الإسلام والعقلانية
يميل كثير من الكتاب المعاصرين للتقليل من أثر وقيمة الدين فى الحياة الحديثة، ويؤثرون بالأولوية قضايا مثل «التكنولوجيا» و«الفنون» و«السياسات الدولية والداخلية» و«المشاكل الاقتصادية والمادية»، فهذا هو ما يدور عليه المجتمع وما يشغل حياة الناس وحاضرهم ومستقبلهم.. أما الدين فيأتى بعد هذا كله، ومن باب «جبر الخواطر» أو باعتباره ممثلًا التراث ورمزه الخاص، الذى كان مجيدًا فى إحدى الفترات. وإذا كان بعض الكتاب «يميلون» هذا الميل تأثرًا منهم بالثقافة الأوروبية، فالحقيقة أن هناك آخرين وجدوا أنفسهم وهم يقفون هذا الموقف، لا عن ميل أو اختيار، ولكن بحكم التيار الكاسح، والسياق المحموم للحياة الحديثة التى لم تدع لهم مندوحة.. إن التقدم التكنولوجى فى الصناعة وتعقد الحياة الحديثة ومطالبها المادية والمستجدات فيها من إرسال تليفزيونى، وتزايد المطالب عن الإمكانات، وتفتح وسائل عديدة للاستمتاع ولإرواء ما تشتهيه الأنفس، كل هذا لم يترك لأى شىء آخر، بما فى ذلك الدين، إلا وقتًا ضئيلًا، واهتمامًا هامشيًا.
إن أسوأ ما اصطحب بهذه الظاهرة الزعم أن الدين لا مكان له فيها؛ لأن الدين هو، على سبيل التعيين، الوحيد الذى يمكن أن يجابه مشكلة الانطلاق غير المحدود للحياة الحديثة، فيفل غربها ويكبح جماحها. إنه وحده الترياق الذى يمكن أن يشفى المجتمع الحديث، برجوازيًا واشتراكيًا من دائه العضال. وأى محاولة للإصلاح عن غير طريقه. ستكون من نوع وداونى بالتى كانت هى الداء، لا يمكن أن تفى بالمطلوب، فبالإضافة إلى أنها ليست وقائية، فإن مدى كفايتها فى العلاج مشكوك فيه، وهى تعجز عن أن توقف فسوق الحضارة الحديثة وغلواءها وانطلاقها حتى تبلغ شفا الهاوية.
فالنظر نظرة عقلانية، يتطلب تدخل الدين؛ لأنه لا يمكن العلاج علاجًا حاسمًا دونه.. وهو كلام يصدق على المجتمع الغربى، كما يصدق على المجتمع الشرقى، مع أهمية خاصة يكتسبها فى المجتمع العربى؛ نتيجة لتأصل الدين وتغلغله فى أعماق هذا المجتمع، من الديانة المصرية القديمة حتى الإسلام، بحيث نجد رجلًا مثل طه حسين لا يمكن القول إنه من أنصار الدين بوجه خاص، بل إنه بطل أبطال التنوير كما يقولون، يرفض الرأسمالية والاشتراكية، ويتحدث عن المذهبين الرأسمالى، الذى يقول أصحابه إنه يقوم على أساس الاحترام الكامل للحرية، والشيوعى الذى يقول أصحابه إنه يستهدف قيام العدل وصيانته، فلا يرضى بالمذهبين الأول والثانى، وإنما يقول إذا أمكن أن ينشأ مذهب ثالث بين هذين المذهبين يوائم بين الحرية والعدل من جهة، وبين الدين من جهة أخرى، ويتخذ من الدين أساسًا لحياة إنسانية جديدة ترتفع فوق المادة، وترقى إلى المثل العليا، وتؤمن بأن الانسان قوة لا تستطيع أن تحيا ولا أن تثمر، ولا تنتج للإنسان حظه من الرقى إلا إذا اتصلت بمصدرها القدسى الأول عن طريق الإيمان والثقة والأمل، أقول إذا أمكن أن ينشأ هذا المذهب كان فى نشوئه الخير كل الخير؛ لأنه يعصم الإنسان من المادية الجامحة.. ويكفل له فى الوقت نفسه نصيبًا معتدلًا من الحرية، ويتيح له فى الوقت نفسه سعيًا متصلًا لتحقيق العدل فى الأرض.
هذه كلمة كان لابد أن نشير إليها أولًا، لكى نضع الدين موضعه، ونأخذ أمره مأخذًا جادًا ونؤمن بمنزلته فى المجتمع، فإذا سلمنا بذلك، فلابد أن نتطرق إلى موضوع هذا الكتاب، ألا وهو موقف الإسلام من العقلانية وتأييده النظر العقلى الذى لا تقوم الحياة الرشيدة إلا عليه، والذى لعله هو الذى عناه عندما أطلق على ما قبله عصر الجاهلية، وعندما استهدف أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد عنى الكتاب بتفنيد تلك القالة الظالمة: دعوى مخالفة الإسلام للعقلانية، وأن من الخير إبعاده عن كل شئون الدنيا، وقصره على العبادة، وصلة الفرد بالله، وحصره فى المسجد. وقد بين الكتاب أن هذه الفكرة إنما جاءت من موقف الكنيسة الأوروبية من النزعة العلمية التى ظهرت فيها، وأنه قد يكون لها ما يبررها من هذا الإرث القديم، أو حتى من طبيعة المسيحية نفسها. التى ترى أن مهمتها هى تخليص الروح، ولكن ليس لها ما يبررها بالنسبة للإسلام، إلا تأثر لفيف من المفكرين الإسلاميين بالحضارة الأوروبية تأثرًا ملك ألبابهم، وغلب على ملكة النقد والتمييز فيهم.
ولكى يعرض الكتاب كل أبعاد القضية، فإنه عالج جوانب مثل الموقف ما بين النقل والعقل وأثر القلوب التى جعلها القرآن أوعية الإيمان على العقلانية. ثم جابه القضايا الأربع التى تطرحها العقلانية على الأديان، ألا وهى وجود الله تعالى وتنزيهه، وخلود الروح بعد الموت والحساب: ثوابًا أو عقابًا فى الدار الآخرة فى جنة أو نار، وأخيرًا النبوات ودور الوحى فيها. فناقشها مناقشة مستفيضة دون أن يسمح للجزئيات بأن تحجب الكليات واستشهد بآراء المفكرين والعلماء الأوروبيين قاصدًا بذلك أن يقنع بعض الذين لا يقتنعون إلا بما يصدره الغرب. وأخيرًا فإنه يعرض خصائص ومقومات العقلانية الإسلامية، ألا وهى:
(أ) إعمال الفكر سبيل الإيمان.
(ب) الموضوعية والسنن.
(جـ) الخيرية والصلاح.
***
ولا يعنينا فى هذه المقدمة أن نعرض لأبواب وفصول الكتاب، فهذا أمر يطول، وهو بعد بين دفتى الكتاب يمكن للقارئ أن يلم بها بتصفحه، ولكن ما يعنينا هنا هو أن نشير إلى تساؤل نعلم أنه سيخطر لمعظم القراء. إن الكتاب بأسلوبه وطريقة معالجته يختلف عن الطريقة التقليدية الاتباعية، وعن الأسلوب الذى مرّن الإسلاميون عليه، وألفوه، وهو شىء يضيق به هؤلاء القراء الأعزاء من ناحية الفهم، ومن ناحية المزاج، ولعلهم كانوا يؤثرون أن يكون ككل الكتب التقليدية التى تزخر بها المكتبة الإسلامية، لهؤلاء نقول: كفى اجترارًا وكفى عكوفًا على ما كتبه الأقدمون. فإن الأقدمين لم يحيطوا بما يكتنف الحياة والعصر، وما قيمة كتاب لا يأتى بجديد يضاف إلى بقية الكتب، لقد آن للإسلاميين أن يتخلصوا من هذه العادة، وأن يشكروا من يساعدهم على ذلك بدلًا من أن يضيقوا به. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، ولكنها الحقيقة التى لا يجوز التفريط فيها وتجاهلها.
ولعلى لم أكن سعيدًا بوجه خاص بتعبير العقلانية، ولكن اللفظ اكتسب شهرة، وأصبحت له دلالة اصطلاحية هى التى نعنيها، فتعين الأخذ به. والألفاظ بعد: خدم للمعانى وبقدر ما تؤدى المعنى، بقدر ما يفترض الأخذ بها، لأن الأخذ بغيرها سيكون على حساب المعنى المنشود.
وأخيرًا فلعل أفضل ما نختم به هذه المقدمة الموجزة عن الإسلام والعقلانية: هى تلك الآية التى رفعت العلم عاليًا عندما جعلته المنة الإلهية العظمى:
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) «١٦٤ آل عمران».