السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

منى الشيمى تكتب: ما حدث بالخارج

حرف

انزلق رتاج الباب إلى مكانه بعد أن صَفَعَتَه بقوةِ وخَرَجَتْ. سمعتُ دقات خطواتها على السلم تبتعد تدريجيًّا. سحبتُ نفسًا عميقًا ووقفتُ قرب النافذة أرقب عبورها بين الأشجار العارية فى الممر. أوراق الشجر الجافة تملأ أرضيته حتى المدخل، والشجر ينتصب عاريًا فى مواجهةِ الريحِ الباردةِ، والضباب يحجب الرؤية بعد مسافة قصيرة. 

سألتنى قبل خروجها: «لماذا تصر على أن أذهب وحدى»؟ 

تركـتُ سؤالها من دون إجابة، فغادرت غاضبة، وتركتنى واقفًا ابتلع غصتى. 

يجب أن تذهب بمفردها إلى لقائه. عليها أن تعتاد الظهور بدونى. بهذه الطريقة فقط سيسقط خجلها، وقد تشجعه إذا كان يروقها. قالت مرة إنه وسيم، وضبطتها كثيرًا تنظر إليه بإعجاب، وهو يفضل المرأة العربية على الأجنبيات كما ردد أمامى كثيرًا، لكن وجودى بينهما يحول دون تطور العلاقة. لا تنسى أبدًا أنها زوجتى، ولا ينسى أنها زوجة صديقه، لكنها ستنصاع إلى احتياجاتها كأنثى إذا وجدت الفرصة سانحة.. 

قالت مرة: «الرجل الذى يعتقد أن المرأة قد تضحى باحتياجاتها من أجل الوفاء للزوج لابد مغفل».. 

وقال كثيرًا: «خير العلاقات: علاقة مختلسة، فيها الزوجةُ تخونُ زوجَها، والرجلُ يخونُ صديقَه مع زوجته».. فى غيابى؛ سينسى أنها زوجتى. وسيرجحُ متعتَه على الوفاء لى. سأعتبرُ وفاءه ساريًا. لن أظهر أى استرابة. أنا من دفعتها إليه. منذ شهور أخطط لهذا السيناريو. سيبدو الأمر كما لو كان عفويًّا.. 

قال منذ فترة: «أنا بحاجة إلى امرأة تساعدنى نصف الوقت فى مكتبى».. 

لم تعرف أنى وراء إرسال الخطابات، التى كانت سببًا فى فصلها من مكتب المراقبة الاجتماعية للمراهقين الذى تعمل فيه. لم أكتب فى كل الخطابات سوى جملة واحدة: «الموظفة العربية التى تعمل عندكم إرهابية». كانت الموظفة العربية الوحيدة. لم يتأثر المسئولون فى البداية. ثم فُصلت دون إبداء الأسباب. اقترح بعض الأصدقاء فى سهرة نهاية الأسبوع عليه أن يستعين بها. رحب كثيرًا، واستشارنى فى الأمر. اندهشتُ، كأنى لم أتوقع العرض، ابتسمت مشجعًا، ولم أعلق سوى بـ«هى من يقرر هذا». 

ألقيتُ الكرة فى ملعبها وتركتُ لها حرية الاختيار. كان تصرُّفى جزءًا من الخطة. 

مضى ربع ساعة على خروجها. مازال عطرها شالًا يهفهف حولى. منذ التقيتها فى السفارة، كانت تستعد للسفر فى الإجازة الصيفية، وكنتُ أقضى بعض الأمور. نظرة واحدة كانت كافية. التقينا مرات بعد عودتها. من السهل أن تعرف عنوان امرأة تبادلك الإعجاب السرى ذاته، وترغب فى أن تطوى المسافة بينكما، أن تعرف رقم هاتفها وميعاد تناول قهوتها ومكانها المفضل. من السهل أن تقبلَ الزواج تحت وطأة ظروف صعبة، توافق سريعًا على كل شىء. حتى قبولها الإقامة فى شقة نائية وصغيرة، تتحول بكتبى وأوراقى وأقلامى إلى فوضى عارمة. 

نظرات إعجابها فى هذه المرحلة كانت تحيطنى بهالة من الضوء. اهتمامها قيمة مضافة إلى رجولتى. تستعجل الوقت إذا دعانا صديق إلى سهرة، تهمس: «البقاء وحدنا أجمل». تؤكد علىّ أن أعود مبكرًا إذا توجهتُ إلى ندوةِ بدونِها: «كيف تترك زوجتك الحامل وحيدة؟» تواجهنى بدلال عند عودتى. ترى فى أفعال ابننا امتدادًا لأفعالى، تقارب أنفه إلى أنفى، وطريقة مشيته إلى طريقة مشيتى.. «يجب أن يسجل الرجل مؤشرات فحولته كل حين»؛ تمتمتُ مغادرًا مكانى خلف النافذة. مرت ربع ساعة أخرى. سحبتُ سيجارة وأشعلتها. كانت فحولتى تنعكس عليها، تصفف شعرها كل صباح، وتهتم بهندامِها دومًا، تسكب قطرات عطرها على عنقها، تلمع عيناها كلما التقت بعينى. ستصل عنده بعد قليل. اتصل بها ليلة أمس، وقال: «الأوراق تراكمت وبحاجة إلى ترتيب.. يلزمنا وقتُ إضافى». 

لا يعرف أن حيلته مفضوحة أمامى. جاءتنى بعد قليل مترددة: «لا أريد العمل معه». نظرت فى الجهة الأخرى، ولم أعقب. كان الصغيران يلعبان بقطع المكعبات. يرصانها ويعيدان فكها من جديد. أعادت جملتها من جديد: «لا أريد العمل معه». نظرت إليها حاسمًا وقلت: «انتظرى حتى تجدى عملًا آخر». 

لا تريد ترك العمل معه. أعرف كيف تفكر. لكنها تريد مبررًا. تريد دافعًا تستند عليه لتُقدم على ما تمنت حدوثه. عدلّت طلبها: «تعال معى.. تسامرا معًا بينما أقوم بالعمل. لا يستقبل المكتب العملاء ليلًا». 

رفضتُ بتحريك رأسى يمينًا ويسارًا، وادعيتُ الانغماس فى ما أفعله. أفسحتُ لها طريقًا وتركتها. حتما أصطحبها فى حلمِها قبل أن تنام، واستيقظت على همسته قرب أذنها فى الصباح، وألحت احتياجاتُها فبكت وحدتها قبل أن تنزع نفسها من السرير. خيالاتُها جزءُ من حياتى، لا يجب أن أضعَ رأسى فى الرمال بعد الآن. 

بدأ الاكتشاف مصادفة. اصَطَحَبتْ الصغيرين لتقضى وقتًا مع صديقتها. فصل اللابتوب، لم أجد الشاحن حولى. فتحتُ درج مكتبها بحثًا عنه، تضع الأشياء فى غير أماكنها مؤخرًا. استلفت انتباهى «نوت» مذكراتها بغلافه الأسود. 

لماذا نكتب دومًا كلمة «مذكرات» على أسرارنا؟ نكثف لدى الآخرين الفضول، وندفعهم ليقدموا على تصرفٍ يسوؤهم إذا فعله أحدُ ضدهم. «أنا وحيدة»؛ عنوان صارخ. استنفر انتباهى. كيف لم ألحظ التبدل الذى طرأ على حياتنا؟ هل صورت لى ذكورتى أن شيئًا لن يتغير!. سار الأمر تدريجيًّا بطيئًا وغير ملحوظ حتى لى، لكنى أستحضره كله الآن: دخولها مبكرًا للنوم، صمتها الدائم، ونظرة العتاب العميقة. اعتبرتُ وجود الصغيرين بديلًا عن احتياجاتها. ألا تكفى الأمومة لتعيشَ المرأة سعيدة؟. 

التهمتُ باقى السطور فى زمن غير محدد. الزمن مطاطى يطول ويقصر مع الحالة. هى وحيدة منذ أن سقط نجمى. جيد استخدامها للمجاز.. لا تريد أن تجرحنى.. لا تريد أن تقول إنى صرتُ عاجزًا؛ «أشعر باحتياج طاغ.. أفتقد الإحساس بالاحتكاك.. وبالدفء».. 

لا مفر يا حبيبتى. أفتقد مثلك هذه الأحاسيس، لكن القبلة تفضى إلى العناق، والعناق يؤجج مشاعرنا، وعند حافة الجرف لا أقفز. أقف عاجزًا ولا أقدر. «حافة الجرف!». ها أنا استخدم المجاز مثلك للتعبير عن حالتى. كنتُ أعتقد أن حياة أسرية مستقرة بدون إشباع حسى تساوى حياة سعيدة. كيف استنتجتُ هذا؟ لماذا فسرتُ الأمر لصالحى؟ وضعتُ غطاءً أسودَ على الأشياء وخمنتُ ما الذى يكون تحتها. 

فضفضتك أججت بداخلى الرغبة فى إعادة المحاولة. لكن محاولاتى الفاشلة السابقة أعادتنى إلى حالة الانسحاب. مرت ساعة ونصف الساعة منذ خروجك. أعرف نقطة البدء، والحالة التى ستحتاجين فيها إلى المزيد، والوقت الذى سيبدأ فيه عجزى يربكنى، سأشعر به ثقلًا جاثمًا على صدرى، بقعة سوداء تقترب، سأكره وجودك فى هذه اللحظة، سأدفعك بقوة فى صدرك، وأدعى أن هواء الغرفة بحاجة إلى تجديد، وربما سأسحب المعطف من مكانه، أرتديه على عجل وأخرج لاستنشاق الهواء. عند عودتى لن أجدك، ستنامين مبكرًا فى حجرة الولدين، وستستيقظين صباحًا مدعية أن شيئًا لم يكن. تقومين بمسح الطاولة التى قمتِ بمسحها منذ دقائق، وتفرغين السلة الفارغة. تتقابل وجوهنا لكن عيوننا لا تلتقى. تصافح كل الموجودات ولا تستقر على شىء. ما قرأته عن مشاعرك أضاف همًا جديدًا إلى همومى. آآآآآه.. سامحينى لم أفكر سوى بنفسى. 

لماذا نبقى هكذا؟ باستطاعتك الانفصال. سأحمل حقيبتى وأختفى. أستطيع اقتسام راتبى معكم. تستطيعين تدبير أمرك بمفردك، باستطاعتنا الافتراق كصديقين. ليتنى أستطيع أن أعرض عليك الحل الذى توصلت إليه، لكن الصغيرين مازالا بحاجةِ إلىّ، لا.. أنا بحاجةِ أشد إليهما؛ «باستطاعتى رؤيتهما كل حين» عبارة لم أنطق بها. لم أستطع مواجهة نفسى ومواجهتك بها: «نحن موظفان لخدمة هذين الولدين الآن. بالمقابل هما يمنحاننا شعورًا رائعًا». 

كيف استطعتُ تنفيذ ما فكرتُ فيه؟. لا يهم، الأوضاع بخير طالما بقى الأمر سرًا، لا يعلمه أحد. لا يصبح الحدث واقعًا إلا بعلم الآخرين به. مرت ساعتان ونصف الساعة، قالت: «سأغيب ثلاث ساعات». يجب أن أنشغل بشىء كى لا يصيبنى الجنون، سأعد عشاءً للصغيرين، وأشاهد نشرة الأخبار. سأتفقد «نوت» يومياتها، علّها أضافت جديدًا. لن ألحظ آثار يديه على كتفيها، وبقايا عطره بين طيات شعرها، سأتجاهل السؤال المعتاد: «هل كان وقتك جيدًا؟». سأتركها تنتشى بما حدث معه معتقدة غفلتى الكاملة. سأكتب قصة عما حدث، لن أغفل ذكر التفاصيل التى تخيلتها عن كيفية اللقاء. ما قمتُ بتخمينه جزءُ من القصة أيضا. تمتمتُ: «الكتابةُ مقاومة للواقع». لا أذكر قائل العبارة. لا يهم. سأجهزُ شايًا وأدخلُ غرفتَى قبل وصولها بثوان.