هذه «أم كلثوم».. مقتطفات من كتاب عن كوكب الشرق موجّه لليافعين
عندما صدر منذ سنتين كتاب «أم كلثوم.. سنوات المجهود الحربى» للكاتب كريم جمال، كنت من زمرة المهللين والمبتهجين بهذا الكتاب الجامع لحالة وطنية استثنائية مثلتها سيدة فى السبعين من عمرها للوقوف جوار وطنها فى لحظة انكسار قومية مفاجئة تمثلت فى نكسة ٦٧، بالتأكيد تحدث الكثيرون عن دور أم كلثوم المبهر فى تلك السنوات الثقال التى تلت الهزيمة، لكن هذا الكتاب ميزته الأهم بالنسبة لى كانت التقاط كل تفاصيل الملحمة الكلثومية التى افترشت صفحات الجرائد والمجلات وزخرت بها الشهادات الحية لمن عاصروا أو شاركوا فيها.. ثم جمعها فى مكان واحد حتى لا ينفلت أى منها فى فضاء الزحام المعرفى لتلك الفترة الخصيبة من عمر الوطن.
لكن لا أخفى شعورى بالإحباط وأنا أعرض على ابنى اللذين ما زالا يلعبان فى النصف الأول من عقدهما الثانى بين الـ١١ والـ١٦ عامًا- قراءة هذا الكتاب الضخم مرصعًا بحكايات أحاول أن أجعلها بسيطة عن أم كلثوم- وهما لا يستسيغان أغانيها للأسف- تلك السيدة التى استطاعت أن تخرج من أشد قرى الريف فقرًا وتواضعًا، وهى «طماى الزهايرة» إلى أن تربعت على قمة لم ولن يجرؤ أحد على الاقتراب منها.. لكنى للأسف اصطدمت بحقيقة قاسية، أن هذا الجيل يصعب عليه هضم مثل تلك المدخلات، خاصة لو كان كتابًا بكل هذا الزخم المعلوماتى الهائل.
ثم هالنى فى الحقيقة فرضية مخيفة تتلاعب أمامى يتبعها تساؤل، هل سيرة أم كلثوم معرضة لأن تصير مع الوقت فى ذهن الأجيال القادمة حكاية باهتة مملة، وتتطاير تفاصيل أسطورتها رويدًا رويدًا، مع تضائل قيمة الكتاب كمنتج أمام هجمات الريلز والفيديوهات القصيرة المعلبة سريعة التحضير؟
مجرد التفكير فى الإجابة مرعب لأب مثلى.. لذلك أصابنى الفرح بالكتاب الجديد الذى أصدرته «دار تنمية» لنفس الكاتب عن أم كلثوم يحكى قصتها بأسلوب آخر موجه بالأساس للأطفال واليافعين " فى سن أبنائى " وبشكل إخراجى جميل قائم على رسوم إبداعية بريشة شابة أخرى تماثل «كريم» على ما يبدو فى السن اسمها سحر عبدالله، أضفت على حكاية أم كلثوم بشكلها الجديد روحًا حلوة قربتها من نفوس أجيال قد لا تدرك قيمة انتمائها لنفس الوطن الذى تنتمى له تلك السيدة بالغة العظمة.
.. هيا بنا نقرأ بعض مقتطفات من ذلك الكتاب البديع.
1
كان الشيخ إبراهيم البلتاجى مؤذن مسجد قرية «طماى الزهايرة» بين اليقظة والنوم حين سمع طرقًا خفيفًا على باب المسجد. فى البداية اعتقد أن مصدر الصوت أطفال القرية الذين يطوفون فى شوارعها الضيقة، حاملين فوانيسهم، مرددين أغانى رمضان البهيج احتفالًا بليلة القدر، لكن سرعان ما خاب ظنه وعلا الدق على باب المسجد، فأفاق الشيخ من نومه مستعيذًا بالله من الشيطان، وخطا نحو الباب بخطوات ثقيلة، فوجد أمامه ابنه الصغير خالدًا، يقول له فرحًا:
- يا آبا.. يا آبا أمى ولدت!
أغلق الشيخ إبراهيم باب المسجد، وأسرع إلى البيت، وطوال الطريق كان يحكى لخالد الصغير ما رآه فى غفوته القصيرة فى المسجد، فقد رأى سيدة يشع وجهها نورًا، تعطيه لفافة خضراء، وتخبره أنها جوهرة وبُشرى من السماء، وعندما سألها الشيخ من تكون، قالت له: «أنا أم كلثوم بنت النبى محمد صلى الله عليه وسلم» لم يفهم خالد ما قاله والده.
وما إن عاد إلى البيت، حتى وجد الأب المولودة الصغيرة ملفوفة فى غطاء أخضر تنام بجوار أمها. وعندما سألته نسوة القرية:
- ماذا نسميها؟
أجابهن الشيخ بكل ثقة وإيمان:
- نسميها على اسم بنت النبى.. أم كلثوم!
2
فى جلسة صيفية، وبينما الشيخ إبراهيم جالس فوق سطح منزله الريفى البسيط، يفكر فى ضيق ذات اليد وصعوبة تحفيظ خالد الصغير الأناشيد، تناهى إلى سمعه صوت طفولى جميل، لكنه قوى، ينشد توشيحًا دينيًا بإحساس ودقة كبيرين، فذهل الأب فى البداية مما سمع، ونزل سريعًا إلى ساحة الدار بحثًا عن مصدر الصوت، وعندما سأل زوجته، أخبرته أنها ابنته أم كلثوم، فتعجب الشيخ إبراهيم قائلًا: - والله البت صوتها حلو يا فاطمة.. هى فين؟
3
وفى طريقهما إلى كُتاب القرية، كانت تطلب من أخيها الشيخ خالد أن يرافقها إلى بيت العمدة، حتى إذا بلغت دواره، سألت ابنة العمدة تدوير «الفونوغراف» الوحيد فى القرية، لتسمع أسطوانات الشيخ محمدأبوالعلا محمد وهو يغنى: «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا» أو قصيدة «أراك عصى الدمع».. وتُنصت أم كلثوم لذلك الصوت الجميل. وفى طريق عودتها للبيت، تُكرر ما سمعته فى بيت العمدة، حتى تُقلده فى سهرات إنشادها مع والديها. ومن قرية «طماى الزهايرة» طار صيت الطفلة الصغيرة، وتهافت عليها متعهدو حفلات وموالد القرى المجاورة.
4
وفى ليلة مقمرة وبينما أم كلثوم تقف مع والدها على محطة قطار «السنبلاوين» تغنى قصيدة للشيخ أبوالعلا محمد، نبه ناظر المحطة الشيخ إبراهيم أن الشيخ أبوالعلا موجود فى حجرته، ويريد أن يرى ابنته المطربة الواعدة.
لم تصدق أم كلثوم نفسها، وطلبت من الشيخ أبوالعلا أن يرافقهما إلى دارهما.
وهناك، وبعد أن سمع الشيخ صوت الفتاة الصغيرة، طلب بشكل قاطع من والدها ترك القرية والاستقرار فى القاهرة، لكى لا تضيع موهبة ابنته، خصوصًا بعدما كونت أم كلثوم فى ظرف سنوات قليلة شهرة واسعة فى قرى الدلتا ومديرياتها.
5
وفى الوقت ذاته الذى عادت فيه أم كلثوم من رحلة علاجية طويلة فى لندن، علت صيحات المصريين فى الشوارع بعدما عبر الجيش المصرى قناة السويس، وحطم خط بارليف المنيع يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣.
لم تصدق أم كلثوم ما سمعت، فأدارت مؤشر الراديو، واستمعت إلى بيان القوات المسلحة المصرية، ولم تشعر بنفسها إلا وهى تبكى شكرًا لله على أن قد منحها تلك اللحظة التاريخية، وامتد بها العمر لتشهد نصر مصر. حاولت أن تقاوم مرضها، وتخرج من عزلتها لتغنى للجنود على الجبهة، لكن الأطباء منعوها، وحذروها من تدهور حالتها الصحية.
وفى كل يوم كانت الصحف تنشر أخبار مرضها، فتتجه الجماهير التى أحبتها للبقاء بجوار فيلتها، لعلهم يطمئنون على مطربتهم الكبيرة.
ولكن فى مساء ٣ فبراير ١٩٧٥ خرج وزير الثقافة المصرى يوسف السباعى بصوت تملأه الدموع ليذيع خبر وفاة أم كلثوم، معلنًا أنها ستعيش فى ضمير مصر وقلب الأمة العربية إلى الأبد.