الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سعد الدين حسـن.. فى مديح العازب الأخير

سعد الدين حسن
سعد الدين حسن

سعد رجل خلوق وليس شتامًا ولا تحكم تصرفاته تجاه الآخرين نزعة الحقد أو العدوان

سعد الدين حسن سارد قصة وروائى من طراز فريد. أديب تتميز لغته بالشاعرية والعذوبة، فقد دخل سعد الدين الكتابة من باب الشعر، لا القصة. فلم يفرط فى الشعر كله. تجده طالًا عليك من بين السطور، يسِمُ السردَ بسمات جمالية تخص أسلوب سعد الدين وحده. وأدب سعد الدين حسن من قصة ورواية ومقال، انعكاس شفاف لعلاقته التأملية بالحياة والمكان والناس.. أحب سعد الدين حسن القراءة منذ الصغر. كانت تسليته الوحيدة وصديقته التى يشعر معها بالأمان. علاقة القراءة هنا، على وجه الدقة، علاقة غير مشروطة بأنثى ضمنية، يمارس معها سعد كل طقوس الحب حتى بلوغه ذروة الانتشاء المجازى، عوضًا عن الانتشاء البيولوجى المطموس.

كما أن علاقته بالتراث العربى تتبدى على أحسن ما يكون فى طواعية اللغة له، وثراء قاموسه الخاص، وقدرته على نسج المعنى وصبغه بألوان عديدة فى لغة منتقاة بدقة. إنه نسّاج القصة القصيرة المصرى. وربما لا يعرف كثيرون أنه خريج المعهد العالى للنسيج. اكتسب سعد الدين حسن حبه لقراءة الأدب من خاله العميد أركان حرب، وحبه للموسيقى الكلاسيكية والبيرة من عمه أستاذ اللغة العربية بالجامعة الأمريكية.. حياة سعد الدين حسن مليئة بالحكايات الخفية، وبالمواقف المحزنة حد المأساة، والمواقف الطريفة التى تتجاوز العبث.

من الطريف أن سعدًا له مريدون كثيرون فى عالم وسط المدينة السفلى.. بين هؤلاء الخفافيش الذين ينأون بأنفسهم عن إيقاع حياة القطيع وصراعاتها، ونفاق أهلها الذى اتخذ غطاءات شرعية فى حياتنا الاجتماعية، خلال السنوات الأخيرة. مريدوه من سكان العالم السفلى، هم أشخاص عاديون لا يخلو أحدهم من «لطشة» الإبداع. ليس صحيحًا أن مرتادى الحانات الفقيرة سكارى عنيفون، أو تافهون. بل على العكس هم سميعة بمزاج، وأصحاب أرواح مختلفة، أكثر صفاءً وصدقًا وخفة من أرواح كثيرين لا يشربون.. وبعضهم يشرب كى لا يتحول إلى قاتل. من بين هؤلاء عرف سعدٌ أشخاصًا فوق الواقع، سحريين. قرر أن يكتبهم فى كتاب بين يديه الآن، عنوانه «صائد الحانات».. بعضهم تقرب إلى سعد ليكتشفه ويقدمه، مثل «شوقى الساحر» الممتع بعروضه البسيطة المدهشة، وهو جالس فى البار، دون جلبة أو ضجيج، مستخدمًا سيجارتك المشتعلة، أو كوبًا، وربما مجرد ملعقة من على المنضدة. كذاك الشخص الذى كان يأكل الزجاج، أو الساحر المتقاعد الذى يلعب السيرك فى الموالد.

فى تلك السنوات المبهجة، كان سعد ينعم بدفء أصدقاء كثيرين. تشيع المحبة بينهم جميعًا.. تجمعهم مختلف هوايات الكتابة والفنون.. مات بعضهم، أتذكر منهم خالد عبدالمنعم وأسامة خليل وإبراهيم فهمى، وسعيد عبيد وعبدالعظيم الوردانى وشوقى فهيم وصبحى مشرقى، وغيرت المصالح المشروعة البعض.. وبقيت قلة معروفة من الأصدقاء، يعدون على أصابع اليد الواحدة، لا يزالون يحملون لسعد نفس القدر من المحبة والإكبار اللائقين به، وبقلوبهم النقية الطيبة.. سعد قضى نصف عمره تقريبًا على المقاهى وفى البارات، وراكبًا المواصلات بين القاهرة وطنطا. فهو لم يشأ منذ البداية أن يكون مقيمًا لا هنا ولا هناك.. يحب سعد وصف «الفراشة».. فى السنوات الأخيرة؛ قلّت الأبواب التى كانت تنفتح فى السابق ترحيبًا بسعد، أيام حياة العزوبية، والعِشرة الجماعية بطبيعة الحال.. كانت شقق وحجرات أصدقائه العزّاب هى بيته الكبير. وكان وسط البلد مِلكه. وبزواجنا جميعًا، فى نوبة انتحار جماعى، لم يبقَ سوى سعد الدين حسن هو الناجى الوحيد، العازب الأخير، المملوك الذى قفز بحصانه من المذبحة، مختارًا الموت بإرادته على الموت بيد غيره، فصنع بذلك أسطورته الخاصة. لم يتزوج سعد الدين حسن أبدًا. بل يعترف بأنه لم يلمس امرأة فى حياته قط. يقول ذلك دون ضغينة، أو حقد على النصف الحلو، ولا على العاشقين من الرجال.

نساء سعد الوحيدات، هن أمه رحمها الله، وأخواته البنات اللاتى كن يتبادلن أدوار الأم مع سعد الآن؛ بعطفهن ومحبتهن. وهو يتبادل دور الأب مع أخيه الميت؛ برعاية أبنائه فى إخلاص وتفانٍ. وفى كتاباته يصور النساءَ؛ حنانَهن وعاطفتَهن فى الحب والغيرة والشوق واللهفة واللوع والدلال، كما لم يصورهن ذَكر مجرب لكل صنوف النساء، عارف بخبايا صدورهن، وطبيعتهن المتلونة بفطرة التكوين. فموقفه الأدبى والفكرى من المرأة موقف النصير المؤازر.

إن سعدًا مثقف مدنى بجدارة، يكره النفاق والجهالة، وكل أنواع التعصب الروحى والعرقى والدينى والفئوى. هو ابن جماعة ثقافية مصرية حقيقية، ووطنية بامتياز، لكنها مهمشة.. ومطعونة بالفيروسات عن عمد. سعد ليس ابنها فحسب، بل كان يمكنك أن تستدل على ضعف هذه الجماعة وقوتها من حالة سعد نفسه، كلما كان سعد قويًا، اعرف أنها متماسكة وإيجابية، وكلما اهتز سعد أو اختل وجدانيًا، أعرف أن الجماعة اختلت، أو أصابها عَطَب ما. ثمة مبدعون لا ينمون أو ينتعشون إلا فى رحاب جماعتهم النوعية.. سعد الدين حسن واحد من هؤلاء.

يقضى سعد أوقاتًا مبهجة بين أحفاده؛ أبناء وبنات إخوته وأخواته. وحين ترى سعدًا يلعب مع الصغار منهم، لن تميز سنه من بينهم على الإطلاق. ولعل روايته غير المنشورة «الشنغرانى» وهو نوع من الحمير، يتجلى فيها موقفه المنتصر للمرأة؛ أُمًا وأختًا وحبيبةً. ولديه أيضًا رواية أخرى منجَزة، تقبع فى درج الناشر منذ أربع سنوات، دون أن تُطبع. هى رواية صغيرة الحجم مهمة، عنوانها «كلاب مفخخة»، قرأتها مخطوطة. يتناول سعد فيها الاحتلال الأمريكى الأنجلوسكسونى للعراق.. فانتازيا عصرية ساخرة، على خلفية «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» لابن المرزبان.. حركة سعد فى الوسط الأدبى والثقافى تذكرنى بمطبوعة ماستر متعوب عليها، مكتوبة بالعرق، مطبوعة باكتتاب الأصدقاء. موضوعة فوق الرصيف، بارزة، تميزها العين الخبيرة، من بين مطبوعات غنية الشكل فقيرة المضمون.

من حسن الحظ أن لدينا مبدعين حقيقيين لا نزال، ومن كل جيل فى الحقيقة. ولكن ثمة فئة متثاقفة، لا مثقفة، فى الحياة وفى الكتابة المصرية الآن، لا تختلف أخلاقياتها وأفكارها عن أخلاقيات وأفكار القطيع، فئة غاية فى السطحية والتفاهة سلوكًا، وكتابة. كثير نتاجها الغث غطى على قليله السمين المبدع.. لا يهتم سعد بنظرة مغلوطة تجاهه تصدر عن غرباء عليه، لم يعرفوه كإنسان، ولم يقرأوا له حرفًا، ممن دخلوا «المجال» فى ظل غياب المعيار والقيمة، وانتعاش مهنة التشهيلات الثقافية التى يرعاها أقطاب متقاعدون أدبيًا. لكنه فى الوقت نفسه يشعر بالأسى لعدم تقدير العارفين له، ومن بينهم نقاد، وأصدقاء كبار «واصلون»، يعرفهم سعد ويحبونه منذ زمن بعيد.. كان يعتب على هؤلاء الذين يعرفون قيمته.. وشعوره بالغبن كان يتزايد بتقدم السن، فلا تنقذه من هذه المرارة، سوى مرارة أخرى تكون أخف طعمًا فى البار.

منذ البداية رغب سعد- مثل كثيرين- بالبقاء فى الظل؛ حرصًا على سلامة روحه، وصيانةً لِذاته من التورط فى صراعات شخصية على مكاسب تافهة أو حتى مهمة، بعيدًا عن التدنى بالتكالب والطرْق على الأبواب، وغيرها من مهارات بلوغ الشهرة التى لا يجيدها سعد، بل ويمقتها.. الغريب أن هذا الاختيار الشخصى غير المزعج لأحد، أصبح مثار حسد النفوس المريضة، وقد يتحول أحيانًا إلى سبب وجيه لأن يكون صاحبه مادة للاغتياب والتشفى!!

بهذا المعنى السابق، ومنذ سنوات، أقدَم سعد فى لحظة من لحظات مرارته، على ما لم يقدم عليه حين كان ينشر فى «الهلال» و«المساء» الأسبوعى، ويقرأ قصصه على نجيب محفوظ وحوارييه من الأساتذة فى بيت عم نجيب. حين كان يصاحب أمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وبراء الخطيب وسيد موسى.. وآخرين على نفس الدرجة من القيمة والشرف.. فماذا فعل سعد؟ تقدم إلى جائزة خاصة جديدة نسبيًا على الأدب المصرى، وهو لا يدرك أن حقائق كثيرة تغيرت. لكنه كان يتصور- ومعه الحق بمعنى القيمة الأدبية- أنه سوف يفوز بالجائزة. «مجموعته القصصية المتقدمة للجائزة آنذاك، كانت (عطر هارب) التى لقيت ترحيبًا نقديًا كبيرًا». المفرح فى قصة الطبعة الأولى من هذه المجموعة، أن أصدقاء سعد ومحبيه من كتّاب الغربية، عندما علموا برغبته فى التقدم للجائزة، وأن الوقت ضيق؛ أخذوا القصص منه، وجمعوا من بعضهم البعض مبلغًا كان كافيًا لطبع خمسمائة نسخة منها فى ساعات.. حين أخبرنى سعد بموضوع الجائزة، كانت النتيجة قد بانت ولم تفز مجموعته.. كان شديد الغضب فى ذلك اليوم. وحين عرفت السبب؛ لمته. لا لأنه أقدم على التفكير فى نيل جائزة يستحقها، بل لأنه لم يدرك أن للجائزة سياقًا وتوجهًا، وتحكمها بطبيعة الحال مصالح. لكن الغريب فى هذه الجائزة أن مصالحها تخص فى حقيقة الأمر ذوات «موزعيها»، أكثر مما تخص صاحب المال، فهو على حد علمى راعٍ ثقافى ومتذوق رفيع للفنون. لذلك عدم فوز سعد وأمثاله بالجائزة كان طبيعيًا بالمعانى السابقة، وبغيرها من المعانى المستبطنة. ولهذا لن يكون من بين حساباتها الالتفات إلى مطبوعة ماستر، مصرية الوجدان، اسمها كاتب كبير بقيمة سعد الدين حسن! خاصة أن سعدًا ببساطة، رجل خلوق وليس شتامًا، ولا تحكم تصرفاته تجاه الآخرين نزعة الحقد، أو العدوان.. بل إنه فى المرات القليلة التى أتيحت له الكتابة فيها بالصحف «السيارة»، والصحف «التيك توك»، كان يمتع القارئ المتذوق بكتابة شيقة، تنم عن وطنيته وانتمائه، وعن معرفة عميقة بتاريخ مصر، وبالتراث العربى، إلى جانب حسه العصرى الساخر فى رقى أدبى، وبأسلوب ليس أقل رشاقة من عوده النحيل، ولغة شاعرية أشبه بمشيته التى ارتبكت- بفعل كثرة التجوال- بين خطوة جنرال معتز بذاته، عارف بالطريق، وبين خطوة راقص باليه عجوز موشك على السقوط.

«الآن فليستيقظ ملاكُ الفقير».. مع السلامة يا سعد!