الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عمرو الردينى يكتب: مصنعُ الطرشان

حرف

تفشلُ جميع المحاولات التى يبتكرُها لتخفيفِ حدَّةِ الصوْت الصادر عن تلك الماكينات التى لا ترحم!. وضع القطنَ فى أذنيه، ارتدَى فى الشتاءِ طاقيَّة مِن الصُّوف تُغطِّى الأذنين، وأخيرًا دفسَ سماعتىَّ الهاتف المحمُول فى فتحتىِّ أذنه كالمُراهقين. استمع لكلِّ شىء، بداية مِن القرآن الكريم بصوتِ قرَّاء «المَمْلكة»، ومرورًا بالموسيقى، وانتهَى للغناء. لم يفلح «درامز» «يحيى خليل»، ولا آهات «أُم كلثوم»، ولا حتَّى موجة المهرجانات. كلُّ صوت يُسحق ويتلاشَى أمام جبرُوت الماكينات الكهربائيَّة، كل عالٍ يتدنَّى، كل كبير يصغر، وكل قوى يضعف. تعجَّب كيف يتحمَّل الآخرون؟ لماذا لا يعانون مثله؟ أم تراهم قد أَلِفُوا المأْسَاة!. 

عندما يُخاطب أحدنا الآخر لا تصلح سوَى لغة: الشِّجار، الزعيق، والصياح، وقد ينتهى الأمر بفكِّ طلاسم حركة الشفاه. الجميع يعمل فى صمتٍ قهرىٍّ نتيجة ضوضاء قاسية.. عندما أهرع للشارع بعد انتهاء ورديَّتى أحمل الضجيج معى، أشعر بثقلِ رأسى، وتضخُّم أذناى، تطنُّ داخلهما خليَّة نحل لا تهدأ، وعند مخاطبتى لمَن يقابلنى يستاء غالبًا مِن علوِّ صوتى. فى المرَّةِ الوحيدة التى مارستُ فيها الحُب مع إحدى العاملات فى المخزنِ الخلفىٍّ- مثلما يفعل الكثيرون- لم يَدع لى الصوت فرصة للاستمتاع، كان أشْبهُ بالضميرِ الحىِّ، لم يَدُر بيننا الهمس الذى أحبُّه، كانت باردة كمعدنٍ، وكنت قاسيًا مثل ماكينة!.

لطالما حلمتُ بالوظيفة.. اشتقت للزمالةِ والصداقة: حوارات الموظَّفين وحكاياتهم، شكواهم وفضفضتهم، روح المودَّة التى تتعمَّق بطولِ العِشرة، نظرات الإعجاب المُتبادلة بينى وبين زميلة جديدة. 

لم أتخيَّل أبدًا أنْ يقع حظِّى فى تلك المِهنة الصامتة، بذلك المصنع الذى لا يعرف شيئًا سوى العمل، ثُمَّ العمل. اخترتُ الورديَّةَ الليليَّة مِن ضمنِ ورديَّاتٍ ثلاث، حالمًا ببعضِ الهدوء، لكن العمل يجرى على مدار اليوم دُون توقُّف، وطوال الأسبوع مِن غيرِ راحة. أحيانًا أشفق على تلك الماكينات العملاقة، ألتمسُ لها العُذر فى ضجيجها المُرتفع، أُفسِّرهُ صراخًا واحتجاجًا على أنظمةٍ خالفتْ نواميس الكون للركضِ وراء أرباح زائلة، ومنافسة أضحتْ بشعة يُباح فيها كلّ شىء. بَيد أنَّنى اعتدتُ على عادةٍ أثناء العمل أُرفِّه بها قليلًا عن نفسى، وهى الحديث بصوتٍ مُرتفع مع ذاتى، أُدنْدِن رغم قبح صوتى، أحيانًا أَتسلطن، أشكُو، أدعو، وقد أبكى!. 

أتخلَّصُ من ثقيلِ ذنوبى، أُفرغُ جلَّ أحْمالى، دُون أنْ يتَّهمنى أحدهم بالجنون، ومِن غير أنْ أُحمِّل أحدًا فوْق طاقته.. هكذا كنت أصرخ ولا يُسعفنى بشر، أتعرَّى ولا أُظهر عورتى. ثمَّ حدث أنْ افتقدتُ تلك الميزة حين نَشب ذلك الحريق بالطابقِ الذى أعمل به، ليتوقَّف الشغل شهرين كاملين. كان حريقًا مُروَّعًا، استمرَّت عربات الإطفاء حوالى عشر ساعات حتَّى تمكَّنتْ مِن إخمادِ النيران تمامًا بعد أنْ اشتعلتْ فى الكراتينِ والمواد الخام. 

أخيرًا جَلبوا مِن الخارج ماكينات جديدة، استوردوها من «ألمانيا» بكفاءةٍ إنتاجيَّة عالية، وطبعًا الماكينات الأضخم كان صوتُها أقوى مِن سابقتها، ووجدتُّنى أسعد بذلك، وضاع تذمُّرى؛ ربَّما لأنِّى وجدتُ فى الصوتِ الأعلى الجديد مُتنفَّسًا يُناسب علوّ صوتى أنا الآخر، ومِن ثَمَّ.. ارتفاع بَوْحِى!.