السبت 19 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

القتلة الفجرة.. اعترافات صادمة من جنود إسرائيليين: قتلنا الفلسطينيين كأننا فى لعبة فيديو

حرف

لم تكن غزة يومًا مجرد بقعة جغرافية على خارطة النزاعات، بل أصبحت رمزًا للمقاومة فى وجه واحدة من أكثر الدول إجرامًا فى العصر الحديث. فى كتابه «غزة: تحقيق فى استشهادها»، يقدم المفكر والباحث الأمريكى نورمان فينكلشتاين تحليلًا دقيقًا لمأساة غزة، كاشفًا عن الأكاذيب التى صنعت السردية الإسرائيلية، مع دعم كل ادعاء بسجلات قانونية وحقوقية توثق الفظائع المرتكبة بحق أهل القطاع الفلسطينى. لكن إلى أى مدى يمكن اعتبار هذا التحليل كافيًا لفهم مأساة غزة؟ وهل السرد القانونى وحده قادر على تحريك الضمير العالمى، أم أن التحدى الحقيقى يكمُن فى اختراق الهيمنة الإعلامية التى تعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية، ومن ثم تحويل الضحية إلى جلاد؟ هنا أيضا يبرز سؤال محورى: رغم كل الأدلة الحقوقية، لماذا لا تزال الرواية الفلسطينية عاجزة عن إحداث تأثير سياسى حقيقى على مستوى القرار الدولى؟

تقرير جولدستون 

يستعرض نورمان فينكلشتاين فى كتابه المكون من ٤ أجزاء هى: «عملية الرصاص المصبوب»، و«تقرير جولدستون»، و«سفينة مافى مرمرة»، و«توقف الطاغوت»، كيف أن غزة ليست صاحبة القرار فى مصيرها، بل هى عبارة عن «سجن مفتوح» تسيطر عليها إسرائيل.

ويضيف «فينكلشتاين»: «إسرائيل تفرض على غزة الحصار، وتشن عمليات عسكرية عنيفة ضدها، ليست ردًا على (الإرهاب)، كما تروج الدعاية الإسرائيلية، بل كان الأمر دائمًا قرارات سياسية بحتة».

ويواصل: «فى كثير من الأحيان، كانت إسرائيل تهاجم غزة، حتى عندما لم تقدم (حماس) أى ذريعة لذلك، لأن الهدف لم يكن أمنيًا، بل كان سياسيًا. وفى ظل هذا الواقع، لا تمتلك غزة سوى الحد الأدنى من القدرة على الفعل، كما هو حال أى شعب واقع تحت الاحتلال».

ويركز الكتاب على البُعد السياسى لمأساة غزة، متجاوزًا التحليلات الاقتصادية التى لم تحدث فرقًا ملموسًا، رغم كثرتها، لأن اقتصاد غزة بالكامل تقريبًا يعتمد على المعونات الخارجية. بينما تواصل إسرائيل خنقها اقتصاديًا بتواطؤ دولى.

كذلك، فإن التقارير الحقوقية التى وثقت معاناة غزة، رغم دقتها، تم تجاهلها أو استُخدمت للتلاعب بالحقائق لصالح إسرائيل. تماما كما «تقرير جولدستون»، أحد أهم أجزاء الكتاب، وهو تقرير صادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فى ٢٠٠٩، ووثّق انتهاكات جسيمة ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها على القطاع.

ورغم أن القاضى ريتشارد جولدستون كان يهوديًا وصهيونيًا، ما صعّب على إسرائيل اتهامه بالتحيّز أو «معاداة السامية»، أثار التقرير ذعر المسئولين الإسرائيليين، ودفع بعضهم إلى تجنب السفر خشية الملاحقة القانونية.

لكن إسرائيل لم تقف مكتوفة الأيدى، إذ سخّرت إمكاناتها الضخمة، بما فى ذلك نفوذها فى الداخل والخارج وأجهزتها المخابراتية، لشن حملة ضغط ممنهجة على «جولدستون»، انتهت بتراجعه عن التقرير فى ظروف غامضة. لم يكن هذا التراجع مجرد حدث عابر، بل كان بمثابة رسالة تحذيرية واضحة للمنظمات الحقوقية والناشطين فى مجال حقوق الإنسان.

ويعلق «فينكلشتاين»: «القضية ليست مجرد روايات متناقضة، بل عملية ممنهجة لإخفاء الحقيقة، بُنيت من خلالها الكذبة الكبرى حول غزة عبر آلاف الأكاذيب الصغيرة. وهدف الكتاب هو تفكيك هذه الأكاذيب واحدة تلو الأخرى، ليس بدافع التعاطف، بل نتيجة كره عميق للتزييف، خاصة عندما يُستخدم لتبرير اضطهاد شعب بأكمله».

ويحذر القارئ من أن كشف هذه الحقيقة يتطلب صبرًا كبيرًا، لأن مواجهة الشر الكامن فى التفاصيل لا يمكن أن تتم إلا عبر تحليل دقيق للأدلة والمنطق، رغم الصمت الدولى والتواطؤ الأخلاقى الذى جعل من مأساة غزة جريمة علنية أمام العالم بأسره.

نورمان فينكلشتاين

الرصاص المصبوب

فى أحد فصول الكتاب، يناقش المؤلف السياسة الإسرائيلية تجاه حركة «حماس»، متتبعًا كيف استخدمت إسرائيل التصعيد العسكرى كأداة لمنع أى تقدم دبلوماسى قد يؤدى إلى تسوية سلمية للصراع.

ويوضح الكاتب أنه فى عام ٢٠٠٨، وبعد رفضها عروض «حماس» للهدنة لعدة أشهر، وافقت إسرائيل أخيرًا على وقف إطلاق النار. إلا أنها لم تلتزم بالاتفاق، واستمرت فى فرض الحصار على غزة. ورغم ذلك، حافظت «حماس» على الهدنة، بل حاولت كبح الفصائل الأخرى من انتهاكها، ما جعلها تبدو كطرف تفاوضى موثوق.

لكن هذه الديناميكية شكلت مأزقًا لإسرائيل. فقبول «حماس» بحل الدولتين والتزامها بالهدنة، جعل من الصعب على إسرائيل تبرير رفضها التفاوض مع الحركة. هذا الوضع كان مقلقًا للحكومة الإسرائيلية، خاصة فى ظل احتمال أن تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة إلى مفاوضات شاملة تشمل إيران و«حماس»، ما قد يضعف موقف إسرائيل دوليًا.

ويشير المؤلف إلى أن هذا النمط ليس جديدًا، فقد سبق لإسرائيل أن واجهت مواقف مماثلة فى الماضى. ففى أوائل الثمانينيات، التزمت «منظمة التحرير الفلسطينية» بوقف إطلاق النار، وسعت إلى حل الدولتين، ما دفع إسرائيل إلى البحث عن ذرائع للقضاء على المنظمة ككيان سياسى.

يذكر الكتاب أيضًا كيف لجأت إسرائيل إلى استفزازات عسكرية وعمليات مميتة ضد المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، ما دفع «منظمة التحرير» إلى الرد، وهو ما استغلته إسرائيل كذريعة لغزو لبنان عام ١٩٨٢.

بالعودة إلى عام ٢٠٠٨، يوضح الكاتب أن إسرائيل كانت قد قررت مسبقًا مهاجمة «حماس» منذ عام ٢٠٠٧، لكنها احتاجت إلى الوقت للتحضير العسكرى. لذا، وعلى الرغم من التزام «حماس» بالهدنة، أقدمت إسرائيل، فى نوفمبر ٢٠٠٨، على خرق وقف إطلاق النار، عبر شن هجوم أسفر عن مقتل ٦ فلسطينيين.

جاء ذلك فى وقت كانت فيه الأنظار الدولية منشغلة بالانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكما كان متوقعًا، ردت «حماس» ما منح إسرائيل المبرر الذى كانت تبحث عنه لشن عملية «الرصاص المصبوب»، بهدف القضاء على حركة «حماس»، أو على الأقل تقويض شرعيتها الدولية.

ويخلص الكاتب إلى أن إسرائيل لطالما لجأت إلى التصعيد العسكرى لمنع ظهور شريك فلسطينى قادر على التفاوض. هى ترى فى أى قبول فلسطينى بالتسوية تهديدًا استراتيجيًا لمشروعها الاستيطانى.

وهكذا، فإن حرب ٢٠٠٨- ٢٠٠٩ لم تكن مجرد رد فعل على تهديد عسكرى، بل كانت جزءًا من سياسة إسرائيلية ممنهجة لضمان استمرار الهيمنة الإسرائيلية، وعرقلة أى مسار قد يؤدى إلى حل الدولتين.

يعتمد الكتاب على لغة قانونية مكثفة وتحليل تقارير حقوقية صادرة عن منظمات مثل «هيومن رايتس ووتش» و«العفو الدولية» والأمم المتحدة، ما يجعله عملًا دقيقًا وصعب القراءة بعض الشىء، لكنه يحمل أهمية كبرى.

يسعى الكتاب إلى تسليط الضوء على الحرب الإسرائيلية ضد غزة، مُسلطًا الضوء على عدم التكافؤ الصارخ فى القوة والضحايا بين الجانبين، ويبين أيضًا كيف أن الدمار الذى خلّفته العمليات العسكرية الإسرائيلية لم يكن مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل كان هدفًا أساسيًا بحد ذاته.

خلال عملية «الرصاص المصبوب» مثلًا، دمرت إسرائيل ٥٨ ألف منزل و٢٨٠ مدرسة و١٥٠٠ مصنع. ولم تسلم حتى البنية التحتية الأساسية من الهجمات، حتى إنه قُصفت الطاحونة الوحيدة فى غزة، إلى جانب شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحى، ما أدى إلى تفاقم معاناة مئات الآلاف من السكان. وقُدرت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذا الدمار بين ٣.٥ مليار دولار، بينما خلفت العملية ٦٠٠ ألف طن من الأنقاض كدليل مادى على حجم الخراب المتعمد.

كسر الصمت

فى جزء آخر من الكتاب، يستعرض كيف تبرهن شهادات الجنود الإسرائيليين، خاصة تلك التى نشرتها منظمة «كسر الصمت»، أن العنف الإسرائيلى لم يكن مجرد سلوك عشوائى، بل سياسة ممنهجة.

وأفاد الجنود بأن قواعد الاشتباك كانت تسمح بإطلاق النار على أى شىء يتحرك، بغض النظر عما إذا كان الهدف مدنيًا أو مسلحًا. فى بعض الأحيان، تم استهداف الأطفال وهم يلعبون، والأسر خلال تناول الطعام، وحتى المدنيين أثناء محاولتهم الفرار.

التصريحات الواردة من الجنود أنفسهم تكشف عن استهانة كبيرة بالحياة البشرية، حتى إن بعضهم كان يقارن العمليات العسكرية بألعاب الفيديو، بينما كان آخرون يعتبرون تدمير المنازل وسحق المبانى بالجرافات نوعًا من الترفيه العسكرى.

يكشف «فينكلشتاين» فى كتابه أن ما يحدث فى غزة ليس مجرد حرب، بل عملية إبادة بطيئة، تُنفَّذ وفق خطة استراتيجية تهدف إلى تدمير أى إمكانية لحياة طبيعية فى القطاع، فما وثقته التقارير الحقوقية وشهادات الجنود أنفسهم، يجعل من المستحيل إنكار أن إسرائيل استخدمت قوتها العسكرية، ليس فقط لمواجهة خصومها، بل لإلحاق أكبر قدر من المعاناة بالشعب الفلسطينى، وفرض واقع استعمارى لا يسمح له بالحياة بكرامة.

فى نهاية الكتاب، يطرح الباحث الأمريكى سؤالًا عن مشروعية الاحتلال: «هل الاحتلال قانونى؟» ويجيب بأنه «وفقًا للقانون الدولى يُفترض أن يكون الاحتلال وضعًا مؤقتًا، وأى احتلال يستمر إلى أجل غير مسمى يتحول فعليًا إلى ضم غير معلن، ما يجعله غير قانونى».

وبما أن القانون الدولى يحظر الاستيلاء على الأراضى بالقوة، فإن الاحتلال الذى يأخذ طابعًا دائمًا وراسخًا يصبح بحكم الواقع غير شرعى. واستنادًا إلى السوابق القانونية لمحكمة العدل الدولية فى قضية ناميبيا، وإلى تعنت إسرائيل ورفضها المتواصل للتفاوض على أساس القانون الدولى لإنهاء احتلالها، يمكن القول إن الاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية، بما فى ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة، قد فقد أى أساس قانونى له. ونتيجة لذلك، لم يعد لإسرائيل أى حقوق مشروعة كقوة محتلة، بل يقع على عاتقها التزام وحيد، وهو الانسحاب الكامل من الأراضى الفلسطينية التى تحتلها بشكل غير قانونى.