الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الفلسطينى محمود شقير: أعيد تحرير روايات الأسرى بالحذف والتعديل

الفلسطينى محمود شقير
الفلسطينى محمود شقير

- يُراد للشعب الفلسطينى أن يختفى أو أن يعلن استسلامه أمام جبروت العدو

- بذلت جهدًا كبيرًا لأكتب والفلسطينيون يتعرضون لحرب إبادة

- «منزل الذكريات» امتداد لثلاثيتى بمنظور مختلف والقدس احتضنت طفولتى وشيخوختى

سنوات طويلة قضاها الأديب الفلسطينى محمود شقير «1941 -» فى القدس، حيث ولد فى بلدة جبل المكبر، غير أن الاحتلال الإسرائيلى أجبره لاحقًا على مغادرة مدينته الأم، لسنوات ظل متنقلًا بين بلدان عدة، قبل أن يرجع مجددًا إلى زهرة المدائن ضمن 30 شخصية فلسطينية مبعدة سُمح لهم بالعودة إلى فلسطين بعد اتفاقية كامب ديفيد.

إلى جانب عمله التربوى، كرس شقير نفسه للكتابة الأدبية، فبدأ مشواره بالقصص القصيرة، ثم كتب للصغار، وكتب العديد من الروايات التى باتت مرآة صادقة لحال القدس وأهلها فى ظل الاحتلال. وعلى رأس تلك الروايات ثلاثية «فرس العائلة، مديح لنساء العائلة، ظلال العائلة».

وقبل أيام صدرت فى بيروت رواية قصيرة لشقير بعنوان «منزل الذكريات»، عن دار هاشيت أنطوان نوفل. إنها نوفيلا، يخوض فيها شقير تجربة سردية جديدة، بروح من التجريب، وبتناص مع بعض الروايات العالمية.

«حرف» حاورت الكاتب الفلسطينى المخضرم، حول «منزل الذكريات»، والكتابة بشكل عام، ومدينة القدس.. فإلى نص الحوار.

محمود شقير

■ لجأت إلى استعارة شخصيات روائية لكتّاب آخرين مثل إيغوشى من رواية «منزل الجميلات النائمات» لكاواباتا، وعجوز ماركيز الذى ابتدعه فى «غانياتى الحزينات».. لماذا اخترت «التناص».. أو «المعارضة» مع هؤلاء «كرافعة فنية» لـ«منزل الذكريات»؟

- حين وصلت سنّ الثمانين قبل ثلاث سنوات عدت إلى قراءة الروايتين المذكورتين فى سؤالك، وآنذاك التمعت فى ذهنى فكرة التناصّ معهما فى رواية قصيرة مقاربة فى عدد صفحاتها وفى بعض أجوائها لهما. 

وما شجعنى على ذلك، وجود العجوز محمّد الأصغر الذى كان له حضور ملموس فى روايتين سابقتين لى، وكذلك وجود بيت للمتعة السرّيّة وفيه فريال وسميرة اللتان ظهرتا فى روايتى «ظلال العائلة».

مع ذلك، لم يكن الشروع فى كتابة الرواية أمرًا سهلًا، وقد تطلّب ذلك منّى جهدًا كبيرًا فى التفكير والتأمّل وقراءة روايتى كاواباتا وماركيز مرّتين أخريين، ثم إننى قرأت كتابين من التراث العربى، هما: كتاب النساء لابن قتيبة، وكتاب أخبار النساء لابن قيم الجوزية، واقتطفت منهما نصوصًا توقّعت أنها ستسهم فى توفير أجواء مناسبة للرواية المنتظرة.

وحين ظهرت أسمهان وشقيقها جميحان فى فضاء السرد صار ممكنًا التوصّل إلى الحبكة المناسبة للاستمرار فى كتابة الرواية على النحو المطلوب. 

■ تتمدّد شخصيات بعض أعمال ثلاثيتك «فرس العائلة، مديح لنساء العائلة، ظلال العائلة» لتحضر فى «منزل الذكريات»، مثل محمد الأصغر والقنفذ ورهوان وغيرهم، فهل يصح اعتبارها امتدادًا لتلك الروايات؟

- نعم، هى امتداد لتلك الروايات ولكن من منظور جديد مختلف. ذلك أننى منذ أنهيت كتابة رواية «فرس العائلة» التى تحدّثت فيها عن عائلة العبداللات، وجدت أن متابعة حياة هذه العائلة ومن ينتمى إليها من نساء ورجال فى مختلف الظروف والأحوال، تشكل سببًا مقنعًا كلما اتسع نطاق الحديث عن العائلة لتصبح ممثّلة على نحو ما للشعب الفلسطينى فى أطوار مقاومته للانتداب البريطانى على فلسطين، وكذلك مقاومة الغزوة الصهيونية لفلسطين، وصولًا إلى أيامنا هذه حيث حرب الإبادة التى يتعرض لها الفلسطينيون فى قطاع غزة، وهى الحرب التى حضرت جزئيًا فى روايتى الجديدة «منزل العائلات».

■ تنقلت بين بيروت وعمّان وبراغ ومدن أخرى، لكن تظل القدس ملعبك المفتوح وحاضنة أحداث رواياتك.. كيف يؤثر المكان وذاكرته فى الكاتب؟

- يمكن للمتتبع لأعمالى الأدبية أن يرى أثر الأمكنة التى عشت فيها على بعض هذه الأعمال الأدبية، إذ ظهرت بيروت فى أول قصة كتبتها بعد إبعادى القسرى من فلسطين عام ١٩٧٥، وهى التى نُشرت فى كتابى «الولد الفلسطينى» بعنوان «الوطن». وظهرت عمان فى كتابى «مرايا الغياب» أثناء حديثى عن ابنها الأديب الراحل مؤنس الرزاز، وظهرت براغ فى كتابى القصصى «احتمالات طفيفة».

أما القدس فقد ظهرت فى أعمال أدبية كثيرة لى، للكبار وللصغار سواء بسواء، بالنظر إلى أنها هى مدينتى الأم التى كانت أوّل مدينة تفتّحت عليها عيناى، وهى مكان طفولتى وشبابى وكهولتى وشيخوختى. هى جزء من حياتى وذاكرتى، وأنا جزء من حياتها وذاكرتها.

ولأنّ المكان ضرورى بشكل أساس لحياة الكائن البشرى، ولأنه لا بد لأى عمل سردى روائى أو قصصى من مكان، فإنّ الأمر يغدو واضحًا حين يتعلق ذلك بعلاقتى بمدينة القدس.

■ حصدت قبل شهور جائزة فلسطين العالمية وقلت إنها «جاءت فى الوقت المناسب».. لماذا؟

- السبب كامن فى تزامن الجائزة مع حرب الإبادة التى ما زال المحتلون الصهاينة يشنّونها ضد الشعب الفلسطينى وضدّ من يسانده من العرب. وفى حين يُراد لهذا الشعب أن يختفى أو أن يعلن استسلامه أمام جبروت العدو فإنّ هذا الشعب يواصل صموده وتشبّثه بأرض وطنه، ويواصل فى الوقت ذاته إصراره على البقاء، وعلى نيل حريته والعيش بكرامة وفى أمن وأمان مثل بقية شعوب العالم التى تتباهى بثقافتها وبأدب كتّابها. 

هذا هو مغزى الجائزة التى حصلتُ عليها، فى زمن الحرب الظالمة، حيث يبرز الأدب الفلسطينى بكل شموخ واعتداد ليعبّر عن شعب حىّ مقاوم للعدوان.

■ وُلدت فى بلدة جبل المكبر بالقدس، واضطررت للفرار مع عائلتك أمام العصابات الصهيونية فى ١٩٤٨، قبل أن تتمكنوا من العودة إلى بيت العائلة فى ١٩٤٩.. كيف تصف تلك الفترة وكيف ترى ارتباطها بما يجرى الآن فى غزة؟

- كانت تلك تجربة مرّة بالنسبة لطفل فى سنّ السابعة، وهى تجربة ينزّ الخوف من ثناياها، ويتبدّى الشعور بعدم الاستقرار فى المكان من نتائجها، هذا الشعور الذى ظلّ مرافقًا لى حتى الآن. وأنا أجزم أن تلك التجربة تعدّ صورة مصغّرة لما يحدث الآن من تشريد للفلسطينيين فى قطاع غزة واضطرارهم للنزوح من أماكن نزوحهم مرّات عديدة بهدف قتل معنوياتهم، ودفعهم قسرًا إلى الهجرة من الوطن حالما تتوفّر فرصة لذلك.

لكننى حين أقارن بين التجربة القديمة وهذه التجربة الحالية الإجرامية، فإنّنى أخلص إلى نتيجة مؤدّاها أن بذرة الشرّ والعنصرية والرغبة الساديّة فى القتل والإبادة هى ذاتها، وأن المجرمين المعادين للشعب الفلسطينى هم ذاتهم الآن وقبل ست وسبعين سنة، بل وقبل أكثر من مائة سنة منذ بدايات الغزوة الصهيونية لفلسطين. 

■ تكتب للأطفال والناشئة... هل جاء هذا الميل من طبيعة عملك التربوية؟ وما الفرق بين الكتابة الأدبية للكبار والكتابة للأطفال؟

- أظنّ أن اشتغالى لسنوات طويلة فى التدريس جعلنى أقرب إلى عالم الأطفال وتفهم ميولهم وأحوالهم ونزعاتهم ورغباتهم، وقد جعلنى هذا أقدر على التعبير عنهم فى قصص وروايات غطّت تقريبًا كلّ المراحل العمريّة للأطفال.

غيرَ أنّ العنصر الحاسم فى توجّهى للكتابة للأطفال مردّه إلى الطفل الذى فى داخلى. أكتب لكى أعبّر عنه وأرضيه وأشبع فضوله إلى المعرفة.

ولعلّ المنابر المختلفة من صحف ومجلات ودور نشر التى رحّبت بقصصى ورواياتى المكرسة للأطفال أن تكون صاحبة الفضل فى مثابرتى على الإخلاص لهذا اللون من الكتابة. 

أمّا الفرق بين الكتابة الأدبية للكبار والكتابة للأطفال، فإننى أتقمّص فى هذه الأخيرة شخصيّة الطفل أو اليافع الذى أكتب له أو عنه، وأحاول التعبير عن مشاعره وانفعالاته بلغة مستمدّة من قاموسه اللغوى الخاصّ بالطفولة.

■ فى بداياتك فى عالم الكتابة اتجهت للقصّة القصيرة.. متى يُصدر محمود شقير مجموعة قصصية جديدة؟

- رغم اهتمامى بكتابة الرواية للكبار، فإنّ علاقتى بالقصّة القصيرة وبالقصّة القصيرة جدًا ما زالت قائمة من دون انقطاع، وبما يؤكّد على بقاء هذه العلاقة باستمراريّة وثبات، إذ فى الفترة ذاتها التى نشرتُ فيها رواياتى الأربع الصادرة من دار نوفل، هاشيت أنطوان، فى بيروت، فقد نشرتْ لى مكتبة كل شىء الحيفاوية كتابين قصصيّين هما «سقوف الرغبة» ٢٠١٧، و«حليب الضحى» ٢٠٢١، وفى عام ٢٠٢٣ صدر لى من منشورات طباق فى رام الله كتابٌ قصصىٌّ هو: «نوافذ للبوح والحنين»، وقريبًا ستصدر لى من منشورات المتوسّط فى ميلانو، إيطاليا سردية قصصية موسومة بـ«حفيدة من هناك».

■ كيف تصف تجربتك فى تحرير الكتب للأدباء من الأسرى الفلسطينيين وعلى رأسهم باسم خندقجى الفائز بجائزة البوكر الأخيرة؟

- هى تجربة أقوم بها من واقع إحساسى بأنّها أبسط خدمة أقدّمها لأسرى أفنوا أجمل سنوات شبابهم من أجل القضية الوطنية العادلة للشعب الفلسطينى. من هذا المنظور أبديت استعدادى لتحرير أىّ مخطوطة لأىّ أسير فلسطينى قابع خلف القضبان. وبالفعل حرّرت عددًا غير قليل من الروايات والمجموعات القصصيّة والرسائل والنصوص الأدبية.

فى بعض هذه المخطوطات كما هى الحال مع مخطوطات باسم خندقجى، كان دورى مقتصرًا على التحرير اللغوى، بمعنى تصحيح الأخطاء اللغويّة التى تنشأ فى النص، ليس من قصورٍ فى لغة باسم، بل من قصورٍ فى النقل من الورق المهرّب المملوء بخطٍّ صغير جدًا، أو فى التفريغ من مكالمات هاتفية ممنوعة.

وأمّا بخصوص روايات أخرى أو رسائل فقد كنت أتدخل فيها، بتفويض من الأسرى أنفسهم أو من ذويهم، بالحذف والتعديل والتقديم والتأخير، أى بكلّ ما يمكن أن يجعل النص مقروءًا على نحو أفضل، بعيدًا من أىّ استطرادٍ مملّ أو ترهّلٍ غير مطلوب.

■ هل فكرت فى النشر فى القاهرة؟

- نعم، فكّرت فى نشر مختارات قصصيّة تصدر من دار «ميريت»، وكنت أفكّر بالحديث مع الأستاذ محمد هاشم، مدير الدار حول ذلك، لكنْ تصادف أنّ صديقى الكاتب صموئيل شمعون اقترح علىَّ، من دون أن يعرف عن علاقتى بدار ميريت، أن أرسل مختارات قصصيّة، إلى أمين عام النشر فى الهيئة العامة لقصور الثقافة، الشاعر جرجس شكرى، لنشرها ضمن منشورات الهيئة، وبالفعل نشرها الأستاذ جرجس مشكورًا قبل استقالته من الوظيفة بوقت قصير، وقد جاءت المختارات بعنوان «صورة شاكيرا وقصص أخرى» عام ٢٠٢٣ وكتبت لها الدكتور اعتدال عثمان مقدمة ممتازة.

وبالطبع، أتشرّف بنشر المزيد من كتبى فى القاهرة، لما تمثّله القاهرة ودور النشر فيها، وكذلك الأدب العربى فى مصر من أهميّة بالنسبة لى ولكلّ الأديبات والأدباء فى فلسطين.

■ هل نتوقع أن نرى قريبًا بعض أعمالك الأدبية على الشاشة؟

- كتبت السيناريو والحوار لستة مسلسلات تليفزيونية طويلة، جرى بثّ خمسة منها عبر محطّات تلفزة عديدة فى أرجاء الوطن العربى، أما المسلسل السادس «بيوت فى الريح» الذى كتبت له السيناريو والحوار بالتعاقد مع الدائرة الثقافية فى منظمة التحرير الفلسطينية فى ثمانينيات القرن العشرين، فإنّه لم يخرج إلى حيّز النور بسبب امتناع أغلب شركات الإنتاج التليفزيونى عن تبنّى مسلسلات لها علاقة بالقضية الفلسطينية، تمهيدًا للدخول فى مرحلة التطبيع مع المحتلّين الإسرائيليين. ضمن هذا المنظور السائد الآن فى الأفق العربى لا أتوقع أن يظهر أىٌّ من أعمالى الأدبية على الشاشة، لكننى آمل ألا تستمرّ هذه الحالة السلبية المرفوضة، وآنذاك أرجو أن يظهر بعض أعمالى الأدبية على الشاشة.