءات.. ها هو- الصغير العجوز- يحتضن صندوق الحلوى الرخيصة، وأكياس اللب السورى.. ينادى على بضاعته بصوته الهزيل، يتفلت بخفة ورشاقة من بين الأجساد الثقيلة الناعسة والتى ترميه بنظراتها المحايدة.. البعض يتعجب لقدرة الصبى على التسلل والمرور من بين تلك الحشود المتلاحمة. والبعض يرميه بنظرات الشفقة والرثاء؛ «ولد مسكين». ما يعنيه هو أن يتخفف من ذلك الصندوق الذى يحمله، وتتحول بضاعته إلى أوراق ومعادن نقدية.. القطار الذى بلون التراب يطلق عقيرته بغضب وهو يشق بوجهه المتغضن العبوس عباب الرياح.. يتعثر الصغير بقدم ضخمة لعملاق خرج لتوه من بين صفحات مجلة معروفة بفريق الأشرار؛ قبض بأصابعه الغليظة على رقبة الصغير ورفعه إلى أعلى ثم رمى به فوق رءوس الجموع المنتصبة لتتناثر الحلوى وتنفرط أكياس اللب السورى بين زحام الأقدام. تكوم على قارعة الرصيف يلملم جسده المهدر وحلمه المغدور، ودمعاته المتساقطة تكوى وجنتيه الشاحبتين كرجل عجوز.

مباغتة

من نافذة مواجهة أطلت بوجهها الباسم نحوه.. اتسعت النافذة أكثر.. اقتربت منه، طفلة كقطعة نسيم لم يتم تشكيلها بعد.. أخذت بيده الصغيرة وانطلقا بين المروج الخضراء، والبساتين الباسقة.. ينبوع الماء الصافى يتدفق فى نعومة من بين ثنايا الساقية الدوارة؛ يحاكى ضحكاتهما المرحة. صعد كقرد محترف أعالى شجرة التوت. تتصاعد عيناها الواسعتان نحوه فى شغف، تستعد لالتقاط حبات السكر الملونة.. تتلقفها بيديها البضتين الناصعتين. كعصفور مغرد راح ينشد لها الأناشيد التى تحبها.. نبتت له أجنحة خضراء راح يطير من شجرة إلى أخرى، يجمع لها من ثمار وورود الحدائق والمزارع والبساتين كل ما تطاله يداه الناعمتان هاتفًا بصوته الناعم: «تراجى.. كم أنت رائعة وجميلة».. يتضرج وجهها الحليب بلون الورد.. يتيقن أن العالم كله بين يديه.. يدوى قلبه بموسيقى حالمة يبدو أثرها واضحًا على ملامح وجهه الناعمة. يحتضن يدها بيده الطرية، ويستعدان للقفز والانطلاق وراء فراشات فاتنة تتهادى فى صخب طفولى فوق رءوس الأزهار. فى لحظة مباغتة يسقط طائر بلون القبح له عينان وقحتان.. تتدافع العصافير الهشة إلى السماء، وتفر أجنحة الفراشات مذعورة.. ينقبض القلب الصغير. يعقد ما بين حاجبيه، يقبض على يدها، وقد قررا الفرار، ففى هذه اللحظة تحديدًا باغتهما شخص غريب يشبه إلى حد التطابق ذلك الطائر المزرى بعينيه الوقحتين.. يتراجعان للوراء، يسلمان ساقيهما الدقيقتين للريح.