أبو الفدائيين مصطفى حافظ.. قصة المصرى الذى أسس المقاومة الفلسطينية
- عندما مات قال عنه جمال عبدالناصر «استشهد أعز الناس».. ووصفه بـ«قائد جيش فلسطين»
- ضابط مصرى برتبة «بكباشى» حصل على ألقاب «الشبح» و«الرجل الظل» و«صاحب الأعصاب الفولاذية»
لا تتوقف المزايدات على مصر أبدًا.. سلمًا وحربًا.. وكالعادة القضية الفلسطينية ورقة رابحة فى المزايدة.. وكل من يرغب فى التكسب لا تغيب فلسطين عن لسانه!
لكن ينسى المزايدون دومًا ما قدمته مصر للقضية، وما زالت تفعل، قاتلنا بالسلاح حين كان هذا هو السبيل، وقاتلنا ونقاتل بالدبلوماسية والمواقف و«الإسناد» حين اخترنا النضال بطريقة أخرى.
غير أن ألسنة ما تسمى «جبهة المقاومة» لا تفهم، ولا تريد أن تفعل، ومرة أخرى تعود لتهاجم وتلوث صورة مصر، مع أننا نحن من وضعنا اللبنة الأولى فى جدار المقاومة أصلًا!
وليست فى هذا مبالغة أو تفاخر بما لم يحدث.. بل توصيف دقيق لما حدث بالضبط.
هنا نعود إلى قصة بطل مصرى عربى خالص.. اسمه مصطفى حافظ.. وهو الأب المؤسس والقائد الأول للمقاومة الفلسطينية، وشهيدها الأعظم على الإطلاق.. فقد قضى سنوات مقاومًا بالسلاح للصهيونية حتى استُشهد على أرض غزة فى عملية اغتيال صهيونية غادرة.
تعالوا لنعرف معًا قصة «المصرى» أبو الفدائيين الفلسطينيين.
من هنا ابتدت الحكاية
مصطفى حافظ، المولود فى ٢٥ ديسمبر ١٩٢٠، بإحدى قرى محافظة المنوفية، حصل على الشهادة الابتدائية فى عام ١٩٣٤، ثم التحق بـ«مدرسة فؤاد الثانوية» (الحسينية حاليًا)، وخلال هذه الفترة بدأت معالم شخصيته تظهر فى وضوح وجلاء ورجولة مبكرة وخلق، حتى إنه اشترك فى المظاهرات الضخمة التى كانت تخرج من مدرسة فؤاد واستمع قلبه فى وعى إلى هتافات الحرية وإلى بشاعة كلمة الاستعمار، كما عرف دور الاستعمار فى عرقلة تقدم الأمة العربية كلها.
وبعد حصوله على البكالوريا (الثانوية العامة) فى عام ١٩٣٨ التحق بالكلية الحربية، وقد اشتهر خلال فترة دراسته بالكلية بأنه «ذو الأعصاب الحديدية»، قبل أن يتخرج فى عام ١٩٤٠ ويعين ملازمًا بسلاح الفرسان فى ٧ سبتمبر ١٩٤٠، حيث بدأت شخصيته المميزة تفرض نفسها فى كل مكان يتواجد فيه، وتمر السنوات حتى ينتدب لسلاح الحدود برتبة «ملازم أول»، ثم عُين حاكمًا لبلدة «بيت جبريل» حتى عام ١٩٤٩، ثم حاكمًا لرفح جنوب قطاع غزة، بعدها نُقل إلى محافظة البحر الأحمر مأمورًا للغردقة، وظل فى سلاح الحدود حتى ١٣ أكتوبر ١٩٥١، ثم صدر قرار بنقله إلى إدارة مخابرات فلسطين فى ١٥ نوفمبر ١٩٥١، وأُسندت إليه مهمة قيادة مكتب غزة.
وفى هذه الفترة كان مصطفى حافظ على علاقة بالضباط الأحرار وجمال عبدالناصر، فضلًا عن سمعته التى كانت تملأ أجواء الجيش، بوصفه ليس مجرد ضابط محترف، لكنه خبير بالبشر والسياسة، وفى رفح وغزة، استطاع أن يضيف إلى دراساته الميدانية والعسكرية خبرات، صقلتها إمكاناته الشخصية وقدرته غير المحدودة على إقامة علاقات مع البشر وفهمهم.
وجاءت الثورة وهو فى موضوعه وكان الوضع فى فلسطين كما هو عليه بعد نكبة ٤٨.. اليهود استولوا على أرض وأقاموا دولتهم والفلسطينيون إما نازحون داخل بلدهم أو مغادرون بالإجبار وبلا عودة!
ووقتها كان قطاع غزة هو الملجأ، لتواجد القوات المصرية فيه، وعدم وصول المعارك إليه، ووصلت أعداد اللاجئين المتدفقين إلى القطاع أواخر ١٩٤٨ إلى ١٨٤ ألف لاجئ، وبقى خط وقف إطلاق النار الذى اتفق عليه عقب اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل، والذى بات يفصل غزة عن بقية أرض فلسطين، مصدرًا دائمًا للتوتر. فرغم اعترافات إسرائيل بهذا الخط، إلا أنها قامت بعمليات عسكرية تحت ذريعة ملاحقة المتسللين.
لكن الجميع حافظ على الهدوء لسنوات حتى وقع هجوم فبراير ١٩٥٥ وانقلبت الأوضاع وبدأت معها أسطورة مصطفى حافظ.
الطريق إلى الكتيبة 141
فى ليلة ٢٦ فبراير ١٩٥٥ اجتازت قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلى، تقدر بنحو كتيبتين، خط الهدنة شرق مدينة غزة، وتوغلت نحو ما يزيد على ميلين داخل الأراضى الخاضعة للسيطرة المصرية، فهاجمت معسكرًا مصريًّا، وبيت ناظر محطة السكة الحديد، وبناءً عسكريًّا حجريًّا، وأربعة أكواخ للمراقبة العسكرية، وأوقعت بشاحنة عسكرية كانت تقل ضابطًا مصريًّا وأربعة وثلاثين جنديًّا، أقبلوا من الجنوب لنصرة الحامية المصرية بعد سماعهم إطلاق النار.
وفى نهاية المعركة بلغت الخسائر الإسرائيلية ثمانية قتلى، وثمانية جرحى، وقُتل من الجانب العربى ثمانية وثلاثون قتيلًا بينهم طفل فى السابعة.
لكن ما جرى بعدها كان الأخطر، فقد اختار جمال عبدالناصر المواجهة، وقال بوضوح: «لم تعد لدينا وسيلة لمواجهة إسرائيل، سوى اللغة التى تفهمها، وهى لغة القوة، وأحسن طريقة لمواجهتها هى شن حرب عصابات ضدها».
أما قيادة هذه الحرب فكانت لبطل حكايتنا.
عندما أرسل مصطفى حافظ إلى قطاع غزة أدرك أن الحرب التقليدية لن تكون كافية لكبح التوسع الصهيونى، فعمل على تكوين مجموعة فدائية تحت مسمى «الكتيبة ١٤١»، وكانت هذه الكتيبة تعتمد على حرب العصابات وتكتيكات الضربات السريعة والمفاجئة، بهدف إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر فى صفوف القوات الإسرائيلية.
وكانت «الكتيبة ١٤١» من أوائل المجموعات الفدائية المنظمة، وتميزت بإدارتها الاحترافية وتقنياتها المتطورة فى تلك الفترة، وعمل مصطفى حافظ بجهد كبير على تجنيد شباب فلسطينيين ومصريين، ودربهم على أساليب قتالية وتكتيكات التخفى التى تُمكنهم من تنفيذ عمليات دقيقة ومنسقة.
وقد ابتكر استراتيجيات عسكرية غير تقليدية، مستوحاة من خبراته وتجاربه كضابط فى الجيش، فدرب فرق المقاومة على الاستفادة من التضاريس الطبيعية لقطاع غزة، وعلى تنفيذ عمليات خاطفة ومحددة الهدف، وأسس قاعدة تنظيمية قوية، حيث وزع أفراد الكتيبة إلى مجموعات صغيرة، ما زاد من صعوبة تتبعهم من قِبل الإسرائيليين.
وبالطبع لم ينس تطوير شبكات استخباراتية صغيرة وفعّالة، لجمع المعلومات اللازمة لعمليات الكتيبة.
وقد بدأ العمل الفعلى لهذه المجموعات العسكرية فى أغسطس ١٩٥٥، حيث تم تقسيم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق للنشاط الفدائى الفلسطينى: المنطقة الشمالية وضمت مدينة غزة والقرى المحيطة بها، والمنطقة الوسطى وشملت مدينة خان يونس ودير البلح، والمنطقة الجنوبية وشملت رفح وجنوبها.
وانطلقت الموجة الأولى بأول عملية عسكرية فى ٢٢ أغسطس ١٩٥٥، وتميزت بكونها عمليات محدودة لمجموعات صغيرة لا تتجاوز أربعة أشخاص، تقوم بتنفيذ عمليات معينة ثم تعود أدراجها إلى القطاع، وقد وصل عدد عمليات الموجة الأولى إلى ما يزيد على ١٨٠ عملية نفذت خلال الفترة الممتدة من ديسمبر ١٩٥٥م حتى مارس ١٩٥٦م، أى بمعدل عمليتين كل ليلة.
أما الموجة الثانية من العمليات فقد انطلقت فى الفترة بين ٨ أبريل ١٩٥٦ وأغسطس ١٩٥٦، وحدث تطور لنوعية العمليات العسكرية فى هذه الموجة، من حيث طبيعتها والعمق الذى وصلت إليه، حيث إنها وصلت إلى مسافة تبعد ١٨ كم من مطار اللد.
وجاءت الموجة الثالثة من العمليات على خلفية الهجوم الإسرائيلى على خان يونس ليلة ٣٠ أغسطس ١٩٥٦، فاستشهد ستة وثلاثون فدائيًا وخمسون جريحًا، وجاء رد فعل المقاومة عنيفًا، وكان أقرب ما يكون إلى حالة إعلان حرب، فقد أخذت شكل مجموعات كبيرة توغلت داخل الأرض المحتلة، ونفذت عمليات مختلفة، وقدر عدد الفدائيين الذين اجتازوا الحدود فى ليلة واحدة بـ٢٠٠ فدائى.
وكان «حافظ» حريصًا على اختيار أهدافه بعناية، مركّزًا على المواقع الحيوية مثل خطوط الإمداد والمواقع العسكرية الإسرائيلية، حيث كان الهجوم على هذه المواقع يُلحق أضرارًا استراتيجية تفوق الأضرار العسكرية المباشرة، واعتمد أيضًا على عنصر المفاجأة والتكتيكات المبتكرة.
وقد أثارت عمليات «الكتيبة ١٤١» الفزع فى صفوف الإسرائيليين، وكانت إحدى العمليات البارزة فى مسيرة الكتيبة هى تفجير قافلة إسرائيلية كبيرة عام ١٩٥٥، والتى قُتل فيها عدد كبير من الجنود الإسرائيليين، وأحدثت هذه العملية صدمة فى الداخل الإسرائيلى، ودفعت الحكومة الإسرائيلية إلى تكثيف جهودها لتصفية «الشبح».
«الشبح» الذى أرعب إسرائيل
بفضل مهاراته القيادية وتكتيكاته المتقنة، تحول مصطفى حافظ إلى رمز للرعب لدى الإسرائيليين، وأطلقت الصحف الإسرائيلية عليه لقب «الشبح»، بسبب صعوبة الوصول إليه رغم العمليات المكثفة لتعقبه، حيث باءت محاولات اغتياله بالفشل. ولكن، فى المقابل، لم يقتصر دوره على تنفيذ العمليات فقط، بل كان يهتم أيضًا بالجانب النفسى والتعبوى لمقاتليه، إذ كان يزرع فى نفوسهم العزيمة والشجاعة ويحثهم على التضحية.
كما عُرف عنه قربه من الشعب الفلسطينى، حيث كان يتعامل مع الناس فى قطاع غزة بحنان وقرب، ما زاد من شعبيته ومكانته كرمز للبطولة، ولم يقتصر تواصله مع الناس على الجانب العسكرى، بل كان يساعد الأهالى فى مقاومة الاحتلال بطرق مختلفة، ما جعله قائدًا شعبيًا بامتياز.
ولهذا كله كان لا بد من اغتياله بأى طريقة.
وفى صباح يوم ١٢ يوليو ١٩٥٦، نفذت إسرائيل عملية اغتيال مدبّرة بعناية ضد مصطفى حافظ. حيث جرى إرسال طرد مفخخ إليه، انفجر حين فتحه، ما أدى إلى استشهاده فى الحال، وقد أشرف موشيه ديان، رئيس الأركان الإسرائيلى آنذاك، شخصيًا على هذه العملية، كدلالة على الأهمية التى كانت إسرائيل توليها لاغتيال بطلنا.
ويقول مردخاى شارون، قائد الموساد الإسرائيلى سابقًا، إن اغتيال مصطفى حافظ من أهم العمليات التى شارك فيها، حيث يوضح: «عرفنا أنه يحب معرفة كل شىء بكل التفاصيل، وأن أحد شيوخ القبائل فى النقب يدعى عامر الطلالقة كان عميلًا مزدوجًا عمل لصالحنا، وفى نفس الوقت لصالح مصطفى حافظ والمخابرات المصرية، فقررنا أن نرسل من خلاله رسالة ملغومة إلى حافظ، وأوهم وفد من الاستخبارات الإسرائيلية الطلالقة بأنهم يريدون توصيل رسالة مهمة إلى قائد شرطة غزة لطفى العكاوى، واصطنع الإسرائيليون أنهم يسربون إلى الطلالقة أن العكاوى يعمل معهم بواسطة جهاز اتصال يعمل بالشفرة، ولأسباب أمنية ستتغير الشفرة، أما الشفرة الجديدة فستكون موجودة فى الكتاب الموجود فى الطرد المرسل إليه الذى سيكون مطلوبًا أن يحمله الطلالقة إلى مكان فى مقبرة بغزة، ومن هناك سيلتقطه عميل آخر لتوصيله إلى العكاوى... وكنا نعلم أن الطلالقة لن يبلغ حافظ بالرسالة وحسب، بل سيسلمها له يدًا بيد، وهذا ما حدث، وفتح الرسالة لتنفجر فى وجهه ووجه الطلالقة، ليصاب حافظ بإصابات بالغة توفى على إثرها فى اليوم التالى، وفقد الطلالقة عينيه».
وقد أثار خبر استشهاده موجة من الحزن والغضب بين الفلسطينيين والمصريين، واعتُبر فقدانه ضربة قوية للمقاومة، حتى إن «عبدالناصر» نعاه فى خطاب تأميم قناة السويس فى ميدان المنشية بالإسكندرية وقال: «من أيام قليلة مضت، استشهد واحد من أعز الناس لنا، مصطفى حافظ قائد جيش فلسطين وهو يؤدى واجبه من أجلكم ومن أجل العروبة، مصطفى حافظ الذى آل على نفسه أن يدرب جيش فلسطين، فهل سها عنه أعوان الاستعمار؟ هل سهت عنه إسرائيل صنيعة الاستعمار؟ أبدًا، ولكنهم هل يعتقدون بقتله لن يجدوا من يحل محله، سيجدون فى مصر كل واحد يحمل هذه المبادئ ويؤمن بها».
وما زالنا نؤمن بفلسطين وسنظل دومًا.