الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إبداعات الغربية.. خصوبة الأرض وهدير الإبداع (3)

الغربية
الغربية

نصيحة

أعتقد أنه من العبث إسداء النصح لأحد، فالمُسدى إليه- إذا كان حصيفًا- يستغنى عن النصيحة، وإذا كان غبيًا عنيدًا فلن ينتفع بها، فضلًا عن أن الناصح ينظر للأمور من وجهة نظره الشخصية، وفقًا لثقافته وطبيعة تكوينه وظروفه الخاصة.. لكنى- من باب الذوق- أنصت إلى من يلفتون نظرى إلى ما ينبغى وما لا ينبغى أن أفعل، مقدرًا أنهم يقصدون الخير، وكى أمنحهم الشعور بالحكمة ورجاحة العقل، وبطبيعة الحال لن يتابعنى أحدهم ليعرف مدى اتّباعى نصائحه. 

والنصيحة التى أثارت دهشتى هى تلك التى قالها- بما يشبه التحذير- صديق قديم: «إذا باعدت الأيام والظروف بينك وبين صديق أو زميل قديم أو أحد المعارف، ثم لقيته مصادفة، كن حريصًا، حريصًا جدًا.....». 

فكرت أنه يقصد أن الناس يتغيرون، فهناك من كان غنيًا ثم أصابته الفاقة، والعكس صحيح، ومن كنت تظن أنه يحفظ الجميل فيتبين أنه جاحد، ومن كان يسعى إليك مشتاقًا ثم صار يقابلك بفتور وعدم اكتراث، ومن تكون قد أسأت إليه يومًا دون قصد فينتهز الفرصة لرد الإساءة... وعلى أية حال فهى أمور لا تستحق الحرص الشديد الذى دعت إليه النصيحة، كى أتجنب الشعور بالحرج أو الاستياء. 

ولما كرر الصديق النصيحة فى أكثر من موقف سألته عن التفاصيل فقال: «كان لى أيام الوظيفة زميل قديم، وقبل أن يتم نقلى إلى العاصمة كانت بيننا زمالة طيبة، لكنها لم ترقَ لمستوى الصداقة. وانقطعت أخباره لمدة سنوات، وبعد خروجى للمعاش عدت للإقامة فى مسقط رأسى مدفوعًا بالحنين إلى أيام جميلة خلت. وذات مساء شتوى بارد كان المطر قد توقف، وما زالت آثاره تكسو الشوارع، لكن السماء كانت تنذر بمعاودة الأمطار. ورأيته يعبر الطريق مسرعًا وهو مرتدٍ معطفًا ثقيلًا، وعرفته على الفور، فهو لم يتغير كثيرًا، سوى أن وزنه ازداد قليلًا ونبتت له لحية بيضاء. ناديته فالتفت إلىّ وخطا نحوى مسرعًا.. مددت يدى لأصافحه فأمسك بياقة سترتى بقوة. عندئذٍ لم أرَ سوى عينيه، كان بهما بريق مخيف وكانت إحداهما تبدو وكأن حولًا مفاجئًا قد أصابها. أخرج سكينًا من جيب معطفه، وكان لنصله نفس وميض عينيه. همس بصوت كالفحيح: «لا تخف سأريحك منه ولن تشعر بشىء»... 

لم أصبر حتى النهاية فسألت ناصحى: ما الذى كان معك ليريحك منه؟ 

ضحك وقال: نجوت بأعجوبة، يبدو أنه عدل عن فكرته فجأة وبدون سبب، فقد وضع النصل فى جيبه، وتلفت يمينًا ويسارًا، ثم مضى فى طريقه لا يلوى على شىء. 

ومضت عدة سنوات أمضيتها خارج الوطن ولم أرَ فيها صاحب النصيحة المذكورة، حتى لمحته بالأمس واقفًا على الجانب المقابل من شارع البحر يحمل حقيبة صغيرة، وكان المطر قد توقف، لكن آثاره لا تزال تكسو الشوارع. لم يتغير كثيرًا، لكنه بدا محتاجًا لمن يساعده على عبور الطريق. 

تذكرت نصيحته القديمة، وترددت قليلًا قبل أن أخطو إليه مسرعًا ومناديًا. 

اقرأ المزيد من إبداعات الغربية: 

-محمد سامى يكتب: مكان بعيد

-أحمد العزونى يكتب: موال أبى العلاء من وضع الاسترخاء

-محمد عبدالظاهر المطارقى يكتب: قصتان--ميرفت على العزونى تكتب: منديل أبيض

-البيومى عوض يكتب: الدَّرويشَة